بقلم: د. حسين عبد البصير
الملكة أحمس-نفرتاري
ندخل الآن إلى الأسرة الثامنة عشرة، وبداية عصر الدولة الحديثة، أو عصر الإمبراطورية المصرية العريقة التي سادت العالم القديم بالعلم والإيمان والعدل والحق قبل القوة. فلم يكن يُعرف عن الملوك المصريين القدماء البطش إلا في الحق والانتقام دون اعتداء سابق. وكانت العقيدة العسكرية المصرية دفاعية لا تميل إلى البدء بالاعتداء. وهذه من سمات الشخصية المصرية التي تميل إلى البناء والتعمير والتسامح والسلام، ولا تحب الاعتداء، لكن ولو حدث اعتداء، يتحول الملوك المصريون إلى أسود شرسة تدافع عن عرين أرضهم الطيبة وشعبهم الأبي. وهذا ما حدث بعد محنة الهكسوس القاسية التي تعرضت لها مصر العظيمة، فأخذت مصر في حماية الحدود وتكوين امبراطورية خالدة دفاعًا عن الأرض خارج الحدود المصرية.
وتعتبر الملكة أحمس-نفرتاري أول ملكات الأسرة الثامنة عشرة، والدولة الحديثة، الفترة الذهبية الثالثة من تاريخ مصر القديمة. وكانت ابنة للملك سقنن رع تاعا الثاني وزوجته إياح حوتب الأولى. وتزوجت من الملك، البطل، محرر مصر من الهكسوس، أحمس الأول. ويعني اسمها «ولد القمر-أجملهم (أو حلاوتهم)». وهذا لا يجعلنا نخلط بينها وبين الملكة نفرتاري، زوجة نجم الأرض الفرعون الأشهر الملك رمسيس الثاني في عصر الأسرة التالية، الأسرة التاسعة عشرة. وحملت عددًا من الألقاب الملكية مثل «ابنة الملك» و»أخت الملك» و»الزوجة الملكية العظمى» و»أم الملك» و»زوجة الملك» و»الكاهنة الثانية للإله آمون (رب طيبة والدولة الحديثة الأشهر)»، ومن خلال هذا اللقب منحها زوجها أحمس الأول وأبناءها للأبد العديد من الأوقاف، وكذلك منحها اللقب الديني الجديد «الزوجة الإلهية للإله آمون» وجلب لها الكثير من الثروات. وهو من الألقاب الجديدة التي ارتبطت فيها نساء البيت المالك بعبادة الإله، رب الدولة الحديثة والإمبراطورية المصرية الأكبر، وكهانته مما يدل على وعي الملوك المصريين بأهمية ذلك المعبود وكهنته مما جعلهم يدخلون عنصرًا نسائيًا ضمن عبادة ذلك المعبود واسع النفوذ الذي اتسعت ديانته حتى هددت سلطة الفرعون وصارت سلطة موازية ودولة داخل الدولة حتى ثار عليه وعلى كهنته فرعون التوحيد، الملك أخناتون (أمنحتب الرابع قبل ذلك). ويعد لقب الزوجة الإلهية للإله آمون لقبًا كهنوتيًا ليس إلا، ولم تكن حاملة هذا اللقب زوجة فعلية للإله، ولم تكن ضمن حريم الإله؛ لأن البغاء الديني لم يكن معروفًا في مصر القديمة كما كانت الحال في بعض حضارات الشرق الأدنى القديم. ومن خلال هذه الثروات الطائلة التي خصصت لتلك الملكة المعشوقة من زوجها الفرعون، صار ممكنًا لهذه الملكة القيام بالعديد من القرابين والطقوس، وأصبح اسمها منقوشًا في عدد كبير من المعابد في أبيدوس وطيبة وسرابيط الخادم في سيناء الغالية حيث كانت تُعبد الربة حتحور التي ارتبطت بشكل خاص بنساء البيت المالك في عصر تلك الأسرة الخالدة.
وتم كتابة اسم الملكة مع زوجها أحمس الأول في محاجر الحجر الجيري في منف ومحاجر الألباستر في أسيوط. وعندما قرر زوجها تشييد ضريح لجدته تتي شري، ذكر أنه ناقش أولاً خططه مع «رفيقته» أحمس-نفرتاري، وتشير كلمة «رفيقته» إلى مساواة الملكة بالربة «ماعت»، رفيقة الإله رع وكل الملوك، مما يدل على تقدير زوجها لها. وهذا ليس غريبًا على هذا الملك الذي كان حفيًا بملكات أسرته المؤسسة للوحدة المصرية بعد احتلال الهكسوس، ومعترفًا بفضلهن، جدة وأمًا وزوجة، في تحقيق حلم التحرير الذي حلمت به مصر طويلاً، فلولا جهودهن وتشجيعهن، لم يكن الحلم ليرى النور بعد طول إظلام في طول البلاد وعرضها. فسجل شكره لهن قولاً وفعلاً في بقاع عديدة من الأرض المصرية الفسيحة.
وأنجبت الملكة أحمس-نفرتاري أربعة أولاد وخمس بنات، مات خمس منهم صغارًا. وبعد وفاة أحمس الأول، قامت بالوصاية على ابنها الصغير الملك أمنحتب الأول. وعند وفاة زوجته الملكة ميريت آمون (وليست ابنة رمسيس الثاني الشهيرة)، قامت الملكة الأم بدور الزوجة الكبرى له كي تدعم ابنها الذي مات دون وريث للعرش. ولعبت دورًا مهمًا في اختيار خليفة ابنها، الملك تحتمس الأول، الذي ماتت في عهده، ودُفنت في منطقة دراع أبو النجا في البر الغربي للأقصر. وعُثر على مومياء الملكة في تابوت كبير مع مومياء الملك رمسيس الثالث في خبيئة الدير البحري. ومن خلال فحص موميائها، تبين لنا أنها ماتت في حوالي السبعين من عمرها المديد، وأن يدها اليمنى سرقها اللصوص القدماء للحصول على حليها.
وبعد وفاة الملكة أحمس-نفرتاري تم تقديسها مع ابنها الملك أمنحتب الأول باعتبارهما إلهين حاميين لجبانة طيبة، خصوصًا في منطقة دير المدينة التي كانت قرية الفنانين والعمال بناة مقابر الملوك في وادي الملوك ومقابر الملكات في وادي الملكات ومقابر النبلاء في جبابات الأفراد العديدة في البر الغربي لمدينة الأقصر. وتم بناء معبد لها في طيبة. وعُبدت إلى نهاية الدولة الحديثة. وتم تصويرها ببشرة سوداء للتعبير عن الخصوبة والبعث؛ ولذا نراها مصورة في مقابر الأفراد بسبب أنها أصبحت إلهة لبعث الموتى فوُصفت بأنها «سيدة السماء»، و»سيدة الغرب»، حيث يرقد الأموات على أمل البعث مع شروق الشمس في الشرق حيث يسكن الأحياء.
كانت الملكة أحمس-نفرتاري ملكة عظيمة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، كزوجة وأم وإلهة ووصية على العرش وموجهة لاختيار حاكم مصر الجديد بعد رحيل ولدها دون وريث. فدخلت بجدارة واستحقاق ضمن سجل الخالدات من ملكات مصر العظيمات.
الملكة أحمس
تعد أفضال مصر القديمة على العالم كثيرة، ولا تعد ولا تحصى. غير أن أهمها، في رأيي، هو سبق مصر العالم بمعرفة الكتابة والتدوين، فلولا الكتابة التي اخترعتها مصر القديمة، وليس العراق القديم، ما عرفنا شيئًا عن تاريخ مصر القديمة، ومن ثم تاريخ الإنسانية، وهذه الملكات العظيمات. فبفضل المحبرة والقرطاس (القلم)، للكتابة على البردي وكسرات الفخار والأحجار وغيرها من مواد مناسبة، والإزميل والفرشاة والقلم، للنقش والحفر والكتابة على الحجر وغيره من مواد، حفطت لنا مصر القديمة الجزء الأهم في تاريخ البشرية في مرحلة تأسيس الحضارة بعد سنوات طوال من الاستغراق في عصور ما قبل التاريخ السحيقة، دون تدوين أو كتابة تُذكر.
وكانت الملكة أحمس زوجة الفرعون مهندس ومؤسس الإمبراطورية المصرية الفسيحة في جنوب غرب أسيا وفي أعماق أفريقيا. ومن المعروف أن الملك تحتمس الأول لم يكن ينتمي للبيت المالك الذي كان منه الملك أحمس الأول وولده الملك أمنحتب الأول، وربما كان هناك ما يربطه نوعا ما بالملك أمنحتب الأول، غير أن تاريخ عائلة الملك تحتمس الأول غامضًا لدينا بشكل لا يسمح لنا بتقصي أصوله؛ فليس لدينا ذكر لوالده. وعادة فإن الملوك الذين كانوا ينحدرون من أصول غير معلومة كانوا لا يهتمون كثيرًا بذكر أصولهم المتواضعة. ومن اللافت للنظر أنه أعطى أمه لقب «أم الملك»، وليس لقب «ابنة الملك»، أو «زوجة الملك»، مما يؤكد على تواضع أصلها كأبيه أيضًا. وعُرفت أمه باسم «سي ني سنب»، والذي على الرغم من أنه كان اسمًا شائعًا في عصر الأسرة الثامنة عشرة، لم نتمكن من معرفة والديها. غير أن هذا ليس شرطًا على تواضع عطاء هذا الملك العظيم. فهذا الملك على الرغم من عدم انحداره من أصل ملكي، فإنه أنجز ما لم ينجزه ملوك كثر كانوا من أبناء الملوك أبًا عن جد.
وكما كان من الصعب معرفة والديّ زوجها الملك تحتمس الأول، كان من الصعب علينا أيضا معرفة والديّ زوجته الملكية الكبرى الملكة أحمس؛ نظرًا لأن اسميهما غير مسجلين في أي مكان، وأن اسم «أحمس» كان اسمًا شائعًا بين رجال ونساء الأسرة الثامنة عشرة على حد سواء، وفي مصر القديمة في تلك الأسرة عمومًا. ويعني اسمها «وُلد القمر».
ومن المرجح أن الملكة أحمس كانت ربما ابنة للملك أمنحتب الأول، أو ابنة لوالده الملك أحمس الأول وزوجته الكبرى الملكة أحمس-نفرتاري، وفي هذه الحالة فإن الملكة أحمس تكون أختًا شقيقة للملك أمنحتب الأول. ويعد هذا الطرح مقبولاً لدينا نوعًا ما؛ نظرًا لأن الملك تحتمس الأول، الوافد إلى حكم مصر من أصل غير ملكي والذي لم يكن ينتمي لعائلة الملك أحمس الأول وابنه أمنحتب الأول، كان لا بد له من أن يجد صلة ما تربطه بالبيت المالك السابق حتى يستمد شرعيته وأحقيته في حكم مصر من خلال الزواج من أميرة من البيت المالك، وأعني زوجته الملكة أحمس التي كان في اسمها ما يدل على ارتباطها بالبيت المالك الذي أسسّه الملك أحمس الأول.
غير أنه من الملاحظ أن الملكة أحمس حملت لقب «أخت الملك» وليس «ابنة الملك» الذي كان من المفترض أن تحمله لو كانت ذات دم ملكي.
وربما كانت أختا أو أختا غير شقيقة لزوجها الملك تحتمس الأول. ولم يكن الزواج بين الأخ والأخت شائعًا في مصر القديمة إلا بين أفراد البيت المالك في ذلك الوقت من أجل الحفاظ على تتابع خط الملوك المصريين من نفس الأسرة على عرش مصر. وربما حدث هذا الزواج بين الأخ تحتمس والأخت أحمس بعد أن أصبح تحتمس (الأول) وريث عرش الملك أمنحتب الأول.
غير أن أهم ما نتج عن هذا الزواج المبارك هو إنجاب ابنتين هما نفروبيتي (أو «أخبت نفرو») و(الملكة الفرعونة لاحقًا) حتشبسوت، ملكتنا الفذة التي طبقت شهرتها الآفاق في جميع أنحاء العالم. ومن الجدير بالذكر أن نفروبيتي ظهرت على أحد جدران معبد أختها الملكة حتشبسوت المعروف بمعبد الدير البحري في البر الغربي لمدينة الأقصر. وبعد ذلك تُسدل ستائر النسيان على ذكر الأميرة نفروبيتي؛ وذلك ربما لموتها في سن مبكرة.
وتبقي الملكة أحمس في خلفية الأحداث أثناء فترة حكم زوجها الملك تحتمس الأول، غير أنها تقفز إلى مقدمة الأحداث في عهد ابنتها، الملكة الفرعونة، حتشبسوت التي نسجت قصة مثيرة ادعت فيها أن الإله آمون عاشر أمها الملكة أحمس معاشرة الأزواج وأنجب منها الطفلة حتشبسوت. وقامت الملكة حتشبسوت باختلاق تلك الدعاية السياسية أو ما يعرف لدينا بـ»قصة الولادة الإلهية» وتوثيقها بالصورة والنصوص على جدران معبد الدير البحري الخاص بها كي تكتسب شرعيتها في حكم البلاد بصفتها امرأة، تنتمي إلى الدم الملكي، وتريد تدعيم حكمها في أعين الشعب من خلال الإدعاء بأنها من نسل الآلهة ومن رب أرباب العصر، الإله آمون، رب طيبة والدولة الحديثة الأشهر بلا منازع.
كانت الملكة أحمس محطة مهمة كي تهدينا الملكة المصرية القديمة الأشهر، الفرعونة الأجمل والأذكى الملكة حتشبسوت، التي شغلت العالم وملأت الدنيا جميعًا إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.
البقية العدد القادم