بقلم: نعمة الله رياض
صديقي العزيز جميل الطلعة مورا ، شاهدته وهو يقفز بسرعة ، متنقلاً بين أشجار الغابة المتاخمة لقريتنا، علي خلاف قاطني القرية كان مورا أبيض البشرة ، قوي البنية ، سريع الحركة ، متوقد الذكاء، وكان يرتدى ملابس خفيفة للغاية تمكنه من تسلق الأشجار والفرار من الحيوانات المفترسة وتعقب واصطياد الحيوانات والطيور الصالحة للأكل .. كان يعيش معظم وقته في الغابة ويعتبرها مملكته الخاصة ، بل ان أهل القرية كانوا يعتبرونه بطل الغابة وحاميها ، وعندما جاء يعدو لمقابلتي ، كانت حبيبات العرق المتصبب من جبينه تزيد من حمرة وجنتيه، وحين أوشك أن يصطدم بي، سرت في جسدي قشعريرة ، شعرت بأن مورا ليس من نفس جنسي!
ولكن مورا كان يختلف عني ايضاً في الكثير من خبايا نفسه، فهو على خلاف أغلب فتيان القرية، كان دائم الذهول، وكأنه يعيش بيننا وينظر بعينيه إلى عالم آخر لا نعرف عنه شيئا. وما يزيد من غرابته لون عينيه اللتين يطغى عليهما اللون الأزرق والذي جعله حديث القرية كلها. كان مورا صديقي الذي اصاحبه في أيام العطلات الصيفية؛ أنا القادمة من زحام المدن، كنت شغوفة جدا به؛ الفتي الوسيم ، الأشقر ، أزرق العينين، مثل السماء الصافية ، كان شجاعاً لا يهاب احداً، وكان أهل القرية يحبونه ويكلفونه بالمهام الصعبة فينجزها بكل دقة وكمال .. كانت حياته بدائية للغاية ، وكنت أجد متعة في الجلوس والحديث معه، واشعر أن الضوء المنبعث من عينيه يعطيني احساساً بالبعد عن هذا العالم والانفصال عن نفسي وتحولي إلى مجرد طيف هائم. لذلك كثيرا ما كنت ألمس يده بحنان كي أنتقل إلى هذه العوالم التي أتصورها أشبه بالجنات.. سألت سيدة عجوز من سكان القرية عما تعرفه عن عائلة مورا فقالت : منذ ما يقرب من عشرين عاما سقطت طائرة صغيرة في الغابة ، كان يستقلها سائح مع زوجته وابنه الرضيع ، قتل السائح وزوجته على الفور ، ونجا الطفل من الموت بأعجوبة، عثر عليه أهالي قريتنا متكوراً ونائماً فوق كومة كبيرة من القش في مكان بعيد عن حطام الطائرة ، ذهبوا به إلي عائلة في القرية ليس لديها أطفال لترعاه، تجمع الأهالي حوله وعلت زغاريد النساء وهمهمات وابتسامات الرجال وأطلقوا عليه اسم مورا أي ثمرة البرية .. نشأ مورا وترعرع بيننا، ولم يعرف سوي قريتنا والغابة المتاخمة لها بأشجارها وحيوانتها وطيورها ، ولم يعرف ايضاً سوي لغة أهل القرية ، وكسب حب وصداقة الجميع من بشر وحيوان .. بمجرد انتشار نبأ سقوط الطائرة أرسلت الحكومة بعثة للتحقيق في ظروف حادث تحطمها ، وبعد بحث مضني في اماكن متفرقة من الغابة ، عثرت البعثة على حطام الطائرة وعلى جثتي السائح وزوجته ولم يعثروا على أي اثر لطفلهما الوليد ، فاعتبر مفقوداً ، لكن شقيق السائح القتيل لم يعترف بنتيجة التحقيق ، وأصر على معرفة كافة ظروف الحادث ومصير ابن اخيه الوليد مهما طال الزمن ومهما كانت التكلفة .. وكان السائح المتوفي ينتمي لعائلة واسعة الثراء وتمتلك اراضي وعقارات تدر عليها أموالاً طائلة ..في آخر المطاف وبعد بحث واستقصاء استمر لأكثر من عشرين عاماً، وصل شقيق السائح المتوفي إلي القرية التي يقيم فيها مورا وحكي له أهل القرية قصته ، وهنا تأكد أن مورا هو إبن أخيه المتوفي والذي كان يعتبر مفقوداً .. طلب شقيق الفقيد مقابلة مورا والتحدث معه عن طريق وسيط يترجم اللغة التي يتكلم بها مورا الي اللغة الإنجليزية ، وطلب من مورا أن يسافر معه إلي مسقط رأسه ، للتعرف على أهله ومعاينة ممتلكاته وأخبره أنه يستحق إرثا ضخما من حقه ونصيبه بدلا من غيره من الطامعين في الاستيلاء عليه بدون وجه حق.. تردد مورا في قبول العرض لإنه مغرم بحياته في البرية التي بها أصدقائه من الحيوانات والطيور ، ولا يعرف إلا قاطني القرية التي عاش فيها طيلة حياته .. لكن رجال القرية الحكماء اقنعوا مورا بالسفر للتعرف على أهله الذين من حقهم أن يروا ابنهم الذي كان مفقوداً.. لأول مرة في حياته يركب مع عمه سيارة تسير على عجل في طريقه للمطار وعندما شاهد الطائرة تهبط من السماء على ارض المطار ارتجف وكاد ان يغمي عليه من ذلك الطائر الضخم الذي يصدر أصوات عالية كهدير الشلالات !! ، صعد مورا مع عمة على سلم الطائرة بعد أن طمأنه عمه وهو يضحك !! كان في استقبالهما بالترحاب عند الوصول زوجة عمه وابنتها روجينا التي تصغر مورا بسنتين.. أفهمته روجينا أنها ستتولى تعليمه اللغة الإنجليزية ليتخاطب بواسطتها مع مجتمعه الجديد .. مرت الأيام والشهور حتي إتقن مورا الإنجليزية ، كذلك درس الوضع الإنتاجي والمالي لممتلكات العائلة ، وأظهر براعة في الإلمام بمشاكل العمل والإنتاج بمساعدة روجينا ، التي كانت معجبة بمورا أيما إعجاب ، وتطور الإعجاب إلي حب من الطرفين ، كان مورا يراها كل يوم ولا يطيق البعاد عنها، فكانا يأكلان معاً ، ويقومان بالتنزه معاً ، وكانت روجينا تقرأ لمورا الأخبار في الصحف ، قالت له ذات يوم :- مورا أنت بالتأكيد تحب الحيوانات والطيور ولا تكف عن ملاحظتهم وتتبع إخبارهم – نعم يا روجينا ، إنهم كل حياتي عندما كنت أعيش في الغابة وقد صادقت ما يحيا فيها من حيوانات مفترسة وأصبحنا لا نخاف من بعضنا ، لكني أتعجب لماذا تتعاملون معهم باستعلاء بإعتباركم الجنس المتفوق والمهيمن على الأرض – كيف ذلك ؟
- خذي مثلا الخيل ، لقد دربوها على جر العربات التي تحمل البشر والبضائع وإستعملوا القسوة والكرابيج في إجبارها على التحرك بسرعة رغم ثقل الحمولة ، كما نظموا سباقات بين الأحصنة المميزة ، بل إنهم يدربون بعض الأحصنة على آداء حركات صعبة في السيرك ، فقط لتسليتهم وإرضاء غرورهم، والغريب والمحزن ، انه إذا أصيب حصان في السباق أو في السيرك ، أو حتي وهو يجر عربة وأصبح غير صالح لما درب عليه ، لا يترددوا في قتله بدون شفقة او رحمة توفيرا لنفقات إعالته !! واستطرد قائلا : -اني أستنكر كذلك ما يفعله العلماء من إخضاع الحيوانات للتجارب المميتة والاستهانة بأرواحهم .. ذات يوم طلب مدير الإنتاج من مورا مرافقته لزيارة مذبح الماشية والأبقار، فهاله ما شاهده من قسوة مفرطة على الحيوانات وهي تساق بالعصي للذبح وتعدوا وهي تصيح مذعورة ، أسرع مورا بمغادرة المكان وهو يكاد يبكي .. عاد لمنزله وخلع ملابسه وحل ربطة عنقه التي كانت تقيده وتخنقه.. لقد عاش طوال حياته حراً ، عاش على سجيته يحب الطبيعة بما فيها من مخلوقات ، وها هو يشاهد العالم ، الذي يسمى متحضراً، يعامل الحيوانات بقسوة تؤدي في أحيان كثيرة بأرواحهم بغير قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم .. بعد تفكير ، طلب من عمه أن يسافر ليزور قريته التي نشأ فيها .. وصل إلي القرية ولم يمكث فيها سوي عدة أسابيع حتي فوجئ بابنة عمه روجينا تطرق باب منزله في القرية وتخبره انها ستبقي معه أينما ذهب ، فإحتضنها وقبلها.. وهكذا تزوج مورا وروجينا وعاشا معاً في سعادة في القرية ، وكرسا حياتهما في الإشراف على مشروعات تخدم أهل القرية والقري المجاورة باستخدام أموال الإرث الذي حصل عليها مورا وزوجته روجينا …