بقلم: د. حسين عبد البصير
الملكة أرسنوي الثانية
ها نحن نودع مصر الفرعونية وتراثها الحضارى المعشوق بولع فى العالم كله، وندخل، الآن، إلى مصر جديدة، حين تم إسدال الستار على مصر الفراعنة وحضارتها الباهرة، وحين تحولت مصر العظيمة إلى مملكة مستقلة يحكمها الغرباء!
بعد أن استولى الفاتح المقدونى الأشهر الإسكندر الأكبر على سوريا وفينيقيا وفلسطين، اتجه إلى مصر التى سلمها له الوالى الفارسى دون مقاومة. ومن ثم استقبله المصريون بالترحاب استقبال البطل المنقذ لهم من ظلم الفرس. وزار معبد الإله بتاح فى العاصمة المصرية الخالدة، منف فى الجيزة الحالية. وقدم القرابين للآلهة المصرية كى يكسب ود المصريين. ونصب نفسه فرعونا على مصر وفقا التقاليد الدينية المصرية العريقة. ووصل إلى شاطىء البحر، عند قرية راقودة، وحينها قرر بناء مدينة الإسكندرية كعاصمة لمصر. فانتقل عرش الحضارة (الإغريقية من أثينا التليدة) إلى مدينة الإسكندرية العالمية قديما وحديثا. وزار معبد الوحى الخاص بالإله آمون فى واحة سيوة فى صحراء مصر الغربية ليستمد الوحى من آمون عن مستقبله بصفته ابن لآمون الرب المصرى.
ومات الإسكندر الأكبر فجأة فى يونيو عام 323 قبل الميلاد فى بابل فى العراق القديم. وقُسمت إمبراطوريته بين قواده. وكانت مصر من نصيب بطلميوس بن لاجوس الذى أسس أسرة حاكمة جديدة، ودولة البطالمة فى مصر.
وكان بطلميوس حازما وواقعيا ونشيطا وذا عزيمة وإرادة قوية وقدرة كبيرة على التحمل والعمل. وحكم مصر منذ صيف عام 323 قبل الميلاد. ودفن جثمان الإسكندر الأكبر فى الإسكندرية. ومارس بطلميوس الأول الحكم فى مصر كملك مطلق السلطات واتخذ لقب الملك الإله ابن الإله مثل الملوك الفراعنة.
وعندما مات الملك بطلميوس الأول، تولى ابنه بطلميوس الثانى فيلادلفوس (285-246 ق.م.) الحكم بعد وفاة أبيه فى سن الشباب. وكان محبا لحياة النعيم والبذخ. ولم يقد جيشه وترك تلك المهمة لقواده على الرغم من كثرة الحروب التى خاضتها مصر فى عهده.
وكان عهده مثل عهد لويس الرابع عشر في فرنسا. وإذا كان بطلميوس الأول هو الذى أسس الدولة البطلمية، فإن بطلميوس الثانى هو الذى بنى الدولة. واهتم بمدينة الإسكندرية وزيّنها. وترجع أغلب مبانيها الكبرى إلى عهده. واهتم بجلب الشعراء والعلماء إلى دولته. وجعلهم أعضاء فى الموسيون والمكتبة التى أنشأها والده. ونمت مكتبة الإسكندرية نموا كبيرا فى عهده حتى صارت أكبر مكتبة فى العالم القديم كله.
وتزوج بطلميوس الثانى من الملكة أرسنوى الأولى، ابنة أحد قاة الإسكندر الأكبر. وأنجب منها ثلاثة ابناء، أحدهم كان ولى عهده وخليفته الملك بطلميوس الثالث إيورجتيس. ثم غضب على هذه الملكة وأبعدها عن القصر الملكى ونفاها؛ نتيجة وشاية كاذبة من زوجته التالية والمتآمرة، الملكة أرسنوى الثانية، واتهامها لها بخيانة بطلميوس الثانى والتآمر على حياته.
وعلى عكس الأعراف اليونانية واحياء للتقاليد المصرية العريقة بزواج الملك من أخته، تزوج الملك بطلميوس الثانى من شقيقته الثانية، وأرملة حماه، الملكة القوية أرسنوى الثانية. وكانت ابنة الملك بطلميوس الأول وزوجته الثانية الملكة بِرينيكى الأولى. وحملت من الألقاب الملكية ما يلى: «أخت الملك»، و»زوجة الملك الكبرى» و»أم الملك (رغم أنها لم تكن أم ولى عهد والملك التالى بطلميوس الثالث إيورجتيس)».
وكانت الملكة أرسنوى الثانية صاحبة شخصية قوية وذات طموح ليس له مثيل. وكان لها تأثير كبير على زوجها، وسياسته أثناء حياتها، وبعد مماتها. وكانت أشهر وأقوى امرأة فى فترتها. وكانت أول ملكة بطلمية تؤله رسميا هى وزوجها بطلميوس الثانى أثناء حياتهما تحت لقب «فيلادلفوس» أى «المحبة لأخيها» أو «المحب لأخته». فكان زوجها هو المؤسس الفعلى لعبادة الأسرة المالكة البطلمية، حين أعلن تأليه أبيه وأمه والإسكندر الأكبر، وهو نفسه وزوجته أرسنوى الثانية فى حياتهما. ومنذ ذلك الحين أصبح جميع الملوك البطالمة وزوجاتهم يُعبدون تحت ألقاب تأليهة مختلفة، ويشملهم لقب «آلهة شركاء فى المعابد» أى معابد الآلهة الأخرى؛ إن لم تُخصص لهم معابد مستقلة. وأصبح كاهن الإسكندر الأكبر هو كاهن الملوك البطالمة المؤلهين أيضا. وأطلق بطلميوس الثانى المحب لملكته بجنون اسم أرسنوى على منطقة الفيوم فى مصر الوسطى.
وكان زواج أرسنوى الثانية من بطلميوس الثانى هو الزواج الثالث لها. ونظرا لأنها لم تنجب من بطلميوس الثانى، فقامت بتربية أبناء أرسنوى الأولى كأبنائها الذى حكم أحدهم مصر وهو الملك بطلميوس الثالث إيورجتيس، بعد رحيل أبيه بطلميوس الثانى الذى حكم مصر أربعين عاما. وكانت أرسنوى الثانية ملكة دون منافس لمدة خمس إلى سبع سنوات، والسيدة الأولى دون منازع، وفى أحيان كثيرة كانت تشارك فى السياسة الداخلية والخارجية لمصر؛ إذ من المرحج أنها كانت تشاركه فى الحكم.
وعلى الرغم من عشق بطلميوس الثانى لأرسنوى الثانية، لم يكتف بها وحدها، فكان له عدد كبير من المحظيات الجميلات. غير أنه بعد وفاتها، قام زوجها، الحزين على حبيبة قلبه، وسميرته، وخليلة حكمه، بتأليهها وإطلاق عليها الصفات التى توضح تأثرهما الشديد بديانة المصريين القدماء، فأصبحت «ابنة (رب الأرباب) آمون» و»ابنة (رب الأرض) جِب». ووضع الملك تماثيل لها فى المعابد المصرية الكبرى كى تُعبد فيها مع آلهتها المصرية المعروفة. وظهرت فى هذه التماثيل، وعلى العملات، والأوانى غالبا، مصورة كملكة فرعونية ترتدى الباروكة الثلاثية الأجزاء ذات الخصلات المصفوفة، وتضع حية الكوبرا المزدوجة على رأسها كى تميز نفسها عن الملكات التقليدات السابقات عليها من أسرتها البطلمية، وكى تربط بنفسها بالملكات المصريات ذات الأصول العريقة والتاريخ المشرف المعروف.
واستغل بطلميوس الثانى زوجته وأخته المؤلهة أرسنوى الثانية كى يزيد من شعبيته بين جموع الشعب المصرى. وفى الإسكندرية، فى العصر التالى، العصر الرومانى، ازدهرت عبادة الملكة أرسنوى الثانية. ومن الجدير بالذكر أنه قامت الكاهنات بأداء طقوس عبادتها وإحياء ذكراها التى لم تمت برحيلها.
أرسنوى الثانية ملكة من طراز خاص فى فترة حضارية جديدة مختلفة من تاريخ مصر الحضارى العريق والطويل حين تراجعت مصر الفرعونية سياسيا إلى خلفية المشهد، غير أن مصر الحضارية كانت فى مقدمة المشهد كعادتها الخالدة دائما وأبدا.
الملكة بِرينيكي الثانية
خصعت مصر فى عصر البطالمة أو البطالسة إلى نظام ملكى وراثى اُستمد من مصر القديمة. ونقل الملوك البطالمة مركز الحكم إلى مدينة الاسكندرية. وحاول ملوك تلك الفترة التودد للمصريين بإظهار أنفسهم فى ملابس ومناظر الملوك الفراعنة حتى يكسبوا ود شعب المصرى الذين كانوا يحكمونه بعد نهاية مصر الفرعونية. ومارس الملك البطلمى كل صلاحيات الملك المصرى القديم كحاكم مطلق كل السلطات ومصدرها.
وكانت الملكة بِرينيكى (أو برنيقة فى نطق آخر) هى زوجة ثالث الملوك البطالمة، الملك الشهير، بطلميوس الثالث إيورجتيس (246-221 ق.م.).
واستمر زوجها الملك بطلميوس الثالث على سياسته والده، والذى كان شريكه فى الحكم عام 247 قبل الميلاد. وكان ملكا نشيطا عسكريا مثل جده بطلميوس الأول. وتوسعت مصر فى عهده وشملت أجزاء من سوريا وليبيا والنوبة الشمالية. ونجد هذا الملك يخرج بنفسه على رأس الجيش المصرى فى عام 246 قبل الميلاد، ويحتل سوريا الشمالية، ثم يعبر الفرات، ويصل إلى مدينة سليوقية على نهر دجلة دون مقاومة. وسرعان ما يعود إلى مصر الحبيبة لمواجهة المجاعة التى حدثت نتيجة انخفاض مياه النيل. فاستغل الملك سليوقس، الابن الأكبر الذى تولى العرش فى سوريا، انشغال الملك المصرى بأزمته الداخلية، فجمع جيشا، وأخذ معظم ممتلكات مصر فى سوريا الشمالية، لكن بقيت سوريا الجنوبية، بما فيها فينيقيا وفلسطين، فى أيدى بطلميوس الثالث الذى لم يخرج للحرب ثانيةً طوال حياته معتمدا على مجده الحربى الأول والدبلوماسية فى توطيد نفوذه فى الداخل والخارج. وبقدر قليل من الحروب صان الإمبراطورية المصرية وبقيت لمصر ممتلكاتها فى برقة وسوريا الجنوبية وآسيا الصغرى.
وفى عهده، حافظت الإسكندرية على مكانتها كأكبر مركز للعلم والثقافة. وظل قصره مقصد الأدباء والعلماء من جميع أجزاء العالم اليونانى. وحاول إصلاح التقويم المصرى بإضافة يوم سادس للأيام الخمسة فى التقويم المصرى القديم. ولكن هذا المحاولة اُهملت من بعده حتى تم تطبيق هذا الإصلاح فى العصر الرومانى في روما مع يوليوس قيصر، ومع الإمبراطور أغسطس فى مصر عند احتلاله لها عام 30 قبل الميلاد. وحاول تحديد بداية التاريخ البطلمى، وتاريخ الدولة البطلمية المستقلة فى مصر، وهو عام 311 قبل الميلاد، عام وفاة الإسكندر الرابع، ابن الإسكندر الأكبر ممثل السلطة الشرعية المركزية فى إمبراطورية والده. ولم يتم العمل به وجرى التأريخ بنفس الطريقة بسنوات حكم كل ملك.
وتقرب بطلميوس الثالث إلى المصريين. وأعاد إلى المعابد المصرية تماثيل الآلهة المصرية التى أخذها الفرس منهم قبل الإسكندر الأكبر. ونتيجة المجاعة التى أثرت على الزراعة بشكل كبير، أعلن تنازل الدولة عن الضرائب ونصيبها فى المحاصيل. واستورد القمح بأغلى الأثمان من الخارج حتى يرفع الضائقة عن الناس، فجعلهم يشكرونه كما جاء فى قرار الكهنة المصريين المعروف بقرار كانوب فى مارس عام 238 قبل الميلاد. واهتم اهتماما كبيرا ببناء المعابد المصرية؛ فأتم بناء معبد الإلهة إيزيس فى جزيرة فيله بأسوان. وشيد صرحا فى معابد الكرنك. وبنى معبدا صغيرا فى إسنا فى الصعيد. غير أن أهم مبانيه هو معبد إدفو المشهور فى محافظة أسوان الذى يعد أكمل المعابد المصرية. وخصص هذا المعبد للرب المصرى القديم الأشهر حورس. وبدأ تشييده عام 237 قبل الميلاد، وتم استكماله بعد مائة وثمانين عاما فى عهد الملك بطلميوس الثانى عشر المعروف بـ»بطلميوس الزمار» (خلع المصريون عليه لقب «الزمار»؛ لأنه كان مولعا بالعزف على الناى!).
واكتفى الملك بطلميوس الثالث بالملكة بِرينيكى الثانية كزوجة واحدة له فقط، على عكس والده الملك بطلميوس الثانى الذى تزوج غير أمه، الملكة أرسنوى الأولى.
وكانت الملكة برينيكى ابنة الملك اليونانى المقدونى «ماجاس»، حاكم «قورينى» («شحات» فى ليبيا حاليا) الذى كان العم غير الشقيق لبطلميوس الثالث، والملكة اليونانية «آباما الثانية» السورية الأصل. ومن المثير فى حياة هذه الملكة قصة زواجها الأول قبل بطلميوس الثالث. فبعد وفاة والدها مباشرة، تزوجت من الأمير المقدونى المعروف باسم «ديمتريوس الجميل». لكن بعد أن جاءت إلى قورينى، وقعت أمها «آباما الثانية» فى غرام زوجها ديمتريوس الجميل، ونشأت بينهما علاقة آثمة، فما كان من بِرينيكى إلا أن قتلت ديمتريوس الجميل فى فراش أمها التى عاشت بعد ذلك! ولم تنجب بِرينيكى من ديمتريوس الجميل. غير أنها كُوفئت بزواجها من بطلميوس الثالث الذى أنجبت منه حوالى أربعة أبناء وبنتين، كان أهمهم ولى عهده وخليفته الملك بطلميوس الرابع فيلوباتور (221-205 ق.م.). وحملت الألقاب التالية «أم الملك» و»أخت-زوجة ابن رع»، ويظهر هذا تأثرهما بالديانة المصرية القديمة. وتم تصويرها فى فن الموازييك السكندرى كممثلة لمدينة الإسكندرية الخالدة. وربما حكمت مصر نيابة عن زوجها بطلميوس الثالث حوالى خمس سنوات أثناء غيابه فى حربه السورية. وكانت لها أرضها الخاص وخيولها المشاركة فى سباقات الخيل، وكانت فارسة، ويقال أنها كانت تعتلى ظهر الخيل وتشارك فى أرض المعارك إلى جوار زوجها بطلميوس الثالث. وبعد وفاة زوجها بطلميوس الثالث عام 221 قبل الميلاد تم قتلها أثناء الإعداد لتولى ابنها العرش، والذى ربما كانت شريكته فى الحكم.
وتم تأليه بِرينيكى الثانية وبطلميوس الثالث أثناء حياتهما تحت لقب ملكى يمجد الملك والملكة، وهو «إيورجتيس» بمعنى «إلهان خيران». وتم الاعتناء بعبادة الملكة بعد وفاتها فى مدينة الإسكندرية.
البقية في العدد القادم