بقلم: د. حسين عبد البصير
الملكة نيت حتب
تمتعت المرأة في مصر القديمة بمكانة عالية لم تحظ بها مثيلاتها في العالم القديم، بل لم تحظ بها المرأة في العصر الحديث إلا منذ فترة قريبة. وكان دور المرأة في مصر القديمة كبيرًا ومهمًا للغاية؛ وكانت مساوية للرجل، ومشاركة له في الحياة، وملازمة له في العالم الآخر؛ إذ كان يرغب الرجال في العودة للحياة بصحبة زوجاتهم حتى يعيشوا حياة أبدية معهن.
وعرفت مصر القديمة عددًا كبيرًا من الملكات منذ أقدم العصور؛ ومنهم من كن زوجات ملوك أو كن ملكات حاكمات لفترات طالت أو قصرت، ومنهن من حفل التاريخ بذكراهن، ومنهن من لم تصل سيرتهن إلى أسماعنا.
وتعتبر الملكة الزوجة والملكة الأم الملكة العظيمة نيت حتب أقدم ملكات مصر القديمة إلى الآن. وكانت زوجة للملك نعرمر (أو نارمر كما يشتهر اسمه بيننا)، آخر ملوك عصر ما قبل الأسرات أو عصر التوحيد، ووالدة الملك الأشهر مينا، موحد القطرين. وترجع أصول تلك الملكة إلى دلتا نهر النيل الخالد. وكان زوجها الملك نعرمر من أهل صعيد مصر الأصيل. ويبدو أن هذا الملك الجنوبي كان قد تزوج من تلك الأميرة الشمالية كي يمهد الطريق لتوحيد قطري مصر: الشمال والجنوب، أو الدلتا والصعيد. وصور الملك نعرمر على صلايته الشهيرة، التي كانت تستخدم لصحن الكحل، منتصرًا على أهل الشمال. وعلى مقمعة نفس الملك، التي كان يقهر بها أعداءه، ربما تم تصوير تلك الأميرة الشمالية، نيت حتب، جالسة في جوسق مما قد يشير إلى إتمام مراسم الزواج بين ذلك الملك الجنوبي الأصل وتلك الأميرة الشمالية. وكانت تلك الملكة رفيقة كفاح زوجها الملك نعرمر في سبيل توحيد شطري مصر، غير أن الأقدار شاءت أن يتم ذلك التوحيد التاريخي لأرض مصر الخالدة على يديّ ابنهما، الملك حورعحا، أو الملك مينا.
وجاء من ثمرة ذلك الزواج المبارك الابن وولي العهد الملك، حورعحا (أي حورس المحارب) بعد ذلك، الذي حمل لقب «ِمني»، أو مينا كما نعرفه حاليًا، بمعنى «المثبت» الذي تمكن من توحيد مصر شمالًا وجنوبًا وبدأ العصور التاريخية في مصر، وكوّن الأسرة المصرية الأولى في حوالي عام 3000 قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام.
ومنذ ذلك الحين البعيد، نشأت الأمة المصرية الموحدة التي تكّون تاريخها على تلك الأرض المصرية المقدسة، ونشأت فيها الدولة المركزية، ولم تنقسم الأمة المصرية إلا قليلا، ولم تغير من دينها أو من لغتها إلا في مرات قليلة معدودات على عكس غيرها من الأمم في شتى بقاع الأرض. وتعد الأمة المصرية هي الأمة الوحيدة في ذلك الشأن الفريد على وجه الأرض قاطبة.
ويتضمن اسم تلك الملكة اسم المعبودة الشمالية الشهيرة، الربة «نيت»، التي كانت مرتبطة بالملكات المصريات منذ القدم. ويعني اسم الملكة «الربة نيت راضية» أو «الربة نيت راضية» أو «الربة نيت سعيدة». وتعتبر الربة نيت من الربات الحاميات، خصوصًا للشمال المصري. وفي هذا ما يؤكد على أن الملكة نيت حتب جاءت من الشمال. وكان مركز عبادة الربة نيت هو مدينة سايس أو مدينة صا الحجر في الدلتا الحالية. وكانت تلك الربة ترتدي التاج الأحمر الذي كان يرمز إلى الدلتا.
وتعددت الآثار التي حملت اسم الملكة نيت حتب في شمال مصر وجنوبها مثل حلوان وأبيدوس ونقادة. ولعل أهمها هو تلك المقبرة العظيمة التي تُنسب، أغلب الظن، لتلك الملكة والتي دفنها فيها ابنها الملك الموحد حورعحا في منطقة نقادة في محافظة قنا. وكانت أبعاد تلك المقبرة تزيد عن الخمسين مترًا في الطول وعن العشرين مترًا في العرض. وعُثر بداخل تلك المقبرة على العديد من الأثاث الجنائزي الذي كان يخص تلك الملكة مثل أدوات التجميل والأواني الحجرية والبطاقات العاجية وطبعات الأختام المصنوعة من الصلصال والتي تحمل أسماء زوجها الملك نعرمر وابنها الملك حورعحا والملكة نيت حتب نفسها. وكانت مقبرة تلك الملكة تحتوي على العديد من الحلي الذي دلنا على وجوده تلك البطاقات العاجية التي كان مدونًا عليها عدد العقود والأساور والأثاث الجنائزي والذي كات موضوعًا في صناديق بجوار جسد الملكة المتوفاة كي تستخدمها في العالم الآخر.
تلك ملكة ساهمت في تأسيس أمة وفي تكوين ملك عظيم وتوحيد ونشأة واستمرارية أمة عظيمة هي الأمة المصرية.
الملكة حرنيت
ما نزال في عصر الأسرة الأولى ومع ملكة مهمة من ملكات عصر الأسرات المبكرة وهي الملكة حرنيت. في حوالي عام 1900 ميلادية، قام عالم الآثار البريطاني الأشهر وأبو علم المصريات الحديث السير وليام فلندرز بتري بفحص مقبرة زوجها، أغلب الظن، الملك چر، ذلك الملك الذي حكم مصر بعد الملك حورعحا في عصر الأسرة الأولى. وتعتبر مقبرة الملك چر المقبرة الأكبر في منطقة أبيدوس (العرابة المدفونة في محافظة سوهاج الحالية). واكتشف وليام فلندرز بتري ذراعًا بشريًا ملفوفا باللفائف الكتانية ومزينًا بأربعة أساور من الذهب والتركواز والجمشت واللازورد وذات خرزات ذهبية عديدة. ويعد هذا الذراع البشري من أقدم الأشياء المحنطة في مصر القديمة. وبعد دراسة تلك القطع الأثرية اتضح أنه قد أخفى أحد اللصوص في العصور القديمة هذا الذراع وراء سلم المقبرة، فأنقذ تلك الكنوز الجميلة من السرقة التي حدثت للكثير من محتويات تلك المقبرة الملكية الكبيرة. وقادت قطع الحلي تلك العالم وليام فلندرز بتري إلى الافتراض أن هذا الذراع يخص إحدى زوجات الملك چر، وليس الملك چر نفسه، غير أنه من غير المؤكد إثبات صحة نظرية العالم بتري تلك.
وعندما وصلت تلك الأساور الثمينة إلى المتحف المصري بالقاهرة الذي كان تحت الإدارة الأجنبية آنذاك، ومن أجل عرض الأساور فقط، للأسف قام أمين المتحف إميل بروجش بالتخلص من الذراع البشري واللفائف الكتانية ورميها وعدم عرضها أو دراستها أو حتى حفظها للأجيال القادمة، وركز على الأساور التي أصبحت من أهم قطع الحلي المعروضة بالمتحف. وعلى الرغم من أن مقبرة الملك چر قد احتوت على بقايا جسد لامرأة غير معروفة – وكانت من بينها جمجمة تلك السيدة التي ماتت في سن صغيرة وربما كانت من الحريم الملكي الخاص بالملك چر – فإنها لم تكن لزوجته الملكة المعروفة حرنيت التي من المرجح أنها دُفنت في مقبرة أخرى بعيدة عن زوجها الملك مثلها في ذلك مثل كل الملكات زوجات ملوك عصر الأسرات المبكرة.
وتم اكتشاف مقبرة الملكة حرنيت في شمال مصر، وتحديدًا في منطقة سقارة الشمالية في محافظة الجيزة. وهي مقبرة كبيرة الحجم، وتقع في جبانة استخدمها النبلاء الذين كانوا يعملون في عاصمة البلاد التي كانت تسمى بـ»إنب حدج» أي «الجدار الأبيض» (والتي أُطلق عليها اسم «منف» أو «ممفيس» في اللغات الأوروبية بعد ذلك). ومن الجدير بالذكر أنه يُطلق على مقابر سقارة اسم «مصطبة»، وهو اسم أطلقه عمال الحفائر المصريون الذين كانوا يعملون مع علماء الآثار الأجانب؛ وذلك لأنها تشبه المصاطب الموجودة أمام بيوتهم في الريف المصري، خصوصًا في ريف الجيزة القريب من منطقة سقارة الأثرية. وكانت هذه المقابر أو المصاطب مليئة بكل أنواع القرابين والأطعمة التي كان يحتاج إليها المتوفى كي يستخدمها في العالم الآخر. وأدت ضخامة مقابر سقارة من ذلك العصر إلى الاعتقاد بأن هذه المقابر تخص ملوك عصر الأسرتين الأولى والثانية، غير أن الحقيقة الأثرية تشير إلى أن كل ملوك الأسرة الأولى وبعض ملوك الأسرة الثانية كانوا قد دُفنوا في جبانة أم الجعاب في منطقة أبيدوس في صعيد مصر الذي جاء منه أولئك الملوك الأوائل المؤسسون للدولة المصرية العريقة.
ونُقش اسم الملك چر على بعض الأواني في مقبرة زوجته الملكة حرنيت، وكذلك تم العثور على بعض الآثار التي تحمل اسم خليفته، الملك دن، ابنه من الملكة حرنيت، والملك قاعا، آخر ملك من ملوك الأسرة الأولى.
ويتضح من شكل مقبرة الملكة حرنيت من الخارج أنها عبارة عن مصطبة كبيرة من الطوب اللبن، غير أنه كان يوجد تل من الطمي يشبه الهرم وسط بناء المقبرة العلوي المستطيل الشكل. وتم تبطين المقبرة من الخارج بالطوب اللبن أيضًا. وتعد المقابر على شكل تلال إبداعًا قادمًا من الجنوب، بينما كان شكل المقابر على هيئة مصاطب اختراعًا شماليًا بحتًا. فهل جمعت الملكة حرنيت في مقبرتها بين هذين الأسلوبين المعماريين كي تؤكد بشكل رسمي على العلاقة الوطيدة بين شمال مصر وجنوبها؟ أم أن اختيارها جاء بناءً على التطور السريع للعمارة الجنائزية في ذلك العصر الذي ساهم في الوصول إلى فكرة بناء الأهرامات بعد ذلك؟ وأعني بذلك عصر الأسرة الثالثة عندما تم بناء الهرم المدرج في سقارة في عهد الملك زوسر.
تبقى الملكة حرنيت ملكة مهمة وحلقة وصل في سلسلة ملوك متتابعين في عصر مبكر كان يتم فيه إرساء دعائم وأسس الدولة المصرية بمنتهي القوة حين كان العالم في ظلمات المجهول بينما مصر تُبدع وتصوغ فجر الضمير للعالم كله وللإنسانية جمعاء.