بقلم: د. حسين عبد البصير
الملكة إيست نفرت الأولى
كانت الملكة إيست نفرت الأولى (أو «إيزيس نفرت الأولى») زوجة ملكية كبرى من الزوجات الملكيات العظيمات (مع الملكة نفرتارى والملكة سات آمون) لنجم الأرض، الفرعون الأشهر، الملك رمسيس العظيم أو رمسيس الثانى. ويعنى اسمها «إيست الجميلة» أو «إيزيس الجميلة».
وبعد الموت المبكر والمفاجىء لجميلة الجميلات الملكة نفرتارى فى حوالى العام الرابع والعشرين من حكم زوجها الملك رمسيس الثانى، اضطر إلى رفع زوجته الأخرى إيست نفرت الأولى إلى مقام الزوجة الملكية الكبرى الذى فرغ برحيل حبيبة قلبه الجميلة ومعشوقته الكبرى الملكة الفاتنة نفرتارى التى لم يملأ قلبه غيرها، على الرغم من كثرة زيجاته وولعه الكبير بالنساء؛ لأنها كانت «حلوة الحب» فى عين جلالة الملك المعظم.
ولانعرف على وجه التحديد هوية والدىّ الملكة إيست نفرت الأولى. وربما كانت من دم غير ملكى؛ نظرا لأنها حملت لقب «الأميرة الوراثية»، ولم تحمل لقب «ابنة الملك» أو «أخت الملك» أو ما شابه من ألقاب كان تحملها عادة نساء البيت المالك. وحملت الملكة إيست نفرت الأولى العديد من الألقاب والصفات الملكية المهمة. وكان من ضمن ألقابها ونعوتها، «أم الأمراء» و»زوجة الملك»، و»عظيمة المديح»، و»سيدة الأرضين بأكملهما»، و»زوجة الملكة». غير أن أهم ألقابها كان «الزوجة الملكية الكبرى».
وربما كانت الملكة إيست نفرت الأولى أولى زوجات الملك رمسيس الثانى، قبل الملكة نفرتارى، وقبل أن يصل إلى الحكم، وحصلت على لقب الزوجة الملكية الكبرى بعد رحيل نفرتارى المبكر. غير أن ظهور الملكة إيست نفرت الأولى على الآثار كان فى مناظر عائلية بصحبة الملك وأبنائها أولياء العهود رمسيس وخع إم واست ومرنبتاح. ومن الملاحظ أنها كانت تظهر مع الملك رمسيس الثانى بصبحة أبنائها، ولم تكن تظهر كثيرا منفردة مع زوجها الملك، كما كانت الحال مع حبيبة قلبه الملكة الجميلة نفرتارى التى كانت تظهر مع رمسيس العظيم فى معظم آثاره. وبدأت الملكة إيست نفرت الأولى فى الظهور ابتداء من العام الخامس والعشرين من حكم زوجها الملك وبعد رحيل نفرتارى في العام الرابع والعشرين من حكمه. وربما تزوجت الملكة إيست نفرت الأولى من الأمير رمسيس قبل أن يصبح ملكا على مصر ويحمل اسم رمسيس الثانى؛ إذ ظهر أبناؤها فى مناظر من عهد جدهم الملك العظيم سيتى الأول.
وكانت الملكة إيست نفرت الأولى أم أكبر أبناء الملك رمسيس الثانى. وأنجبت ثلاثة من الأبناء وبنتا واحدة (أو بنتين). وهم الأمير والقائد العسكرى رمسيس الذى كان وليا لعهد أبيه الملك من العام الخامس والعشرين إلى العام الخمسين من حكم والده، وربما الأميرة إيست نفرت، المسماة على اسم أمها، التى ربما كانت إيست نفرت الثانية. وكان أهمهم كاهن المعبود بتاح فى مدينة منف، وأقدم مرمم للآثار فى التاريخ، الأمير خع إم واست الذى كان وليا لعهد أبيه من العام الخمسين إلى العام الخامس والخمسين من حكم أبيه (ويعنى اسمه «الذي يشرق فى طيبة»)، والذى رحل فى حياة أبيه، والبنت الملكية الكبرى للملك رمسيس الثانى الأميرة «بنت عنات» التى تزوجها الملك رمسيس الثانى، وصارت الملكة «بنت عنات الأولى»، وولى العهد وخليفة الملك رمسيس الثانى، الملك الشهير مرنبتاح، (ويعنى اسمه «محبوب الرب بتاح»)، الأمير الثالث عشر من أبناء رمسيس الثانى الذى عاش بعد أن رحل أخوته الإثنى عشر أميرا من قبله.
ويدل اختيار أبناء الملكة إيست نفرت الأولى لولاية عرش أبيهم رمسيس الثانى وللزواج من إحداهن على أهمية وعظم المكانة التى تمتعت بها الملكة إيست نفرت الأولى لدى زوجها الملك العظيم رمسيس الثانى. ومن الجدير بالذكر أن الأمير خع إم واست أنجب ابنة وأطلق عليها إيست نفرت على اسم والدته، واُعتبرت إيست نفرت الثالثة التى ربما تزوجت من الملك مرنبتاح، غير عمتها إيست نفرت الثانية. وربما أطلق الملك مرنبتاح اسم أمه على واحدة من بناته. وربما دُفنت الملكة الأم إيست نفرت الأولى بعد وفاتها فى إحدى مقابر وادى الملكات كعادة ملكات العصر.
وعلى الرغم من أن الملكة إيست نفرت الأولى لم تكن مشهورة فى الربع القرن الأول من حكم رمسيس الثانى، الذى حكم مصر لحوالى مدة ست وستين عاما، غير أنها حصلت على ولاية العرش لأبنائها الثلاثة على التوالى الأمراء: رمسيس، وخع إم واست، وأخيرا مرنبتاح الذى صار ملكا بالفعل.
الملكة إيست نفرت الأولى هى الملكة المصرية راعية ومربية الملوك والملكات، والتى كانت تزهد فى كل شىء إلا أبنائها وبناتها وتربيتهم من أجل أن تراهم كما تحب، كعادة كل الأمهات المصريات العظيمات من قديم الأزل وإلى أن يرث الله الأرض ومن وما عليها.
الملكة ماآت حور نفرو رع
ما نزال نعيش فى روعة وعظمة عهد الملك رمسيس الثانى، ونتعرف إلى المعروفات لنا من زوجاته العديدات، غير أن هذه المرة الملكة مختلفة تماما؛ فلم تكن مصرية كسابقتيها اللتين ذكرناهما من قبل، وأعنى الملكة إيست نفرت الأولى أو جميلة الجميلات، الملكة نفرتارى، وإنما كانت أميرة أجنبية من بلاد الحيثيين، مما يعنى أن مصر القديمة كانت مجتمعا منفتحا جدا ومتسامحا للغاية ومتعدد الثقافات والأعراق بشكل ليس له مثيل، وأن ملوكها البناؤون العظام آمنوا بتلك القيم والمبادىء وطبقوها فى حياتهم وحكم دولهم وممالكهم وعلى رعاياهم.
لقد كانت مصر القديمة فى «عهد» نجم الأرض الفرعون الأشهر الملك رمسيس الثانى القوة الضاربة العظمى فى الشرق الأدنى القديم، وإن أردنا الدقة يجب أن نصف زمنه بـ»عصر رمسيس الثانى» الذى كان علامة فارقة فى تاريخ مصر والشرق الأدنى القديم؛ نظرا لعظمة مصر وتجدد أمجادها مثل كانت فى عهود الملوك المصريين العظام، ملوك مصر الفاتحين أمثال تحوتمس الأول وتحوتمس الثالث وأمنحتب الثانى وتحوتمس الرابع إلى والده الملك سيتى الأول الفاتح العظيم، ولطول فترة حكمة، ولكثرة العمران والبناء والتشييد فى عهده، ولرخاء الإمبراطورية المصرية فى أرجائها الفسيحة على نطاق واسع. وكان الجميع يخشى قوة مصر العظمى ويهابها بشدة، ويرجو صداقتها بكل ما أُوتى من قوة، ويتطلع إلى السلام معها بأى ثمن وبأى شكل؛ نظرا لما كانت تمور به منطقة الشرق الأدنى القديم من صراعات عدة. وكانت هناك قوى دولية تظهر وأخرى تختفى غير أن مصر حافظت على قوتها وعظمتها فى القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وكان الحيثيون (أو الخِيتيون أهل ملكة خِيتى أو بلاد الأناضول فى تركيا وشمال سوريا) من القوى البازغة على مسرح الأحداث فى الشرق الأدنى القديم، وبدأت تتنافس مع مصر العظمى، وأحيانا تتطلع للاستيلاء على ممتلكات الإمبراطورية المصرية العريقة والمترامية الأطراف فى بلاد الشام. ثم دخلت مصر فى حروب مع الحيثيين انتهت بتوقيع معاهدة سلام بين رمسيس الثانى وملك الحيثيين الملك خاتوشِلى الثالث فى العام الحادى والعشرين من حكم رمسيس العظيم. وتعد هذه من أقدم معاهدات السلام فى التاريخ. وبناء عليها تم إنهاء الحرب الممتدة بين القوتين العظميين.
ومن المعروف عن الملك رمسيس الثانى أنه كان متعدد الزوجات، وأنه كان مولعا بالنساء بمنتهى الشدة؛ ولذا كان كثرت زيجاته من أميرات الشرق الأدنى القديم. وكان هذا الزواج يدخل فى نطاق ما يمكن أن نطلق عليه «الزواج الدبلوماسى»، وكان الهدف منه تكوين تحالفات سياسية وعسكرية بين القوى العظمى، التى كانت مصر على رأسها، وكذلك تدعيم أواصر المحبة والتواصل بين كبار الملوك فى المنطقة.
ومن هذا المنطلق، كان زواج نجم الأرض، الفرعون الأشهر، الملك رمسيس العظيم، وجه مصر الأشهر فى الشرق الأدنى القديم، من إحدى الأميرات الحيثيات الجميلات التى أعطاها الملك رمسيس الثانى اسما مصريا، وصارت ملكة مهمة من زوجاته الكبريات، وهى الملكة «ماآت حور نفرو رع». ولا نعرف اسمها الحيثى. ويعنى اسمها المصرى «التى ترى حور، الجمال الرائع للإله رع». وكانت هذه الملكة كبرى بنات الملك الحيثى خاتوشِلى الثالث وزوجته الملكة الحيثية «بودوخيبا». وتم الاتفاق على الزواج بين رمسيس العظيم والأميرة الحيثية. ودفع لها الملك المصرى مهرا كبيرا. ووصلت الأميرة إلى أرض مصر المباركة فى صحبة أمها الملكة «بودوخيبا». ودخلت إلى قصر الملك رمسيس العظيم فى العاصمة بر-رمسيس فى شرق الدلتا المصرية. وكان هدف الحيثيين من هذا الزواج أن يكون مقدمة لأواصر الصداقة والمحبة مع الملك المصرى رمسيس العظيم. وتك الاحتفال بمراسم الزاوج فى العام الرابع والثلاثين من حكم رمسيس العظيم المديد.
ومن عظيم تقدير الملك رمسيس الثانى للملك الحيثى خاتوشِلى الثالث وابنته أن أمر بنحت لوحة تذكارية تخليدا وتكريما لزواجه من تلك الأميرة الحيثية، والأهم أنه أمر بأن يتم نحتها فى واحد من أهم معابده الكبرى، وأعنى معبده الكبير الأشهر بأبوسمبل. وذُكر تحت الخرطوش الذى يحتوى على اسم الملكة الحيثية «ابنة الحاكم العظيم لخيتى». وعلى هذه اللوحة ذكر رمسيس العظيم عنها ما يلى :»الجميلة فى قلب جلالته، وأنه أحبها أكثر من أى شىء». وكانت هذه التعبيرات من العبارات المصرية التقليدية فى هذا السياق. وحملت الملكة من الألقاب الملكية لقب «سيدة الأرضين»، واللقب الأهم لقب «الزوجة الملكية الكبرى»، الذى ربما حصلت عليه بضغط من أبيها الملك الحيثى. غير أن النصوص المصرية كانت تذكرها دائما بالوصف التالى «ابنة الحاكم العظيم لخيتى». ويبدو أن هذا الوصف كان تمييزا وتقديرا وإعزارا لها ولوالدها الملك الحيثى، وليس تقليلا من شأنهما.
وأنجبت هذه الملكة طفلا، ربما كانت أنثى مما أغاظ والدها الملك الحيثى الذى كان يأمل أن تنجب ولى العهد لرمسيس العظيم. وماتت هذه الطفلة صغيرة.
غير أنها بعد فترة زمنية، تركت العاصمة بر رمسيس. وبنى لها الملك رمسيس العظيم قصرا منيفا فى ضيعة «مر ور» (مدينة غراب فى الفيوم حاليا) التى خصصها لها. وانسحبت من المشهد، وانضمت إلى الحريم الملكى فى مدينة غراب. وربما ماتت صغيرة ودُفنت فى مدينة غراب.
ومن الملاحظ أن الملكة الحيثية لم تظهر مع رمسيس العظيم فى آثاره كثيرا، بل إن بعض آثارها معه تعرض للتدمير ولا نعرف السبب وراء ذلك على وجه التحديد، وربما كانت غيرة سيدات البيت المصرى الحاكم وراء محو ذكراها من مصر. فعلى سبيل المثال، يوجد فى منطقة تانيس (صان الحجر بمحافظة الشرقية)، أحد التماثيل الضخمة المكسورة للملك رمسيس الثانى. وصورت عليه الملكة واقفة إلى يسار زوجها الملك، تلامس رجله اليسرى بيدها اليمنى، ونُقش اسمها فى خرطوش أمامها.
كانت ماآت حور نفرو رع ملكة غير مصرية ساهمت فى تلطيف الأجواء بين مصر وخِيتى، غير أنها لم تصل إلى حب نفرتارى فى قلب رمسيس العظيم، ولا إلى تقديره لإيست نفرت الأولى ولا لأبنائها. ولم تترك بصمتها على وجه التاريخ، وربما يعود ذلك لأصولها غير المصرية وعدم إنجابها ولى عهد للملك رمسيس العظيم.
البقية في العدد القادم