د. حسين عبد البصير
أدب السيرة الذاتية من المحرمات المرفوضة في واقعنا العربي، حيث لا يسمح بالبوح والصراحة والاعتراف ومواجهة الذات، وهوجمت هذه السير وأصحابها منذ (الأيام) لطه حسين، و(الخبز الحافي) و(الشطّار) لمحمد شكري وما بعدها.
وتمثل أفلام (السيرة الذاتية) نمطاً فريداً في التعبير السينمائي، خاضها بعض المخرجين العالميين القلائل أمثال أورسون ويلز في (تاء التزوير) ونيكولاس راي في (أضواء على المياه) وأحجم عنها آخرون.
وتمثل هذه الأفلام في مجملها، رؤية المخرج إلى ذاته وعالمه، وتختلط فيها أطياف العام بالخاص، وتتجاور فيها الأحداث الذاتية شؤون الحياة داخل الأسرة أو العمل، مع بعض الأحداث السياسية الخاصة بوطنه أو خارجه، وكانت السينما المصرية في طليعة السينما العربية في التعبير عن هذا التيار الفني، الذي يُعد امتداداً لما عُرف بـ(سينما المؤلف) أو (الكاميرا القلم).
وتجلت في أفلام يوسف شاهين في أفلام من تأليفه بالمشاركة بداية بـ(الاختيار) 1971 مع نجيب محفوظ، و(العصفور) 1974 مع لطفي الخولي و(عودة الابن الضال) 1976 مع صلاح جاهين وحتى فيلمه (المصير) 1997 مع خالد يوسف.
وتختلف أفلام السيرة الذاتية تمام الاختلاف عن أفلام سير العظماء أو بعض منها مثل (مصطفى كامل) 1952 أو (سيد درويش) 1966 لأحمد بدرخان أو (ناصر 56) 1996 لمحمد فاضل، أو تلك التي تعتمد أعمالاً أدبية تسجل حياتهم، مثل ما فعله يوسف فرنسيس في (عصفور من الشرق) 1986 عن بعض سيرة توفيق الحكيم.
ثم أقدم يوسف شاهين -أكثر مخرجي السينما المصرية حباً في التجريب والمغامرة، على رغم تقدمه في السن آنذاك، فإنه كان أكثر مغامرة وحيوية من الشباب أنفسهم على خوض تجربة سينما السيرة الذاتية، التي تجعل الذات موضوعاً ومضموناً في الوقت نفسه لفيلم واحد أو عدد من الأفلام، وبدأ شاهين ثلاثيته المعروفة بأول أجزائها (إسكندرية.. ليه؟) 1979 ثم (حدوتة مصرية) 1982 و(إسكندرية كمان وكمان) 1989 واقتبس أشياء من سيرته الذاتية المبكرة والمتأخرة ونثرها في فيلميه (المهاجر) 1994 و(المصير) 1997.
وكانت مغامرة شاهين هذه سبباً في دفع عدد من المخرجين العرب إلى إنتاج تجارب مماثلة، ذات مستويات قرائية متعددة، مثل ما فعله السوري محمد ملص في فيلمه (أحلام المدينة) 1984 الذي رصد من خلاله إرهاصات فكرة الوحدة المصرية- السورية 1958 – 1961 في دمشق موطن الذكريات، ومثل ما فعل التونسي نوري بوزيد في (ريح السد) 1986 عن تونس تحت وطأة الاحتلال، وكذلك اندفع في هذا التيار الجديد أحد أبرز تلاميذ شاهين، المخرج يسري نصرالله، ليخرج أول أفلامه (سرقات صيفية) 1988 عن قوانين يوليو الاشتراكية والدولة الناصرية.
وحاول شاهين في ثلاثيته هذه أن يقلد سيرة الأدباء المصريين خصوصاً سيرة طه حسين (الأيام) بأجزائها الثلاثة، وأن يجعلها ثلاثية مثل ثلاثية نجيب محفوظ (بين القصرين) و(قصر الشوق) و(السكرية) 1956-1957 التي أرخ فيها محفوظ للمجتمع المصري من 1917 إلى 1944، وتاريخه الروحي وقلقه الوجودي. وحاول شاهين وضع ثلاثية شبيهة، لكن هذه المرة ليست على الورق وإنما على فن الأطياف الساحر.
إسكندرية… ليه؟
(إسكندرية.. ليه؟) أول أجزاء الثلاثية الشاهينية، كتبه شاهين بالمشاركة مع محسن زايد، يختلط فيه حدثان أحدهما عام والآخر خاص، الخاص هو الحلم بالسفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة التمثيل، إذ كان البطل يحيى (محسن محيي الدين) مغرماً بأفلام هوليوود السينمائية وأشهر نجومها مثل روجرز وفريد إستير، ويحلم أن يصبح ممثلاً مثلهما.
يعيش يحيى مع أسرته المنتمية إلى الطبقة الوسطى في حي الإبراهيمية في مدينة الإسكندرية حيث التحق في مدارس الصفوة في (سان مارك) و(فيكتوريا كولديج). وتعيش مصر في هذه الفترة التي نشأ فيها شاهين ونما، ظروف الحرب العالمية الثانية، فقوات النازي على بعد قدم من الإسكندرية، وتبدأ السوق الاقتصادية في الاهتزاز، فتحدث المضاربات في الأسعار وتزدهر السوق السوداء، ونتيجة لهذه الظروف، تتأثر أسرة يحيى وتسقط في أزمة اقتصادية طاحنة، يعمل الأب محامياً مثالياً، وتضطر الأم لبيع البيانو وبعض الأثاث المنزلي لعبور هذه الأزمة، فيما يحلم كل أصدقائه بالهجرة إلى الخارج للدراسة، ويعمل هو في بنك تحت التدريب، ويصدف أن يحصل على منحة للدراسة في الولايات المتحدة، ومن أجل سفره تجمع أسرته كل ما لديها لتمكنه من تحقيق حلمه، ويسافر شاهين بالفعل عام 1946، وهو ابن العشرين، لدراسة التمثيل في معهد باسداينا PASADENA PLAYHOUSE في كاليفورنيا ثم يعدل رأيه ويتحول إلى الإخراج.
وعلى المستوى العام، يرصد شاهين تأجج حلم المصريين بالثورة، من خلال تركيز بؤرة رؤيته، على ما يفعله الشباب الوطنيون -إشارة الى الضباط الأحرار- وتعاونهم مع الإسلاميين بهدف الاستقلال عبر التخطيط لاغتيال تشرشل والتفكير في إقامة صلات مع الإخوان المسلمين، وخطف الجنود البريطانيين وقتلهم.
وعن هذا الفيلم حصل شاهين على جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان برلين عام 1979. الأكثر أهمية هنا، هو إسكندرية شاهين، إسكندرية التسامح والحب، التي تجمع كل الأجناس، فهي ليست إسكندرية الخواجات التي جسدها (لورانس درايل) في رباعيته عن تلك المدينة الخالدة، وإنما إسكندرية المصريين التي جسدها إدوار الخراط في (ترابها زعفران) وإبراهيم عبد المجيد في (لا أحد ينام في الإسكندرية)، فهي حاضرة كل الثقافات، الإسكندرية المتوسطية، التي تقدس التسامح الديني وتسمح بالتعايش بين الوافد والمقيم، الإسكندرية التي تختزل في كل رحاها الوطن.
حدوتة مصرية
ويجيء ثاني أجزاء الثلاثية (حدوتة مصرية) 1982، عن لحظة خاصة جداً في حياة يوسف شاهين المخرج وهي لحظة إجراء عملية جراحية له لتغيير شرايين في القلب. وكتب شاهين سيناريو الفيلم عن فكرة ليوسف إدريس الذي مر بتجربة مشابهة وأُجريت له عملية تغيير أحد شرايين القلب، يبدأ شاهين فيلمه بقدوم يحيى (نور الشريف) إلى أمريكا وتحليق روحه في معادل بصري يجعل جسده يطير في سماء نيويورك حين وصل إليها. للمرة الأولى، في هذا الفيلم يستعرض عمله كمخرج، وحلمه بأن يقدم سينماه إلى العالم الأول، حينما شارك بفيلمه الثاني (ابن النيل) 1951 في مهرجان كان السينمائي، فصدم في تقويم الفيلم وتكررت صدمته مرة أخرى حينما فشل في السفر إلى برلين وضاعت منه جائزة التمثيل عن دور (قناوي) في فيلمه (باب الحديد) 1958 لاعتقاد لجنة التحكيم أن (قناوي) (يوسف شاهين) معوق في الأصل. منذ هذه اللحظات انتقد شاهين بجرأة تحسب له ازدواجية الغرب في النظر إليه باعتباره مخرجاً من العالم الثالث، وليس منتمياً إلى عالمهم الأول، وفقد الأمل في أن يعرفه العالم سواء في كان أو غيره من المهرجانات العالمية، وتأكد أنها تريد أن تحصر سينمانا في إطار مواضيع الظلم الاجتماعي والجهل والفقر والمرض والتخلف، فهذه قضايا ومشكلات العالم الثالث، في رأيهم.
في فيلمه (العصفور) 1974 الذي حاول فيه استجلاء أسباب الهزيمة في 1967، يصور أحد المشاهد التي تجري فيها الفنانة محسنة توفيق رافضة الهزيمة صائحة (هنحارب) ليؤكد شاهين تضامنه الكبير مع النظام الناصري الذي يكن له حباً خاصاً. ويبدأ شاهين في عرض وجهة نظره التي تتوق دوماً إلى الحرية والديموقراطية، من خلال ما نشهده من محاكمة يجريها شاهين لكل من عاشرهم ابتداءً من أسرته، الأم التي تصغر الأب بفارق عمري كبير، وترى نفسها امرأة مرغوبة فقدت شبابها في صدر رجل كهل، والابنة أو الأخت التي تزوجت رجلاً لا تحبه لتضمن الأسرة الاستقرار نظراً إلى ثرائه الفاحش المترتب على قيامه بعدد من الأعمال غير المشروعة، والأب المتواري في الظل، والمدرس في المدرسة الذي قتل فيه الحلم والحرية وعوّده الخوف والجبن وزرع الخوف داخله. يقسو شاهين على الجميع ويدينهم في الوقت نفسه، ولا ينجو هو أيضاً من هذا اللوم، ويجسد فكرة الصراع عليه بين أمه وأخته وزوجته.
يدير شاهين محاكمته وعائلته أمام عينيه، ويحاول تفسير أسباب ما حاق به وبقلبه من آلام. الأم تزوجت صغيرة من رجل كبير، وتكرر ما حدث لها مع ابنتها. إذن فالفيلم في حد ذاته إدانة لبطريركية الأسرة بظروفها الاجتماعية والاقتصادية الضاغطة، وقهر المؤسسة التعليمية ممثلة في المدرسة وأستاذه المتحجر الفكر. وكذلك هو أيضاً في إسرافه في إجهاد نفسه والتوتر والتدخين بشراهة مما أوصله إلى ما هو فيه من ألم في القلب. وفي النهاية يعقد مصالحة مع ذاته يتعهد فيها بالمواصلة في الطريق التي اختطها لنفسه، وتكون هذه هي البداية الحقيقية وليست النهاية المتوقعة، فكأنما حدث له نوع من التطهير فهذه مهمة الفن الخالدة.
إسكندرية كمان وكمان
بإخراج يوسف شاهين (إسكندرية كمان وكمان) 1989 تكتمل الثلاثية الشاهينية لتصبح أول سيرة سينمائية عربية مكتملة.
ويكتب سيناريو الفيلم شاهين بالاشتراك مع تلميذيه، يسري نصرالله وسمير نصري. ويرصد في هذا الفيلم لحظة من أروع لحظات وحدة الإرادة الجمعية في مواجهة إرادة الفرد، فسجل شاهين لحظة إضراب الفنانين المصريين عام 1987 احتجاجاً على تغيير قانون النقابات الفنية الخاصة بهم من دون أخذ رأيهم. فحلق شاهين بهذا الفيلم في آفاق من التعبير السينمائي وألح في المطالبة بالديموقراطية في مصر. وكم كانت سعادته وهو يصور اتحاد كل الفنانين المصريين واجتماعهم التاريخي في مسرح البالون من أجل المطالبة بممارسة حقهم الديموقراطي في المشاركة في صياغة قانون نقاباتهم المسؤولة عنهم، وأنهى الفيلم بلحظة تختفي فيها الفردية وتذوب في الذات الجماعية الكبرى: مصر، بالنشيد الوطني الذي شارك فيه أبرز وجوه الحركة الفنية المصرية، عادل إمام، علي بدرخان، توفيق صالح، تحية كاريوكا.
في هذا الفيلم يكتب شاهين ومساعداه فيلماً غير عادي مبنياً على سيناريو غير تقليدي يحفل بالصوت والصورة، ولا يُعنى كثيراً بالحبكة الدرامية، فهنا يحقق شاهين حلمه الكبير حينما تصبح الصورة هي الهدف ولا يهتم بالترابط الدرامي كثيراً. ويغامر بخوض تجربة التمثيل بنفسه هذه المرة ويطلق سراح الممثل الكامن في أعماقه منذ أن مثل (هاملت) على خشبة المسرح المدرسي وهو يعلم أن ممثلاً كبيراً يسكن أعماقه، فهاملت هو قدوة شاهين الكبرى، فجعل عمرو عبدالجليل يمثل دوره في رؤية مصرية لمسرحية وليم شكسبير، لكنه يفتقد في أدائه إلى ما كان يحلم به، فطموح شاهين الفني ليس له حدود.
يركز الفيلم أيضاً على عدد من الأحداث في حياة شاهين الفنية، مثل فوزه بالجائزة في مهرجان برلين السينمائي عام 1979، عن أول أجزاء الثلاثية الشاهينية (إسكندرية.. ليه) 1979 وخروج بطله محسن محيي الدين من مهرجان كان من دون أي جائزة عن دوره في فيلمه (الوداع يا بونابرت) 1985، ويدير شاهين حواراً غنائياً بينه وبين بطله مستغلاً فيه أغنية (فات الميعاد) للسيدة أم كلثوم، نافياً الذنب عن نفسه (تعتب عليا ليه؟ أنا بإيديا إيه؟). وينافس شاهين الشيخ ابن الستين بطله الشاب في الرقص متهماً إياه بأنه ابن النكسة. ويرقص شاهين هائماً على روحه في رقصات مبدعة لجين كيلي في (الغناء تحت المطر) وفريد إستير، ليحطم بشبابه الدائم انهزامية الشباب المتسرع سريع اليأس.
وبعدما تتعرض زوجته لحادث سيارة ويذهب إلى وداعها وهي مسافرة للعلاج في الخارج، يذهب إلى النقابة للمشاركة مع زملائه الفنانين في الإضراب ويبقى مع توفيق صالح وتحية كاريوكا. ويظهر شاهين رأيه في بطله وبطلته وزوجته، وكذلك وجهات نظرهم تجاهه، فهو يحبهم وهم يحبونه.
ويخلط شاهين في هذا الفيلم بين الروائي والتسجيلي باستعانته بمشاهد إضراب الفنانين في البالون واعتصامهم في النقابة، وبين الواقعي والفانتازي حينما يذهب إلى الإسكندرية القديمة، ويجسد غزو الإسكندر لها ويسخر من كليوباترا. ففي هذا الفيلم مارس شاهين كل جنونه بمنتهى الحرية، ويرقص في المولد الشعبي مع الشاب رقصة التحطيب المصرية الشهيرة الممتدة من أيام الفراعنة، فيظهر مدى قدرة الشيخ ابن الستين على مصارعة الشباب، ويظهر كم هو شاب أكثر من الشباب أنفسهم وأن إرادة الحياة والكفاح داخله أقوى من أية إرادة أخرى، فإنه لا ينكسر أبداً، رغم كثرة الهزائم المتتالية.
وحينما يذهب شاهين إلى بيت بطلته يسرا يجد أمها هدى سلطان تتذكره في دور قناوي وتقول له: (إن أحسن أفلامك، الأرض)، ما يجعل شاهين متضايقاً من هذه العقدة التي تثار دائماً في وجهه ويكرهها بشدة.
ويظهر حسين فهمي في دور المغامر اليوناني الذي يبحث عن قبر الإسكندر الأكبر في مدينة الإسكندرية، وحينما يعثر عليه يجعله شاهين -أي الإسكندر- مشابهاً لبطله تماماً، ويُنفذ من السقف عموداً حديدياً يخترق الجسد الثاوي في التابوت الزجاجي، فتنبثق منه الدماء بغزارة، وكأن شاهين يحدث بهذا تماهياً بين نفسه يحيى الباحث عن هاملت طيلة حياته من دون أن يعثر عليه، وبين المغامر اليوناني الباحث عن الإسكندر الأكبر، ويحاول تحرير نفسه من الأوهام، التي يعتنقها بالقسوة على نفسه وعلى الآخرين.
المهاجر
أنهى شاهين ثلاثيته بـ(إسكندرية كمان وكمان) 1989 وحتى لا يخرج أجزاء أخرى منها، وتخرج عن كونها ثلاثية، اقتطف بعضاً من سيرته وقدمها في فيلمه (المهاجر) 1994 عن هجرته إلى أمريكا لدراسة السينما، ويبدو هذا واضحاً في المشهد الذي سقط فيه (خالد النبوي) في حجرة التحنيط عندما كانت تطارده الكلاب مثلما سقط شاهين نفسه في حجرة المحاضرات حينما كان في معهد باسدانيا في كاليفورنيا.
وكذلك يمتلئ بشذرات من سيرة شاهين فيلم المهاجر داخل الوطن وخارجه والسابح بحثاً عن الروح المصرية الصميمة فهو اللبناني المهاجر مع أبويه إلى الإسكندرية وهو الذي يغضب عادة من نعته بلفظة (الخواجة)، فيشير إلى ذلك في ما قيل عن (رام)، رغم عمره الطويل الذي قضاه بين المصريين فإنهم يعتبرونه أجنبياً وليس من الأصول المصرية الأصيلة!
ثم يجيء فيلمه (المصير) مجسداً أزمته مع فيلمه (المهاجر) الذي رأى فيه بعض من المتطرفين مساساً بشخصية النبي (يوسف) عليه السلام، وأقاموا دعوى قضائية تطالب بعدم عرض الفيلم.
ويرفض القضاء الدعوى ثم يقبلها بعد الاستئناف، ويصاب شاهين بضيق حقيقي لما يحدث لحرية التعبير من اختناق وتضييق في مصر. فيخرج فيلمه التالي (المصير) عن زمن (ابن رشد) مرتحلاً هذه المرحلة إلى الأندلس حيث تعيش ظروف الوضع المشابه. ويحذر شاهين في فيلمه من التعصب والتكفير في زمن التفكير على حد قول الفقيه المعذب الراحل نصر حامد أبو زيد. ويمزج شاهين كذلك بين ما تعرض له من اضطهاد ومصادرة وغيره وما حدث لنجيب محفوظ من طعن في رقبته اليمنى نتيجة لعدم قراءة روايته (أولاد حارتنا) 1959 قراءة صحيحة. فيمزج السيرة الشاهينية بالمحفوظية، ويرثي لحال الفكر في نهايات القرن العشرين الذي كان متسامحاً في بدايات القرن ووصل إلى الضيق الفكري والتعصب بعد ذلك، مع أن المفروض أن يحدث العكس وتزداد مساحة الاستنارة والضوء والحرية، لا أن تزيد خفافيش الظلام والأفكار الظلامية وبؤر التطرف والإرهاب.
كذلك لم ينج شاهين من نقد فيلمه (المصير) قبل أن يعرض من الأساس، فهاجمه بعض أساتذة الجامعات الذين يدعون الاستنارة والتعددية الفكرية والتسامح ويرحبون بالنقد والرأي الآخر وحرية التعبير، في أن شاهين لم يستعن بهم أو ببعضهم عند تصديه لإخراج فيلمه عن ابن رشد الذي يعتبرونه ملكاً خاصاً لهم دون غيرهم، وهاجموا الفيلم دون أن يشاهدوه ونسوا أن هناك مسافة كبيرة بين التاريخ كتأريخ والعمل الفني حينما يتناول التاريخ!