أقيم مساء يوم الثلاثاء الموافق 28 نوفمبر / تشرين الثاني اللقاء الأول لمنتدى اللغة العربية وآدابها والذي قاما باستضافته في منزلهم العامر الدكتور هناد نويلاتي وحرمه السيدة ضحى حناوي بحضور لفيف كبير من المهتمين بشأن اللغة العربية من الشعراء والأدباء ورجال العلم والثقافة، وكان عنوان اللقاء “اللغة العربية ومقامها بين اللغات” بقلم الشاعر اللبناني الكبير وسام جرداق الذي أناب عنه في تقديم هذا الموضوع الأستاذ أسامة أبو شقرا وحسَّان عبد الله لظروف صحية طارئة، وقد بدأ عرض الموضوع على النحو التالي:
اللغة العربية ومقامها بين اللغات
تعرف مجموعة من لغات العالم اليوم باسم: (اللغات السامية)، وقد كانت مستعملةً وسائدةً منذ زمنٍ بعيد، في كلٍ من آسيا وإفريقيا، ومنها ما يزالُ حيًّا يتحدثُ به الكثيرُ من الملايين، ومنها ما قد زالَ واندثرَ مع الزمن. وتملكُ هذه اللغاتُ كنوزًا من الغنى في الأدبِ والعلمِ والثقافةِ، وبوجودِ اللغةِ العربيةِ في طليعتِها تعدُّ من أرقى اللغات.
وتقسمُ إلى أربعةِ أقسامٍ رئيسية:
– القسمُ الشرقيُّ: الأكدِيّةُ والأشورِيَّة.
– القسمُ الغربيُّ الكنعانيُّ: الفينيقية والعبرية والأوغاريتية والفروع.
– القسمُ الغربيُّ الآرامي: السريانية والتدمرية والنبطية وفروع كلٍّ منها.
– القسمُ الجنوبيُّ العربي: العربية العدنانية (لهجة قريش) والعربية القديمة والقحطانية والحِمْيَرِية والمَعِينية والسَّبئية والفروع. ولهجات القسم الحبشي: الأثيوبية الجَعْزية والتِيجَرية والهررية والفروع.
إنَّ أول من لاحظ وجود القرابة بين تلك اللغات جميعًا وسمّاها بالسامية، هو العالم المستشرق الألماني شلوتزر (Schlozer) إذ أن جميع هذه اللغات كانت قد اشْتُقت من لغةٍ أولى وأمِّ واحدةٍ، هي السامية الأولى التي انقرضت منذ زمانٍ بعيدٍ وتصعبُ الآن معرفتُها، وكان جميع مُتكلِّمِيها أمةً واحدةً ويعيشون في مكان واحد، ثم هاجروا إلى أمكنةٍ وأوطانٍ مختلفةٍ. ومع الزمنِ تشعبت لغتُهمُ الواحدةُ إلى لغاتٍ متعددة يختلف بعضها عن بعض في عدة وجوه وبدرجات متفاوتة، إلّا أنَّ هناك قواسم كثيرةً مشتركةً وأساسيةً ومهمّةً ما زالتْ قائمةً وتجمعُ فيما بينها.
ويعتقدُ بعضُ الباحثين أن الوطن الأصلي لهؤلاء الساميّين هو بلاد ما بين النهرين بدليل أنَّ هناك كلماتٍ مشتركةً في اللغات السامية تتعلق بالبيئة والمعيشة والأجواء العمرانية والنباتية كانت تستعملها شعوبُ تلك المنطقة ثم أخذها عنهم في ذلك الساميُّون، فيعارضهم المستشرق الألماني نولدكه (Theodor Noldke) ويقول: إنه من غير المجدي الاعتمادُ في تأكيد حقيقة كهذه، على بضع كلمات لا نستطيع أن نثبت أن جميع الأمم الساميِّة كانت قد أخذت بها. غير أن الكثيرَ من كبارِ العلماء المستشرقين من قدامى وحديثين يرون أن الوطنَ الأصليَّ للساميّين هو الجزيرةُ العربيةُ في قسمها الجنوبي الغربي، ومن أصحاب هذا الرأيِ أيضًا إرنيست رينان (Renan) وبروكلمن (Brockelmann) ووليم رايت (Wright) وسيس (Sayce) صاحب الأجرومية الأشورية (Assyrian grammar). إن جميع التقاليد السامية تدلُّ على أن بلاد العرب هي الموطن الأصلي للساميّين فهو البلد الذي ظلَّ منذ زمان بعيد ضاربٍ في القدم خاصًا بهم وما زال. ومما يزيد في هذا الاعتقاد ما يبدو من وحدة في طريقة التفكير، وما يُلحظُ من الظواهر اللغوية، وتميُّزٍ في الذهنية السامية، والعقليةِ الواحدةِ القديمةِ التي تعتمد على الملموس والمنظور وتستخرج منه المجردَ المعنويَّ المتخيَّلَ، ثم الاشتراكِ بالطَّابعِ الفكريِّ الذي هو من وحيِ الصحراءِ وحياة البادية. وقد استمدت الشعوبُ الساميّة عقليتَها هذه وأسلوبَ تفكيرِها من تلك الظروفِ البيئيةِ الواحدةِ في الجنوب العربي من شبه الجزيرة العربية. وقد ساهمت الكتابات والنقوش القديمة التي تركتها قبائل عادٍ وثمود في بعض الأمكنة، في الكشف عن تاريخ اللغات الساميّة بشكلٍ عام واللغة العربية بشكل خاص. ولما اكتشف العلماء المستشرقون ذلك الارتباط الوثيق في الصلة البادي في المظاهر اللغوية الموحدة أجمعوا على أنها جميعها مشتقةٌ من لغة واحدة أولى هي أمٌّ لجميع تلك اللغات وقد تفرع عن هذه الأمِّ لهجاتٌ مختلفة أصبحت كلُّ واحدةٍ منهنَّ فيما بعد لغةً خاصّةً ومختلفة، أي بعد أن تفرّع أبناؤها وتوزعوا وهاجر كلٌّ منهم إلى مكانٍ معين.
وكان الاعتقادُ السائدُ في العصور القديمة عند أحبار اليهود أنَّ اللغة العِبرية هي الأقدمُ بين لغات العالم، وقد شاركهم في هذا الاعتقاد قسمٌ من عرب القرون الوسطى. غير أنَّ هناك اتجاهًا آخرَ يرى أن الأكدية هي أمُّ اللغاتِ الساميّةِ جميعِها، وقد أضعفَ البحثُ العلميُّ هذا الاعتقاد إذ برهن أن ألفاظها ليست ساميةً خالصة بل طُعِّمت بالكثير من السومرية التي كانت ممتزجة بلغات سكان بابل الأصليين والمتعددين بحيث يتعذّر تمييزُها عن غيرها. ويقول المستشرق أولسهاوزن (Olshausen) في مقدمة كتابه عن اللغة العبرية: إنَّ أقرب اللغات الساميّة إلى اللغة الساميّة الأمّ، أي القديمة، هي اللغة العربية. وقد أعطى أولسهاوزن رأيه هذا مُرفَقًا بعدد كبير من الأدلة الوجيهة المُقنِعة في مقدمة كتابه ذاك، وقد أجمع على تأييدها الكثيرُ من العلماء المستشرقين ووافقوا عليها. ومن تلك الأدلّة أنّ اللغة العربية هي أغنى اللغات الساميّة بمفردات الأصل السامي الأول القديم. وظاهرة هذا الغنى سببُها نشوء وبقاء اللغة العربية في مكانٍ منعزلٍ، فلم يكن لها فُرصُ الاتصالِ بلغاتٍ أخرى والابتعادِ عن أصلها السامي.
ثم إنّ رينان وبروكلمن يريان في الجو الداخلي والصفاء النقي لبلاد العرب، والرشاقة الجسدية والقوام الممشوق الجميل لسكانها ما يؤكد حقيقةً لا جدل فيها، أن اللغة العربية وإنسانَها هما أقرب ما يكون إلى الأصل السامي. وقد أيدهما في هذا الرأي أيضًا العالم الهولندي المستشرق دي جوج (De Goege) .
وقد جاء في كتاب “اللغة العبرية” للأستاذ ربحي كمال ، أنَّ في مقدمة كتاب “الأساس في الأمم السامية ولغاتها” للدكتور علي العناني: أن المهدَ الأول للساميين هو وسط الجزيرة العربية وجنوبُها، أي بلاد العرب حيث نشأ الساميون الأُوَل في عهود ما قبل التاريخ وفي فجره.
استنادًا إلى هذا يكون الساميون جميعًا من الأصل العربي ولغتُهم عربيةً قديمةً وأُمًّا للساميَّات، وأن موقع اللهجات الساميَّة من اللغة العربية هو موقع الفروع من الأصل. ويؤيد هذا الرأي أيضًا ما جاء به الدكتور ولفنستون في جداوله الإحصائية للألفاظ المشتركة في جميع اللغات السامية مثل: سماء، شمس، أرض، أخ، اسم، بيت، ثور، جمل، ليل، ماء، ولد، إلى المئات من الأسماء، وعددٌ كبيرٌ من أحرفِ الجرّ والأدواتِ، ثم ضمائرُ الرفع المنفصلة وأسماءُ الإشارة وضمائرُ النصب المنفصلة والمتصلة.
ويرى العلامة جرجي زيدان في كتابه “طبقات الأمم”: “أنَّ اللغة ترتقي فتتولد فيها مميزاتُ الجنسِ والعددِ والاشتقاقِ كما نرى في اللغات السامية (ما عدا العربية) فإن فيها الاشتقاق ومميزات الجنس في الأسماء والنعوت وأشباهها، ولكننا نرى فيها أيضًا نقصًا تشارك فيه اللغة المصرية القديمة كخلوها من صيغ التفضيل، فالصفة المشبِّهة في تلك اللغات تقوم مقام أنواع التفضيل الثلاثة، فيقولون مثلا في الصفة المشبِّهة: هذا حسن، وفي أفعل التفضيل هذا حسن من ذلك ويقصدون: هذا أحسن من ذلك، وإذا أرادوا تفضيل الفرد على سائر أفراد قومه قالوا ما يماثل قولنا (ملك الملوك) ويقصدون به قولنا (أعظم الملوك أو الأعظم بين الملوك).” ثم ترتقي اللغات درجة أخرى فتتم فيها كل هذه المميزات مع خلوها من حالات الإعراب، وهذه هي حالات اللغات الآرية الحديثة، وتشمل لغات أوروبا، ولا يميز بين الرفع والنصب والجر، وإنما يقوم مقامَها إلحاق أدوات خاصة بذلك، ومعظمها من حروف الجر، أو بتقديم الألفاظ وتأخيرها، وكذلك لغتنا العاميّة نظرًا لإهمال حركات الإعراب فأصبحت من هذا النوع. هذا ما يراه العلامة جرجي زيدان في كتابه “طبقات الأمم”. ثم يعود ويقول في مؤلفه الآخر “كتاب الفلسفة اللغوية” (ص 5): بأن أعلى درجة رقيٍّ وصلت إليها اللغات حتى الآن هي درجةُ وجودِ مميزاتِ الإعراب فيها، وهي حالُ اللغة العربية الفصحى (لهجة قريش) واللغات: اللاتينية واليونانية والألمانية، فإن تقديم الألفاظ وتأخيرَها لا يؤثران في المعنى المقصود من العبارة إذا حُفِظت فيها حركات الإعراب.
أما نحن فنضيف، ولو بلغة الشعر، إلى قول هذا العلامة الكبير ورأيهِ في اللغة العربية، وقد استعرضنا وعرضنا ما جاء به الباحثون من مشارقة وغربيين ومستشرقين وعرضنا آراءهم وأقوالهم: إن اللغة العربية هي أمٌّ لكل إنسانٍ مهما كان عرقُه ودينُه ووطنُه وموقِعُه ولغتُه. وبها أبصرنا الموجودات وعرفنا أسماءها ونشأنا عليها صغارًا، وأبصرنا بها النور والحياة وبها أحببنا الإنسان، كلُّ إنسانٍ، وفهمنا معاني الأمور الملموسة والمجردة، فسرت سريانَ الدماء في عروقنا، وهي التي بنت عقلنا وحِسَّنا وعواطفنا وأرواحنا وشعورنا وأوسعت بها لآداب الأرض والعالمين وعلومهم وثقافاتهم.
لقد أوصى بها ربُّ العالمين، وبارك كمالها وكفاآتِها وثبَّتها وحماها من سُنِّة التغيُرِ والتغيير، فوسعت آداب الأرض وعلومَها وثقافاتِها، وجعلَ في نصوصها وحيًا بقواعدها، فبلاغتها ماثلة في مثولها، وبيانها بيِّنٌ في بيانها، وسيماهُها في وجهها.
وسام جرداق