بقلم / مسعود معلوف
سفير متقاعد
تلعب قوات الضغط، المعروفة باسم “لوبي” دورا بارزا في الولايات المتحدة الأميركية إذ أنها، بحسب قوتها وقدراتها المالية، تستطيع إيصال أعداد من المرشحين الى الكونغرس ليدافعوا عن مصالحها واهتماماتها، سواء في السياسة الداخلية أو في السياسة الخارجية.
وغالبا ما تحصل في الولايات المتحدة جرائم وأعمال قتل جماعية سواء في المدارس أو مراكز العبادة أو الملاهي الليلية أو حتى في الشوارع، وهذا ما دفع بآلاف المواطنين والأهالي الى المطالبة بوضع حد لسهولة شراء الأسلحة من المتاجر، وبالتدقيق في الصحة العقلية للذين يودون شراء السلاح. ولكن ما يعرف ب “لوبي السلاح” الذي هو أقوى لوبي أميركي على الإطلاق، يقف في وجه هذه المحاولات إذ يستطيع، عبر التمويل الذي يقدمه للعديد من أعضاء الكونغرس، الوقوف في وجه مساعي إصدار قوانين لتقييد إمكانية بيع السلاح للمواطنين إذ أنه يمثل مصالح شركات صناعة الأسلحة. إن السهولة في شراء الأسلحة، حتى الحربية منها، من متاجر مرخصة قانونيا لهذه الغاية، يفسر سبب حصول الأعداد الكبرى من الجرائم الجماعية في شتى الأماكن العامة، ولا يبدو أن هنالك أفقا لإمكانية تعديل قوانين بيع وشراء الأسلحة بسبب قوة لوبي السلاح.
هذا على الصعيد الداخلي، أما على صعيد السياسة الخارجية للولايات المتحدة، فإن اللوبي الإسرائيلي، الذي يعتبر ثاني أقوى لوبي أميركي بعد لوبي السلاح، وعبر التمويل السخي الذي يقدمه للمرشحين للكونغرس وسيطرته الواضحة على قسم كبير من وسائل الإعلام الأميركية، يقرر الى حد بعيد السياسة الأميركية تجاه إسرائيل. لقد صدر كتاب عام 1996 بعنوان “القوة اليهودية في أميركا” لمؤلفه اليهودي الأميركي ج.ج. غولدبرغ، يشرح كيفية نشوء هذا اللوبي الإسرائيلي وطريقة عمله على الساحة الأميركية وكيف يقدم قبل الإنتخابات للمرشحين على مختلف المستويات، من رئاسية وتشريعية وبلدية، أسئلة خطية حول مدى تأييد المرشح لإسرائيل، وكيف سيتصرف حيال إسرائيل إذا فاز في الإنتخاب، والمساعدات المالية والسياسية التي يعتزم تقديمها، وغير ذلك من الأمور، ولا يقبل إلا أجوبة خطية من المرشح عن هذه الأسئلة، وبنتيجة الأجوبة يقرر اللوبي تأييد ودعم هذا المرشح أو ذاك.
بالإضافة الى تمويل الحملات الإنتخابية، يقوم اللوبي الإسرائيلي بدعوة وفود من الكونغرس في كل من مجلس الشيوخ ومجلس النواب لزيارة إسرائيل على نفقة اللوبي، حيث يتم تكريمهم وتأمين زيارات لهم الى مجلس النواب الإسرائيلي حيث يستمعون الى النواب يتحدثون ويتناقشون، فيقتنعون بأن إسرائيل دولة ديمقراطية على غرار الولايات المتحدة، ويعودون الى واشنطن مؤيدين لإسرائيل ومتحمسين لتقديم المزيد من الدعم السياسي والمالي للدولة العبرية.
ولا بد من التوضيح هنا أن المال يلعب دورا هاما في الإنتخابات الأميركية على جميع المستويات، ليس من أجل شراء الأصوات كما يحصل في بعض البلدان المتخلفة سياسيا، ولكن من أجل تأمين نفقات سفر المرشحين الى مختلف المناطق في هذه البلاد الواسعة للتواصل مع الناخبين مباشرة، ولتأمين الدعاية المرتفعة الأكلاف على شاشات التلفزة، واستئجار قاعات كبرى ومنابر لإقامة اجتماعات مع الناخبين، وغير ذلك من النفقات اللازمة للحملة الإنتخابية. هذا مع العلم أن هنالك قوانين واضحة للإنفاق من الأموال التي يتم التبرع بها للإنتخابات ولا يستطيع المرشح استعمال هذه الأموال لغايات شخصية وإلا فإنه يتعرض للملاحقة القانونية االصارمة.
كما أن سيطرة اللوبي الإسرائيلي على قسم كبير من وسائل الإعلام الأميركية المكتوبة والمرئية والمسموعة وما تنشره هذه الوسائل من معلومات ومواقف وأمور إيجابية عن إسرائيل، وإن لم تكن كلها صحيحة، تجعل المواطن الأميركي إلى حد ما مؤيدا بصورة عفوية للدولة العبرية خاصة عندما يتم التركيز على أن بين الولايات المتحدة وإسرائيل قيم إنسانية مشتركة.
قوة اللوبي الإسرائيلي ليست مرتبطة إطلاقا بعدد اليهود الأميركيين في الولايات المتحدة إذ لا تتجاوز نسبتهم 2،4% من مجموع السكان، ولكنها ناجمة بصورة خاصة عن تضامنهم فيما يتعلق بالمصلحة الإسرائيلية وعن استعدادهم لتقديم المساعدة المالية للجمعيات والمنظمات الإسرائيلية التي تهتم بإسرائيل وفي طليعتها أكبر منظمة سياسية أميركية-يهودية تدعم المرشحين الذين يؤيدون اسرائيل واسمها “أيباك”.
العرب الأميركيون لا تتجاوز نسبتهم 1،5% من مجموع السكان ولكن هذه النسبة غير المرتفعة لا ينبغي أن تمنعهم من تشكيل لوبي يدافع عن القضايا والمصالح العربية، هذا مع العلم أن اليهود الأميركيين يحتلون أكثر من 8% من مقاعد الكونغرس بينما لا تبلغ نسبة مقاعد العرب الأميركيين في الكونغرس 0،5%.
صحيح أن هنالك أسباب تحد من إمكانية تأسيس لوبي عربي ولكن هذه الأسباب يمكن معالجتها إذا وجدت الإرادة والرغبة. من أهم أسباب عدم وجود لوبي عربي قوي هو أن الدول العربية ليس لها نفس المصالح والإهتمامات، كما أن هنالك خلافات قائمة بين بعض الدول العربية وذلك ينعكس بطبيعة الحال على المواطنين من أصول عربية. ولكن يمكن تجاوز هذا الوضع عبر التركيز على المصالح المشتركة للجالية العربية في الولايات المتحدة وعلى القضايا التي تجمع العرب مثل القضية الفلسطينية، ومحاربة التمييز ضد العرب والمسلمين، تاركين لمختلف مكونات الجالية العربية الإهتمام بالأمور التي تهم كل دولة من دولهم.
بالإضافة الى ذلك هنالك سبب آخر هام يفسر عدم تمكين الجالية العربية من أن يكون لها تأثير في الإنتخابات ألا وهو قلة المساهمة المالية في دعم المرشحين، وقد يكون ذلك عائدا الى أن معظم أبناء الجالية قادمون من بلاد (لبنان وسوريا وفلسطين ومصر والعراق) ليس في تقاليدها تقديم مثل هذه المساهمات للمرشحين بل عكس ذلك، إذ تحصل أحيانا عمليات رشوة للناخبين لشراء أصواتهم، كما أن الفساد المستشري الى حد ما في بلادنا العربية لا يشجع الناخب العربي في أميركا على تقديم الدعم المالي للمرشحين. وهنا لا بد للقيادات في الجالية العربية من القيام بحملات توعية لإظهار أهمية الإنغماس في الحياة السياسية الأميركية، خاصة عند الأجيال الصاعدة، وضرورة المساهمة ماليا في الحملات الإنتخابية ليكون للجالية كلمة مسموعة في القرارات السياسية المتعلقة بالشؤون العربية.
وبالنسبة الى وسائل الإعلام التي يسيطر عليها اللوبي الإسرائيلي الذي يركز باستمرار على إيجابيات العلاقة الأميركية-الإسرائيلية ويحجب عن الجمهور كل شيء سيء في إسرائيل، فإن تطور وسائل التواصل الإجتماعي تساعد كثيرا على إيصال جميع التطورات الى شريحة ضخمة من المواطنين، وهذا ما حصل بالفعل منذ بداية حرب إسرائيل على غزة حيث كانت وسائل الإعلام الأميركية تركز على ما قامت به حركة حماس في السابع من أوكتوبر، ناشرة الأكاذيب الإسرائيلية حول عمليات اغتصاب وقتل أطفال تبين فيما بعد أنها غير صحيحة، فكانت وسائل التواصل الإجتماعي تنقل باستمرار أعمال الجيش الإسرائيلي الوحشية تجاه المدنيين وخاصة النساء والأطفال في غزة، وتدمير المنازل والمستشفيات والمدارس وحرب الإبادة التي تنفذها إسرائيل في القطاع، وقد كان لنشر هذه الامور تأثير هام على الرأي العام الأميركي حيث بدأت تحركات واضحة ضد الرئيس بايدن بسبب تأييده اللامحدود لإسرائيل ولعدم موافقته على وقف إطلاق النار واستمرار إدارته بتزويد إسرائيل بالسلاح والمال من أجل مساعدتها في حربها التدميرية في قطاع غزة.
نتيجة لهذه التطورات، بدأت الجالية العربية تتخذ مواقف موحدة وواضحة ضد الرئيس بايدن، علما أن أكثرية العرب الأميركيين ينتمون الى الحزب الديمقراطي الذي هو حزب الرئيس بايدن، وقد برز موقفهم بوضوح في الإنتخابات التمهيدية للحزب في ولاية ميشيغن التي فيها جالية عربية كبرى، لاختيار مرشح الحزب لخوض الإنتخابات الرئاسية في الخامس من نوفمبر القادم ضد مرشح الحزب الجمهوري الذي سيكون على الأرجح الرئيس السابق ترامب. في هذه الإنتخابات التمهيدية، تجاوب اكثر من ماية ألف منتخب من أصول عربية وإسلامية مع حملة مدروسة ومنظمة بصورة فعالة لعدم التصويت لبايدن لأيصال رسالة واضحة اليه بعدم رضاهم عن سياسته تجاه إسرائيل.
في انتخابات عام 2020، فاز الرئيس بايدن على خصمه ترامب بفضل أصوات العرب والمسلمين في ولاية ميشيغن التي تعتبر ولاية متأرجحة، وبايدن في الوقت الحاضر يعاني من صعوبات كثيرة انتخابيا وفقا لاستقصاءات الرأي المتتالية، لذلك سيلعب الصوت العربي في ولاية ميشيغن وبعض الولايات الأخرى التي فيها وجود عربي وازن دورا هاما، وقد تكون مواقف بايدن المنتقدة لنتنياهو بصورة تصعيدية في الفترة الأخيرة ناتجة عن وعيه لاستياء الجالية العربية والإسلامية منه.
لقد لبى العرب في هذه الإنتخابات التمهيدية نداءات وجهت إليهم من منظمات عربية أميركية فاعلة ومن النائبة الفلسطينية الأصل رشيدة طليب، ونجحوا الى حد بعيد في إيصال الرسالة المطلوبة الى إدارة بايدن، وهم يشعرون أنهم حققوا انتصارا نسبيا ملموسا، وسيتابعون تحركهم في الإنتخابات التمهيدية في الولايات الأخرى في الأسابيع القادمة. فهل تكون هذه التحركات بداية لتشكيل لوبي عربي يستطيع في المستقبل تأمين مصالح العرب والمسلمين الأميركيين بعد التجربة الناجحة التي استطاعوا تحقيقها في ولاية ميشيغن؟
لا شك أن ذلك سيتطلب وقتا وجهدا ومثابرة في العمل ولكن، على ما يبدو، فإن بذور مثل هذا اللوبي قد زرعت، والأمر يتوقف على إمكانية الجاليات العربية والإسلامية من متابعة هذا الطريق وتجاوز العقبات الكثيرة المحتملة.