بقلم: ربيع الدبس
ما الوطنيةُ ومعيارها؟ ما الدولة ونشيدُها؟ ما السيادة مع الاحتلال؟ وما الأرض بلا كرامة أهلها؟ ما التضحية بلا شهداء وما الأمل بلا ألم؟ ما الإعلام بلا انتماء وما السياسة بلا قِيَم؟ ما لبنان بلا شهادة الجنوب الأَعطَر؟ ما لبنان وفلسطين بلا انحياز دامغ لحقهما في وجه العدوان الباطل؟ وما الشام إذا مُنِعَتْ جولانَها وسويداءَها في الجنوب، بعد أنِ احتُلََ إسكندرونها وسائر الشمال تمهيداً لمصادرة إرادتها الميسلونية المخنوقة؟ ما الانحياز بلا موقفٍ وعطاءٍ وقوةِ ردع؟ ما التراب الوطني سوى قبرٍ إنْ لم تُعَمِّده بطولةُ الأحياء؟ ما اللغةُ بلا روح، والروحُ بلا قضية، والقلب بلا نبض، والمواطن بلا شعور، والموقف بلا بصمةٍ ناجزة، والوعي بلا صراع يترجِم درءَ المُدرَكات من الخطَر؟
ما اللغة استتباعاً؟ وأينَ يخفق إيقاعُها؟ في اللفظ أم في المعنى، في الحَرف الظاهر أم في الباطن الأعمق؟ في نُبل الوفاء أم في حقارة الخيانة؟ في الكيد أم في الحب؟ في حقيقة النزْفِ أم في خدعة المزايدة؟ في اللَّغْو الأجوَف أم في الدّم الأفصح؟ في الأبواق المُسَوِّغة للاحتلال أم في المبادرة الداعمة للتحرير؟ في الدلالة الأخلاقية أم في التجرد من المسؤولية؟ في الوجدان أم في الأذُن واللسان، في عقلنة الإنسان الرائي أم في نزعة التفرج واللامبالاة؟
واللغة، أي لغة، تتخطَّى كونها لغة تواصُل. اللغة تُبَرعِم في الموقف، وتُزهِر في المعنى. وهي بتجلياتها الأبلَغِ أسبقُ من الفكر كما ارتأى نقّاد كبار، فالفكر لا يستقيم مادةً معرفيةً إلا بها. هذه الرؤية تنطبق على الفلسفة والشِّعر والنثر والنحت والفن والموسيقى والإدراكات عموماً، لأن لكل من هذه الحقول الإنتاجية لغته، وتعبيره، وإزميله، وحَفْرَه الجمالي. أليس الرقص على سبيل المثال نزهةً نفسية بِلُغة الجسد؟ أليستِ الموسيقى لغةَ النّفْس بكل ما فيها من أفكار ومشاعر؟ ألم يقُل حتى مُنَظّرُ القوة المُطلقة، الألماني المُلحد الذي ترك بصماتٍ علّامةً في البنيان الفلسفي الغربي، فريدريك نيتشه:”إن الله خلق العالَم ليستمع إلى سمفونية بيتهوفن الخامسة”؟
قد لا يكون من مهامنا اليوم أن نتحدث عن تاريخ لغتنا، لغة الضاد، الفصيحة بالمقاييس كافةً، مهما اعترى الأجيالَ الجديدةَ نفورٌ جائر من قواعدها، ومهما أثبتتْ قوافلُ الفاشلين من مُدَرّسيها حجم الجريمة التربوية والحضارية بحق الكنوز الخبيئة التي تنطوي عليها، والتي لم يُتَح لبوارقها أن تنعكس في عقول الطلاب وقلوبهم شغفاً خلّاقاً لا يقذفه في الصدور إلا حَمَلةُ الرسالات، الموقنون أن مسؤوليتهم التنويرية أعلى قدراً من مهنة الارتزاق. قال المستنير العبقري، منذ ألف عام، أبو العلاء المعري: “إن الشبيبة نارٌ إنْ أردتَ بها – أمراً فبادِرهُ إنّ الدهر مُطفِئُها” .
ما من ريب في أن إقرارنا بأن اللغة وعاء الفكر وجِسرُ عبوره إلى الخلود لا يعني الدعوة إلى عبادة النصوص التراثية بل العكس تماماً. صحيح أننا نستلهم التراث في مرتفعاته المضيئة، لكن ذلك لا يمنع عنا أوكسجين الابتكار. فنحن لا نريد أن نُصَنَّف بين الشعوب الجامدة التي يستعمر ماضيها حاضرَها. ولا بد من التفاعل الواعي مع اللغات والثقافات الأخرى. وليس صدفةً أن يتضمن القرآن الكريم ألفاظاً ذات جذور سريانية أو فارسية أو عبرية، من دون أن يؤثر ذلك على بلاغته المشهودة. لِنَسُقْ، فحسب، نَص الآية المكثفة معنًى ومبنى، عن ضرورة البِرّ بالأهل: “وقضى ربك ألّا تعبدوا إلا إياه، بالوالِدَيْن إحساناً. إمّا يبلُغَنّ عندك الكبَر أحدُهما أو كلاهما فلا تَقُلْ لهما أفٍّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفضْ لهما جناح الذل من الرحمة وقلْ ربِّ ارحمهما كما ربّياني صغيراً.”
من هنا أهمية اعتبار التراث سِجِلاًّ حضارياً للإنسانية كَكُل، لا تراكُمَ إنتاج تغيب عنه معايير الإبداع، منذ الأبجدية الأولى وملحمة جلجامش إلى المثلث الإغريقي الأخلاقي، إلى زينون والمدرسة الرواقية، فبوذا وكونفوشيوس، إلى دانتي وشكسبير وغوته وفلوبير ودوستويفسكي، إلى روائع المؤلفين الموسيقيين، إلى عُلماء الألسُنية والأدباء- المنارات لا الأدباء -المرايا… هل يمكن -عربياً- طمْسُ كتاب “نهج البلاغة”، أو قصائد المتنبي مثلاً، أو لغوياتِ الجرجاني، أو مرجعية سيبويه بين النُّحاة، أو دورِ ابن خلدون التأسيسي في فلسفة التاريخ وعِلم الاجتماع، أو التنكُّر للتراث الصوفي الرائع، أو لعُلماء الطِب والفلك والرياضيات والأنساب، بل كيف يمكننا، افتراضاً، المرورُ العابر على الموشحات الأندلسية؟ أليس في الديوان العربي المعاصر كوكبة من الأعلام الذين وشّحوا مؤلفاتهم بالفكر قبل اللغة، ولوَّنُوا مؤلفاتهم باللون الإنساني العام من دون أن يَقْلبوا ظهر المِجَنّ لقومهم وأُمتهم؟ وربما كانت أسماء محددة أكثر جذباً للقراء من آخرين دون أن يعطي ذلك أفضلية لأصحابها لأن الشهرة غيرُ القيمة، ومن دون أن نُغفل قافلة فياضة بالمبدعين والمبدعات، من لبنان وسورية وفلسطين والعراق وشمالي إفريقيا وسائر الأقطار العربية، ويضيق بنا المجال لو اعتمدنا التعداد والتفصيل.
قد ينبري بعضنا إلى القول إن في هذا الطرح مزْجاً ما بين اللغة والأدب والفلسفة والعِلم والفن. لكنّ الواقع هو أن ذلك ليس مزجاً بمقدار ما هو تفاعُل خلّاق في الصحن المعرفي الواحد. فليس مِن أدب عظيم بلا فكر عظيم، وليس من لؤلؤ في البحر إلا حيث الأعماق والأغوار…وإذا كنا نؤكد على أصول اللغة ونحوها وبهاء أسلوبها، فإننا معنيون باللغة البنّاءة لا باللغة الخشبية. فاللغة أداة تفكير ومنصّة تنمية. هذا يفيد أنها عامل نهوض وحافز تنوير أكثر من كونها عِلْمَ كلامٍ أو مستودعَ تفسيراتٍ غرقَى في معتقلات الماضي والموروث المقدَّس.
تقول الطبيبة المثقفة الراحلة نوال السعداوي في توصيف للمعرفة، مغايرٍ للمألوف: “المعرفة هي إثارة عدم الرضا في نفْس الانسان من أجل أن يعمل على تغيير حياته إلى الأفضل”. وهي تقصد أن المعرفة غائية، أي أنّ لها غاية كما لكل قفزة نوعية في مسيرة الحضارة. وربطاً بأبعاد هذا المفهوم، قال السفير السعودي الأسبق في لندن الباحث عبد الله القصيمي في كتابه الذائع الصيت (العرب ظاهرة صوتية) إن الشعوب جميعها تلد الأجيال الجديدة باستثناء العرب الذين يلدون آباءهم وأجدادهم. وهذه في رأيي دعوة جريئة للتحرك الواجب من فقه التخلف الى فقه التقدم، من أضلاع الحروف الصدِئة إلى فيحاء الفكر الملتهب بحرارة التخطّي.
ربما كان غيرَ جائز لنا حتى في ضوابط الوقت المحدد أن نطوي وُرَيقات هذا النص بدون عيّنة شعرية أو نثرية، قديمة أو حديثة، تغذّي حاجة الذهن والقلب والأُذُن إلى معدن الأصالات، وتُعرب عن الثراء الفني والمعرفي للعربية الفصحى وبعض مقطوعاتها المُنَدّاة بخمرة القلب المُدَمّى. يقول شاعر القصيدة اليتيمة (المختلَف حول هويته) في أبياتٍ يتجلى فيها الغزل الأخّاذ ولو في بيئة صحراوية:
إنْ لم يكن وصلٌ لديكِ لنا يشفي الصبابة فلْيكنْ وعدُ
ضدّانِ لما اسْتُجمعا حَسُنا والضدّ يظهر حسنَه الضدُّ
إنْ تُتْهِمي فتِهامةٌ وطني أو تُنْجِدي إنّ الهوى نَجْدُ
أما المتنبي فيقول في مديح بدر بن عمار، مما لا يُدَرّسه ولا يَدرُسه معظم العرب:
وتوقّدَتْ أنفاسنا حتى لقد أشفقتُ تحترق العواذل بيننا
أرِجَ الطريق فما مررتَ بموضعٍ إلا أقام به الشذى مستوطِنا
مستنبطاً في عِلمه ما في غدٍ فكأن ما سيكون فيه دُوِّنا
وأمَرُّ من فقْدِ الأحبة عنده فَقْدُ السيوف الفاقداتِ الأجفُنا
في مقلب آخر، يطل علينا نجيب محفوظ الذي حاول اغتيالَه أُمّيٌّ بحجة روايته “أولاد حارتنا” التي لم يطّلع عليها الجاني، والتي بجرأتها وصدقها مكَّنَتْ محفوظ من أن يكون أول عربي ينال جائزة نوبل للآداب. هوذا يقول في حكمة مؤثرة: “عندما ترحل الأمهات، تصدأ الأِبر التي تخيط الجراح”.
ولا شك أن جبران خليل جبران أشهرُ من أن نُعرّف القراء بنتاجه نظراً لرواج كتابَيه الأكثر مبيعاً وهما “النبيّ” و “حديقة النبيّ”، على أنه يبقى الشجرة الأكثر قطوفاً في بستان “الرابطة القلمية” الحافل بتجُّدد الثمار. لذلك سنتلو مقطعاً قصيراً آسراً لميخائيل نعيمه من كتابه “كرم على درب”. يقول نعيمه، صاحب (مِرداد) الذي ندر قُرّاؤه هو أيضاً: “سمعتُ حواراً بين زنجي صغير وأمه.
الطفل: لماذا نحن سُود يا أُمّاه؟
الأم: لأننا في حِداد يا بُنَي.
الطفل: ومتى نَخلع الحِداد يا أُمّاه؟
الأم: يومَ تسْوَدُّ وجوههم خجلاً منا، فَتَبْيَضُّ وجوهنا عطفاً عليهم”.
نختار أيضاً نصاً يبتهل فيه إلى الخالق، من معبد القيم الروحية الواحدة، الشاعرُ والسفير الراحل عمر أبو ريشة، جاء فيه:
عاينتُ في مجلاه سِرّ حقيقتي وأخذتُ من دنياه ما أعطاني
ومشيتُ في الدنيا وتحت مواطئي ما كنتُ أعبده من الأوثانِ
أنا في هُداه طويتُ سِفْر ضلالتي وحملتُ إنجيلي إلى قرآني
ودخلتُ هيكله الرحيب فكان لي فيه صلاةُ المُسْلمِ النصراني
خاتمة: لعلّ أفصحَ ما في اللغة مرتسِم على الجباه، جباه الناطقين بها انخفاضاً أوِ ارتفاعاً، في منظومة الحياة المعيارية للسلوك والمفاهيم. وما مِن حياة مؤثرة بلا صدقية، أو مِن قضية بلا ثوابت معنوية، فالمعنى هدفُ اللغةِ الاستراتيجيُّ الأول. صحيح أن اللغة كائن متحرك متجدد، أنتجته المجتمعات معتبرة إياه تجلياً مرتبطاً بشخصيتها الحضارية ومنجزاتها التمدّنية المطلوب تحصينها، لكنْ ذلك التحصين مَنُوط بالضمير الحي وبالصدق مع الذات والمجتمع، بل بالعقل النقدي والتصالح المثمر مع إيجابيات الحداثة من دون أن نتبنّى سلبياتها. إلا أن هذا الكائن الحي لا بدّ له من أن يتطور حتى لا يتقعّر ويضمحل. من هنا أهمية التهوِية المدروسة لمُعجمنا اللغوي الذي يستحيل إغلاقه على الأوابد. لكن الكائن الحيّ لا يمكن أن يفقد المزايا التي يتصف بها الناطقون بنبض هذا الكائن اللغوي الحي، وهو عندنا اللسانُ العربي المُبين. فاللفظة قد يتعدّل راهنُ إيقاعها وفقاً لحركة المجتمع في مسار التطور، لكن دلالة المعنى الحقيقية تظل هيَ هيَ، فالوفاء هو الوفاء، والغدر هو الغدر. الحق هو الحق والباطل هو الباطل. ومِنَ الخُلْف المنطقي أن ينشقّ من اللفظة أو من عِلم المعاني ما يجافي طبيعتهما الجوهرية. هكذا يتقاطع الفِكر بالفِعل، واللغةُ بالموقف، إذْ لا صلاح للحياة الإنسانية بدون جدلية التفاعل والتكامل.