بقلم: د. حسين عبد البصير
الملكة خع مرر نبتي الثانية
الملكة خع مرر نبتي الثانية هي ملكة عظيمة من ملكات عصر الأسرة الرابعة. وهي ابنة الملك خفرع، صاحب الهرم الثاني بالجيزة، والملكة خع مرر نبتي الأولى. وهي أيضًا زوجة الملك منكاورع، صاحب الهرم الثالث بهضبة أهرام الجيزة. ويعني اسمها «شروق المحب للسيدتين (وهما الربتان نخبت وواجيت الممثلتان لمصر العليا والسفلى)».
ومن الجدير بالذكر أن ولاية العرش مرت ببعض التوتر بعد رحيل الملك خفرع، غير أن الحكم وصل إلى ابنه الملك منكاورع من زوجته خع مرر نبتي الأولي. والملك منكاورع هو صاحب الهرم الثالث في هضبة الجيزة.
ومن المعروف أنه من المعبد الجنائزي ومعبد الوادي الخاصين بالملك منكاورع بهضبة الجيزة قد حصلنا على مجموعة غير مسبوقة من التماثيل المصنوعة من الأحجار الصلبة. وتنوعت مجموعات هذه التماثيل ما بين تماثيل فردية، وتماثيل زوجية، والعديد من الأعمال الفنية غير المكتملة بشكل جزئي.
وهناك تماثيل تصور الملك منكاورع منفردًا، وتماثيل أخرى تمثل الملك مع إحدى زوجاته غير المذكورة الاسم، وتماثيل ثلاثية تصور الملك واقفًا بين ربة الحب والجمال ورمز الأمومة والميلاد الملكي، الإلهة حتحور، وإحدى الإلهات الممثلة لأحد الأقاليم حيث كانت تُعبد الربة حتحور.
ومن أهم آثار هذه الملكة، تمثالها العلامة الفنية الكبرى والأشهر والموجود في متحف الفنون الجميلة بمدينة بوسطن في الولايات المتحدة الأمريكية. وكان قد اكتشف هذا التمثال الجميل عالم الآثار الأمريكي الأشهر جورج رايزنر عام 1910 عندما قام بالحفائر في معبد الوادي الخاص بمجموعة هرم الملك منكاورع بالجيزة. وكان هذا المعبد يشكل أحد أهم العناصر المعمارية في العمارة الهرمية في عصر الدولة القديمة، عصر بناة الأهرام، وكان يمثل البداية لدخول المجموعة الهرمية للملك منكاورع وغيره من ملوك عصر بناة الأهرام.
ويمثل التمثال الملك منكاورع وزوجته الجميلة الملكة خع مرر نبتي واقفين على قاعدة غير مرتفعة. ويظهر الملك ممشوق القوام قابضًا بكلتا يديه على شارات الملكية المقدسة، ويرتدي النقبة الملكية القصيرة، ويضع على رأسه غطاء الرأس الملكي المعروف بـ»نِمس»، ويضع اللحية المستعارة على ذقنه. واللافت للنظر في هذا التمثال المعبر عن روح مصر القديمة وتقدير واحترام المرأة في ذلك المجتمع المتحضر في ذلك الزمن البعيد، هو وقوف الملكة شريكة الحياة إلى جوار زوجها الملك في حجم مقارب لحجم الملك كتفًا بكتف.
وتطوق الملكة جسد زوجها الملك بذارعها الأيمن، وتضع يدها اليمنى أسفل صدره، وتلامس بيدها اليسرى ذراعه الأيسر في حنان وحب واضحين. ويمثل التمثال بورتريهًا حضاريًا معاصرًا يعبر عن قمة الحب والتراحم والحنان والتواصل بين الرجل والمرأة في المجتمع المصري القديم. ويمثل الملك في صورة إنسانية كزوج محب لزوجته الملكة وشريكة كفاحه. وبصرف النظر عن كونه تمثالاً ملكيًا؛ فقد انتشر هذا الوضع الفني والاجتماعي في تماثيل عديدة بين أفراد عاديين وليس بين ملوك وملكات. وترتدي الملكة باروكة ثلاثية قصيرة تصل إلى أعلى منطقة صدرها، ويظهر شعرها الطبيعي أسفل الشعر المستعار. وترتدي الملكة رداءً حابكًا يصل إلى أعلى قدميها. وتظهر ملامح الأنوثة الطاغية في تمثال هذه الملكة في منطقة الصدر والبطن وأسفل البطن والفخذين والساقين. ويبدو وجه الملكة مستديرًا يشع بالجمال والحيوية والشباب. وكان أيضًا الهدف من هذا التمثال الجماعي بعث الملك المتوفى وميلاده مرة أخرى في العالم الآخر من لقائه الجسدي مع زوجته الملكة وميلاده من خلالها وفقًا للمعتقدات المصرية القديمة.
وهناك تمثال آخر لهذه الملكة بحجم أكبر مرتين من الحجم الطبيعي للتماثيل عادة في مصر القديمة. ويعد هذا التمثال الكبير هو التمثال الضخم الوحيد الباقي لأية ملكة من عصر الدولة القديمة، عصر بناة الأهرام. ووُجد هذا التمثال في مقبرة والدتها الملكة خع مرر نبتي الأولى، مما قد يشير إلى أن الملكة الأم خع مرر نبتي الأولى والملكة الابنة خع مرر نبتي الثانية ربما قد تشاركتا في الدفن في تلك المقبرة. والتمثال في حالة غير جيدة من الحفظ ولا يحتفظ بأي من علامات الملكية المميزة للملكات المصريات. وصُورت الملكة في هذا التمثال بحجم كبير لافت، ومُثلت الملكة خع مرر نبتي الثانية جالسة على العرش مما يشير إلى مكانتها الملكية.
ومن المرجح أنه تم دفن الملكة خع مرر نبتي الثانية في أحد الأهرامات الجانبية الخاصة بالملكات زوجات الملك منكاورع والموجودة إلى الجنوب من هرم الملك منكاورع في أقصى الجزء الجنوبي من هضبة أهرام الجيزة العريقة. وهو الهرم الشرقي من أهرامات الملكات، الأكثر اكتمالاً بينها.
تلك هي قصة الملكة خع مرر نبتي الثانية التي تعد من أبرز الملكات في عصر الأسرة الرابعة. لقد كانت ذات مكانة وحظوة كبيرة لدى زوجها الملك منكاورع كما يظهر من تمثالهما الجماعي الذي يظهر أروع مظاهر الحب والتراحم والتكامل والتواصل بين الرجل والمرأة في مصر القديمة.
الملكة خنت كاوس الأولى
من المرجح أن الملكة خنت كاوس الأولى قد تكون حكمت مصر في نهاية عصر الأسرة الرابعة. وقد تعد الملكة الحاكمة الثانية بعد الملكة ميريت نيت، التي حكمت غالبًا مصر في عصر الأسرة الأولى نيابة عن طفلها الصغير. ويعني اسم الملكة خنت كاوس الأولى «مقدمة أرواحها».
والملكة خنت كاوس الأولى هي، أغلب الظن، ابنة الملك منكاورع، صاحب الهرم الثالثة بهضبة الجيزة. وكانت ربما زوجة للملك شبسسكاف من عصر الأسرة الرابعة، ثم زوجة للملك أوسر كاف، وأمًا للملك ساحورع وللملك نفر إير كارع كاكاي من ملوك الأسرة اللاحقة، الأسرة الخامسة. وهناك من يعتقد أن الملك ساحورع، من ملوك الأسرة الخامسة، كان ابنًا للملك أوسر كاف من زوجته الملكة حتب نفر إس. وربما كانت الملكة خنت كاوس الأولى أمًا ووصية على ابنها الملك جدف بتاح (الذي ذكره المورخ مانيتون السمنودي في قوائم ملوك مصر) من أواخر ملوك الأسرة الرابعة الذي ربما حكم فترة قصيرة بين سنتين إلى تسع سنوات، فضلاً عن كونها أمًا للملك نفر إير كارع كاكاي من ملوك الأسرة الخامسة. ومن المرجح أنها حكمت مصر فضلاً عن وصايتها على حكم ابنها. وتزوجها أوسر كاف بعد وفاة زوجها كي يضمن الوصول إلى عرش مصر وتأسيس أسرة جديدة هي الأسرة الخامسة؛ لذا كانت الملكة خنت كاوس هي همزة الوصل بين الأسرة الرابعة والأسرة الخامسة. ونالت هذه الملكة قداسة وتوقيرًا واحترامًا كبيرين في عصر الأسرة الخامسة لدرجة أنه تسمت إحدى ملكات هذه الأسرة باسمها، وعرفت باسم «خنت كاوس الثانية»، زوجة ابنها الملك نفر إير كارع كاكاي، ثم ابنتهما، أغلب الظن، «خنت كاوس الثالثة».
ومن الجدير بالذكر أن هناك بردية مصرية قديمة تدعى بردية «وستكار» محفوظة في متحف برلين – وجاء اسمها نسبة للمغامر البريطاني هنري وستكار الذي اكتشف البردية أثناء إحدى رحلاته إلى مصر – وتسرد نصوص هذه البردية «قصة خوفو والسحرة» أو «قصة بلاط الملك خوفو»، ذلك العمل الأدبي الشهير الذي استخدم أحداثه كاتبنا الأكبر الأستاذ نجيب محفوظ في تشييد البناء الروائي في روايته الفرعونية المعروفة «عبث الأقدار». وتتناول تلك البردية نهاية حكم الأسرة الرابعة وتبشر بحكم ملوك الشمس القادمين من صلب إله الشمس رع، وأعني ملوك الأسرة الخامسة، كنوع من أنواع الدعاية السياسية لأسرة لم تكن يجري في عروقها الدم الملكي، فادعت انتسابها لإله الشمس رع حتى تضفي على حكمها الشرعية.
وفي هذا العمل الأدبي الخيالي، يمكن اعتبار الملكة خنت كاوس الأولى هي السيدة رودجدت التي أنجبت أول ثلاثة ملوك من عصر الأسرة الخامسة وهم الملك أوسر كاف، والملك ساحورع، والملك نفر إير كارع كاكاي كما يذكر ذلك العمل الأدبي المدهش.
وبنت الملكة خنت كاوس الأولى مقبرة كبيرة بالقرب من المجموعة الهرمية لأبيها الملك منكاورع. وكان يعتقد أن مقبرة هذه الملكة هي «الهرم الرابع» غير المكتمل بهضبة الجيزة، بل إن الأثري الكبير الدكتور سليم حسن، الذي قام بالحفائر في مقبرتها عام 1932، أطلق عليها «الهرم الرابع» بالجيزة. غير أن الحقيقة أن مقبرتها الضخمة عبارة عن مقبرة على شكل مصطبة كبيرة تتكون من مدرجين فقط، وهي منحوتة في الصخر الطبيعي لهضبة الجيزة. وتم استكمال هذه المقبرة في عصر الأسرة الخامسة نتيجة الصلة القوية للملكة خنت كاوس الأولى بملوك هذه الأسرة التي ربما تزوجت من أول ملوكها وحكم بعده اثنان من أبنائها. وفضلاً عن المقبرة نفسها، فإنه توجد عناصر معمارية أخرى ضمن هذه المجموعة الجنائزية مثل معبد للوادي وطريق صاعد ومقصورة وحفرة المركب (غالبًا لمركبين) والمدينة المخصصة للقائمين على خدمة المقبرة وإقامة الشعائر الجنائزية على روح الملكة ومخازن الغلال وخزان المياه. وتم نهب مقبرتها واستخدامها في عصور لاحقة.
وعلى الرغم من أنه تم تصوير الملكة ترتدي زيًا نسائيًا داخل مقبرتها بالجيزة، فقد تم تمثيلها في هيئة رجالية تمامًا مثلها مثل الملوك، فنراها جالسة على العرش، وتضع لحية مستعارة والصل الملكي (ثعبان الكوبرا) وتمسك في يدها الصولجان الملكي كدلالة على حكمها للبلاد.
ونجد أن هذه الملكة حملت ألقاب «أم الملك»، و»أم ملكي مصر العليا والسفلي»، أو ربما «ملكة مصر العليا والسفلى وأم ملك مصر العليا والسفلى». ومن الملاحظ أنه لم يُكتب اسم الملك خنت كاوس الأولى داخل الخرطوش الملكي (شكل بيضاوي تنقش داخله أسماء الملوك) كعادة الملوك المتوجين والحاكمين في مصر القديمة. غير أنه من المرجح أنها حكمت البلاد نيابة عن ابنها بشكل مؤقت مما استوجب مكافأتها بالسماح لها ببناء هذه المقبرة الضخمة مع أسلافها وأهلها من ملوك مصر العظام، ملوك الأسرة الرابعة في الجيزة.
هذه هي الملكة خنت كاوس الأولى التي بنت مقبرة كبيرة مجاورة لأهرام الجيزة العظيمة، والتي كانت نقطة الانتقال في الحكم بين الأسرة الرابعة حيث أهرام الجيزة والأسرة الخامسة التي بنت أهرامات مهمة في منطقتي أبوصير وسقارة إلى الجنوب من أهرام الجيزة.
البقية العدد القادم