بقلم / مسعود معلوف
سفير متقاعد
أود التوضيح، بادئ ذي بدء، أنني أرفض رفضا تاما قتل المدنيين الأبرياء وخاصة الأطفال في أية عمليات عسكرية أو أي هجوم مهما كانت الأسباب وفي أي مكان كان. هذا موقف مبدئي لا جدال فيه!
بعد تنفيذ عملية “طوفان الأقصى” من قبل حركة حماس داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، استغل الإسرائيليون مقتل مدنيين من بينهم أطفال ونساء، وجندوا الإعلام الغربي المؤيد لهم لإظهار “وحشية” حماس وما تشكله هذه الحركة من خطر على المواطنين الإسرائيليين، وحصلت بذلك على تأييد مطلق من معظم الدول وفي طليعتها الولايات المتحدة، حيث سارعت هذه الأخيرة الى إيفاد أكبر حاملة طائرات في العالم الى الشواطئ الإسرائيلية دعما للدولة العبرية.
وقد تجلى التأييد الأميركي الأعمى لإسرائيل بزيارات متكررة لوزير الخارجية أنطوني بلنكن ووزير الدفاع للويد أوستن، كما سارع الرئيس الأميركي جو بايدن بعد أيام قليلة على عملية حماس للقيام بزيارة الى إسرائيل حيث تجاوز خلافاته السابقة مع نتنياهو وأكد الدعم الأميركي غير المحدود بالسلاح والمال لتمكين إسرائيل من استعمال حقها وواجبها في “الدفاع عن نفسها”.
لقد استغلت إسرائيل هذا التأييد الواسع لها من معظم الدول الغربية واكتفاء معظم الدول العربية بإصدار بيانات ومواقف لا مفاعيل لها على أرض الواقع، خاصة وأن الدول العربية التي طبعت علاقاتها مع إسرائيل لم تقم حتى بالتهديد بسحب السفراء وقطع العلاقات الدبلوماسية بالرغم من أن إسرائيل والولايات المتحدة تعلق أهمية كبرى على التطبيع، وإدارة بايدن كانت وما زالت تسعى الى توسيع عمليات التطبيع ليشمل أيضا المملكة العربية السعودية.
هذا التأييد التام وغير المحدود لإسرائيل في الأسابيع الأولى لعملياتها الإنتقامية الوحشية ضد قطاع غزة، والتشجيع الأميركي لإسرائيل للقضاء على حركة حماس التي تعتبرها الولايات المتحدة “منظمة إرهابية” منذ العام 1997، فسرته إسرائيل على انه موافقة ليس فقط للقضاء على حماس ولكن أيضا للقضاء على الفلسطينيين في قطاع غزة، فقامت بما قامت به من تدمير داخل القطاع وخارجه مع قصف ممنهج للمدنيين الذين يحاولون الإنتقال الى حيث تفرض عليهم إسرائيل ذلك، مع قطع متعمد للكهرباء والماء والوقود والغذاء، ما أدى الى مقتل حوالى عشرين ألفا من المواطنين الفلسطينيين الأبرياء معظمهم – دون أية مبالغة – من النساء والأطفال.
نتيجة لهذه الأعمال الوحشية التي ما زالت تنفذها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة، والتي رافقتها اعتداءات متكررة من المستوطنين في الضفة الغربية على المواطنين الفلسطينيين، بدأ الرأي العالمي يتحول شيئا فشيئا ضد اسرائيل، وازدادت المطالبة بوقف إطلاق النار، إلا أن إدارة بايدن لم تقبل أبدا بالموافقة على وقف لإطلاق النار، وعندما طرح الأمين العام للأمم المتحدة الموضوع على مجلس الأمن للموافقة عليه وفقا للمادة 99 من نظام الأمم المتحدة، استعملت الولايات المتحدة حق النقض ما أدى الى عدم اتخاذ هذا القرار، مع العلم ان بريطانيا، التي هي اقرب الحلفاء للولايات المتحدة، لم تعارض مشروع القرار بل امتنعت عن التصويت بينما وافق على القرار الأعضاء الثلاثة عشر الآخرين.
بعد ذلك طرح مشروع قرار لوقف إطلاق النار على الجمعية العمومية للأمم المتحدة، فوافقت عليه 153 دولة وعارضته 10 دول بينها الولايات المتحدة الأميركية، التي أصبحت في وضع من العزلة عالميا، بسبب سياسة بايدن المؤيدة بصورة عمياء لإسرائيل.
نتيجة لهذا الدعم الأميركي المطلق، زادت إسرائيل من عملياتها الإنتقامية الوحشية على القطاع دون تمييز بين مقاتلين ومدنيين وموظفين تابعين للأمم المتحدة أو لمنظمات انسانية مختلفة، فقتل 135 موظفا من الأمم المتحدة، وما يزيد على 100 من الصحافيين، وكثيرين غيرهم من جنسيات متعددة يقومون بأعمال إنسانية على الأرض، ووجدت الولايات المتحدة نفسها، بإدارة بايدن، في وضع حرج جدا لاستمرارها في تقديم الدعم المالي والعسكري لإسرائيل بدون حدود، حيث أصبح بايدن متهما، بصورة مباشرة، بالتواطؤ مع إسرائيل لقتل المدنيين الفلسطينيين الأبرياء.
أما على الصعيد الداخلي الأميركي، فقد بدأت التحركات من قبل الجاليات العربية في بعض الولايات وأهمها ميشيغن التي فاز فيها بايدن عام 2020 بفضل أصوات العرب–الأميركيينالذين يؤكدون في هذه الظروف أنهم لن يصوتوا له في الإنتخابات الرئاسية القادمة بعد حوالى عشرة أشهر من الآن.
كذلك هنالك تحركات متزايدة من قبل يهود أميركيين ضد بايدن، كونهم مقتنعين أن ما يقوم به نتنياهو في غزة ضد الفلسطينيين، بدعم من بايدن،هو ليس لمصلحة إسرائيل ويرون أن إقامة دولة فلسطينية أمر يؤمن للدولة العبرية الإستمرار بسلام وطمأنينة في الشرق الأوسط.
إن أسهم بايدن للفوز بالرئاسة مرة ثانية تضاءلت كثيرا.فبالرغم من أن الإقتصاد هو العامل الرئيسي الذي بموجبه يدلي الأميركيون بأصواتهم في الإنتخابات، ومع أن الوضع الإقتصادي تحسن نسبيافي عهد الرئيس بايدن، إلا أن العزلة التي أصبحت فيها الولايات المتحدة عالميا، وموقف الجاليات العربية وبعض اليهود من بايدن نتيجة لتأييده المطلق للمجازر الإسرائيلية في غزة، وخاصة ضد النساء والأطفال، فإن هذه الأوضاع أثرت سلبا بصورة كبيرة على حظوظ بايدن بالفوز وليس لديه سوى عشرة أشهر ليحسن وضعه الإنتخابي.
وبما أن اللوبي الإسرائيلي الذي ينتمي اليه أكثرية اليهود الأميركيينله تأثير ملموس في الإنتخابات، لا سيما لجهة المساهمات المالية الكبرى لتمويل الحملات وسفر المرشحين الى مختلف الولايات والمناطق والدعايات التلفزيونية وغيرها، فإن بايدن يحاول التوفيق بين الإستمرار في دعمه المطلق لإسرائيل، وبين الإبتعاد النسبي عن نتنياهو سعيا لإرضاء مناوئيه في مواقفه تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة، فبدأ يصدر تصريحات للمطالبة بحماية المدنيين الفلسطينيين وبموافقة إسرائيل على إدخال المواد الغذائية والأدوية وغير ذلك من المسائل الإنسانية الى غزة، في الوقت الذي يستمر فيه بإعلان تأييده التام لحق وواجب إسرائيل في الدفاع عن نفسها عبر “القضاء على حماس”.
كذلك بدأ بايدن يدلي بتصريحات مناقضة لمواقف نتنياهو مثل اعتراضه على بقاء اسرائيل في غزة ورغبته بأن تتسلم السلطة الوطنية الفلسطينية– بعد تجديدها – زمام الحكم في القطاع بعد انتهاء الحرب، وحديثه العلني عن حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مع العلم أن ذلك ليس بالأمر الممكن تحقيقه بسهولة، ولكن بايدن يحاول، عبر هذه المواقف العلنية، إظهار بعض التوازن والإعتدال في مواقفه سعيا الى وضع حد للخسائر التي سجلها منذ السابع من أوكتوبر واستعادة بعض التأييد الذي فقده.بعبارة أخرى، يريد بايدن عبر هذه التصاريح التوضيح انه مؤيد لإسرائيل دون حدود، ولكنه على خلاف مع نتنياهو في طريقة تنفيذ العمليات العسكرية وأهدافها. لذلك أيضا أوفد مستشاره للأمن القومي جايك سوليفان الى اسرائيل حيث اجتمع مع المسؤولين الإسرائيليين وفي طليعتهم نتنياهو والى رام الله حيث اجتمع مع الرئيس محمود عباس لنقل المواقف الأميركية هذه.
هل سيتمكن بايدن من تأمين أكثرية في الإنتخابات الرئاسية في الخامس من نوفمبر القادم تسمح له بالبقاء في البيت الأبيض لأربع سنوات جديدة؟
لا بد من التوضيح هنا أن بايدن سيكون عمره 82 سنة عند حصول الإنتخابات، وأخصامه في الحزب الجمهوري كما العديد من أعضاء حزبه الديمقراطي يرونه متقدما في السن وغير مناسب للاستمرار في الحكم لولاية جديدة، وذلك حتى قبل حرب غزة على إسرائيل ووقوف الجاليات العربية ضده وهي التي كانت أمنت الى حد ما نجاحه في انتخابات عام 2020. وهو يواجه أيضا مشكلات جمة منها صعوبة تأمين المساعدات المالية والعسكرية التي وعد بها أوكرانيا، والضغوط التي يمارسها عليه الجمهوريون في الكونغرس لتعديل سياسته حيال موجات النازحين القادمين عبر الحدود الجنوبية، وأمور كثيرة أخرى يضعها الجمهوريون في طريقه لإظاره بالرئيس الضعيف والعجوز الذي لا يستطيع تأمين مصالح الأميركيين وكموحاتهم.
كذلك يخشى بعض مؤيدي بايدن أن يورط نتنياهو الولايات المتحدة في حرب مع حزب الله وأيران كي يستمر هو في الحكم من جهة، ومن جهة ثانية ليزيد من حظوظ حليفه دونالد ترامب في العودة الى البيت الأبيض كون ترامب، أثناء رئاسته، جرد الفلسطينيين من كل شيء ومنح إسرائيل الضفة الغربية والجولان وأمن لها علاقات مع أربع دول عربية عبر ما عرف باتفاقات ابراهيم.
الإنتخابات ستجري بعد عشرة أشهر من الآن وعلى بايدن أن يحسن أداءه بشكل كبير قبل موعد الإنتخابات بفترة لأن الناخبين يقررون موقفهم مسبقا، فهل سينجح في اتخاذ قرارات هامة تعيد اليه القسم الأكبر من التأييد الذي فقده لأسباب عديدة بما فيها مواقفه التي أدت الى عزل الولايات المتحدة عالميا والى فقدان تأييد الجاليات العربية له، أم إن “طوفان الأقصى” سيكون الشعرة التي قصفت ظهر البعير وسيغرقه ويضع حدا لحياته السياسية؟