بقلم: د. حسين عبد البصير
الملكة ميريت نيت
تعتبر الملكة ميريت نيت من أهم ملكات عصر الأسرة الأولى. ويعني اسمها «محبوبة نيت». ومن الجدير بالذكر أنها الملكة الوحيدة التي عُثر لها على مقبرة في جبانة أم الجعاب في أبيدوس الخاصة بملوك العصر المبكر مما جعل العلماء يعتقدون أنها حكمت مصر منفردة. وتركت الملكة عددًا من الآثار تربطها بالملوك چر وچت ودِن. ومن بين هذه الآثار طبعات الأختام وبعض الأواني المنقوشة. وكان من اللافت للنظر والمثير للدهشة حقًا أن الأختام المستخرجة من مقبرة الملكة لم تحمل اسمها، بل اسم الملك دِن، مما أثار حيرتنا. غير أن القدر لم يشأ أن يصدمنا كلية وجعلنا نعثر على ختم قادم من سقارة من المقبرة رقم 3503 يحمل اسم الملكة اللغز، ولكن هذه المرة داخل السرخ الملكي Royal Serekh (واجهة القصر الملكي) الذي كانت تُكتب فيه اسماء الملوك، مما جعلنا نعتقد أنها حكمت مصر في ذلك العصر المبكر من تاريخ مصر مما يدل على عظمة الشخصية المصرية ومدى تحررها وانفتاحها والسماح للملكات بأن يعتلين عرش مصر العظيم مثلهن مثل الرجال في هذا الأمر الذي يرتبط بتقاليد مصر المقدسة في حكم أرض الإله المباركة. ومن اللافت للنظر هو عدم وجود اسم الملكة ميريت نيت في القوائم الملكية التي كتبها أهل مصر الأقدمين تسجيلاً لتاريخ بلادهم المجيد واحتفاء بإنجازات ملوكهم السابقين وربما كان اسم الملكة مكتوبًا في ذلك الجزء المكسور من حجر باليرمو المحفوظ في المتحف الأثري المحلي في هذه المدينة الإيطالية الشهيرة والذي يسجل أسماء ملوك مصر القديمة الأوائل حتي الفترة المبكرة من عصر الأسرة الخامسة التي كُتب في عهدها ذلك الحجر.
ومن المرجح أن الملكة ميريت نيت كانت ابنة الملك چر ثم تزوجت من الملك چت الذي حكم مصر فترة زمنية قصيرة ومات فجأة. ونظرًا لتلك الظروف العصبية التي مرت بها مصر، تم تكليف الملكة الأم بحكم البلاد نيابة عن ابنها، الملك الطفل، الملك دِن. وتعد هذه الواقعة التاريخية من أوائل الحوادث في هذا السياق، وأعني تولي الملكات الأمهات حكم البلاد نيابة ووصاية عن أبنائهن من الأطفال الرضع أو الأطفال الصغار. وكانت هذه الحادثة التاريخية هي التي ربما دفعت بعض كتاب القوائم الملكية في الفترات اللاحقة إلى تجاهل حكم هذه الملكة واسقاط اسمها من قوائمهم؛ وذلك نتيجة لهذا الحدث التاريخي، أو بناء على قناعاتهم الشخصية بأهمية دور النساء في الحفاظ على عرش البلاد لأبنائهن حتى يبلغوا سن الرشد والحكم كما فعلت الربة إيزيس مع ابنها، المعبود حورس، أو إيمانًا منهم بعدم أحقية الملكات من النساء في حكم البلاد، وتفضيل حكم الملوك من الذكور كممثلين للإله الذكر حورس ابن أوزيريس وإيزيس في حكم مصر. وقد تردد العالم الحديث في اتباع نظام وصاية النساء على العروش. وتم اتباعه في مصر القديمة؛ نظرًا لأن الأم هي الشخص الأكثر ولاءً ووفاءً وإخلاصًا لابنها الملك الطفل؛ فضلاً عن كونها تنتمي بالدم للعائلة المالكة، وأيضًا كانت متدربة على تحمل مسؤولياتها التاريخية والدفاع عن ابنها الطفل حتى يشب عن الطوق. وكانت الأمهات، وليس الآباء أو الأخوة، اللائي يقومن بهذا الدور المجيد حين يرحل الزوج فجأة. غير أنه كان هناك بعض الأوصياء الرجال، لكن في حالات قليلة جدًا. ولعل ما يؤكد هذا السيناريو هو طول حكم فترة الملك دِن بشكل كبير مما جعله يحتفل مرتين بعيد «سد»، أي عيد جلوس الملك على عرش مصر والذي كان يتم الاحتفال به كل ثلاثين عامًا، مما يعني أن هذا الملك ربما يكون قد حكم البلاد لمدة ستين عامًا، غير أنه لم يلتزم الملوك بانقضاء مدة الثلاثين عامًا، بدليل أن هذا الملك حكم مصر حوالي 42 عامًا فقط. ونظرًا لأن هذه الملكة حكمت البلاد كملك معاصر لحكم ابنها، الملك دِن، فقد تم السماح لها بتشييد مقبرة ملكية، تكريمًا وتقديرًا لها، بين ملوك مصر الخالدين من حكام مصر في ذلك العصر.
وسوف تظل ذكرى الملك ميريت نيت خالدة في أذهان المصريين؛ نظرًا لعظم الدور الذي قامت بها حفاظًا على حكم مصر وعرش ابنها الملك الطفل في ذلك التاريخ المبكر من عمر مصر الخالد والعالم، مبتدعة سنة حسنة سوف يسير عليها العالم كله بعد ذلك وتصبح من أدبيات وآليات انتقال الحكم في دنيا الحكم والسياسة. هذه جدتكم الخالدة، الملكة ميريت نيت العظيمة؛ لذا كان من حقها أن تُخلد بدفنها، وأن تكون الملكة الوحيدة، في مقابر أبيدوس الملكية بين ملوك مصر الخالدين.
الملكة ني ماعت حاب
ربما كانت الملكة ني ماعت حاب (أو «ني ماعت حابي» أو «ني حاب ماعت») – ويعني اسمها «المنتمية إلى صدق الإله أبيس-حابي» – أميرة من البيت الحاكم في الدلتا وتزوجها الملك خع سخموي حين انتصر على الشمال. وتمثل حلقة الوصل بين ملوك الأسرة الثانية وملوك الأسرة الثالثة. وكانت تحمل من الألقاب والصفات «أم الملك»، و»زوجة الملك»، و»أم الأبناء الملكيين»، و»أم ملك مصر العليا والسفلى»، و»عندما تقول أي شيء، فإنه يتم فعله لها (فورًا)». وكانت أم الملك زوسر الشهير، وربما كانت أم الملكين سانخت وسخم خت.
ولقد كان الملك زوسر من بين المؤسسين لأسرة جديدة هي الأسرة الثالثة وساعدته أمه الملكة ني ماعت حاب في ذلك، وكذلك أسس جبانة جديدة في سقارة. وبنى زوسر هرم سقارة المدرج ونقل مصر والعالم نقلة تاريخية لم تحدث من قبل حين تم استخدام الحجر في البناء على نطاق واسع لم يكن معروفًا من قبل، وتم تنفيذ كل عناصر المجموعة الهرمية العديدة بالحجر على يديّ مهندسه المعماري العبقري إيمحتب. وهكذا يبدأ عصر بناة الأهرامات في مصر والعالم كله.
وصُورت الملكة على بعض اللوحات من منطقة هليوبوليس (عين شمس والمطرية في محافظة القاهرة) مع ابنها الملك زوسر ومع زوجته وابنته، مما يعني أنها كانت ما تزال حية في فترة حكم ابنها. وتم الاحتفال بها وتكريمها من الأجيال اللاحقة باعتبارها جدة الأسرة الثالثة.
وتعتبر الأسرة الثانية غير موثقة بشكل كبير في الوثائق المصرية القديمة. ومن المرجح، بل ليس من المؤكد، أن الأسرة الثانية تمثل تغيرًا في العائلة الحاكمة، وأن السلطة انتقلت بشكل مؤقت إلى شمال مصر. ولعل هذا يبرر سبب ترك الملوك الخمسة الأوائل من ملوك الأسرة الجبانة الملكية في أبيدوس في سوهاج حيث دُفن ملوك الأسرة الأولى، وفضلوا الدفن في الشمال في جبانة سقارة في الجيزة. وفي نهاية الأسرة الثانية ما يشير إلى حدوث عدم استقرار سياسي، وربما كانت حربًا بين الشمال والجنوب، والتي أدت إلى ظهور ملك يدعى «بِر إِيب سِن»، والذي ألقى بقرن من التقاليد المصرية العتيدة وراء ظهره حين وضع صورة الإله الشرير «ست» بدلاً من صورة المعبود التقليدي، الإله حورس، المتبعة من قبل، على واجهة السرخ Serekh، واجهة القصر الملكي، والتي كان يكتب عليها أسماء الملوك في حماية المعبود حورس رمز الملكية المصرية المقدسة الأكبر منذ أقدم عصور الحضارة المصرية العريقة. والتزم الملك بِر إِيب سِن بعادة الدفن في الجبانة الملكية في أبيدوس، ذلك العرف الذي كان متبعًا من قبل ملوك عصر الأسرة الأولى، وتلاه في ذلك الملك التالي له الملك خع سخموي.
وليس لدينا الكثير من المعلومات عن ملكات عصر الأسرة الثانية. ولعل الملكة ني ماعت حاب هي الأكثر حضورًا لدينا من ذلك العصر البعيد. وقد ذكرها زوجها الملك خع سخموي في مقبرته في أبيدوس.
طبعة ختم تحمل اسم وألقاب الملكة ني ماعت حاب من أبيدوس
ومن المعروف أنه تم بناء مقبرة كبيرة للملكة ني ماعت حاب في منطقة بيت خلاف، بالقرب من منطقة أبيدوس الأثرية الشهيرة في سوهاج في صعيد مصر العظيم (مقبرة رقم ك 1). غير أن البعض اعتقد أنه كان من المفترض دفنها مع زوجها في أبيدوس، أو ربما في أبوصير في الشمال. وقد قام ابنها الملك زوسر، أغلب الظن، بدفنها في تلك المقبرة الكبيرة المبنية على شكل مصطبة. ومن الجدير بالذكر أنه ربما تم تشييد المقابر الصغيرة على شكل المصاطب في نفس الجبانة لأفراد من عائلتها. واستمرت ذكرى تلك الملكة عطرة في عصر الأسرة التالية لحكم ابنها، الأسرة الرابعة، حين تم تكريس خدمة جنائزية طويلة الأمد لتلك الملكة المتوفاة المبجلة، وذكر اسمها في مقبرة النبيل الشهير مِتن في منطقة سقارة والتي جاء منها أول نماذج السير الذاتية في مصر القديمة وفي العالم كله. وحينها كان مِتن مشرفًا على بيت الكا الخاص بالملكة ني ماعت حاب.
ومن الجدير بالذكر أن المؤرخ المصري الشهير مانيتون السمنودي، الذي كلفه الملك البطلمي الأشهر بطلميوس الثاني فيلادلفوس بكتابة تاريخ مصر القديمة في حوالي ثلاثين أسرة والذي ما نزال نتبعه إلى الآن في دراسة علم المصريات، ذكر أنه خلال فترة ملك يدعى «بينوثريس» (الذي من المرجح بشكل كبير أنه الملك ني نثر (زوسر) قرر أن تتولى السيدات منصب الملوك، غير أن هذا ليس مؤكدًا.
هذه الملكة ني ماعت حاب هي التي أنهت حكم العصر المبكر، وأسست مع ابنها زوسر عصر الأسرة الثالثة وعصر بناة الأهرامات، وجعلت مصر تدخل ذلك العالم الفريد، عالم الأهرامات المصرية الأقدم والأهم والأشهر في العالم كله، ذلك العالم الذي ما يزال يبهرنا ويبهر زوار مصر عبر العصور.
البقية العدد القادم