بقلم: شريف رفعت
تتابعت الأحداث بطريقة محمومة، فور تخرجي من كلية الهندسة جـُنِدْت، التحقت بكلية ضباط الاحتياط، ثم شحنت للجبهة مع بداية الاشتباكات، ضابط برتبة ملازم أول.
كان المطلوب من كتيبتي شبه مستحيل، أن نثبت في موقعنا ندافع عنه و نمنع العدو من التقدم، رغم تفوقه في الزاد و العتاد نتيجة لقرب خطوط امداداته و تفوقه أيضا في العدد.
كان علي أن أحافظ على الروح المعنوية لجنودي، أتجنب أن تصيبنا خسائر في الأرواح و العتاد و أحاول في نفس الوقت أن ألحق خسائر بالعدو. كما حدث يوميا خلال الأسابيع الماضية يبدأ العدو في قصف موقعنا بشراسة، يتحول الموقع إلى جحيم، تختلط الرمال الملتهبة بالدماء و النيران و الشظايا و الموت، يستمر القصف لمدة ساعة، بعدها أتفقد الكتيبة، أحمد الله أن الرجال لم ينقص منهم أحد هذه المَرّة، فقط أحد الجنود أصيب إصابات خطيرة لكن سيمكننا التعامل معها.
أفكر في مشاعر الرجال، في مثل موقفنا هذا يسود شعور غريب، لا أصفه بأنه شجاعة، الوصف الأدق أنه تقبل للواقع الغاية في الخطورة، يدرك كل من الرجال أن هناك احتمال كبير أن يموت، يرسخ في أعماقنا هذا الشعور، ثم نكمل حياتنا اليومية كالمعتاد و يؤدي كل منا عمله في ظل احتمال الموت الذي رَوَضْناه. فرغم أننا نرجو السلامة إلا أن الموت جزأ من واقعنا.
نحاول أن نسخر من واقعنا هذا القاسي الخطير، يقول أحد الضباط لمن حوله:
ـ رائحة الناࢠالم مفيدة لمن يشكو من الجيوب الأنفية، يستنشقها و سيشفى في الحال.
أما الجنود و أغلبهم قرويين بسطاء فيطلقون على قصف العدو المتواصل لموقعنا “فرح العمدة”.
عندما تطبق الهدنة و يتم استبدال كتيبتنا بأخرى أهنيء نفسي على أداء الرجال، أشعر بفخر و اعتزاز لا أتحدث لأحد عنهما.
الورشة مكان مجنون، لكن رغم جنونه يجب أن يستمر في الإنتاج باستمرار و بكفاءة. مشاكل صغيرة و أخرى كبيرة علَي أن أتعامل معها، بعضها مشاكل عمال و أخرى مشاكل مع الإدارة أو مع عملاء الشركة. الجنون العادي محتمل، لكن عندما يصاب أحد العمال إصابة خطرة ـ بسبب اهماله أو اهمال غيره ـ أو عندما يتلف عامل إحدى المشغولات الغالية المهمة، أو عندما يـُطلب من الورشة إتمام أحد أوامر الشغل في وقت قياسي مستحيل فهذا هو الجنون الرسمي الذي كما قال أحد المهندسين زملائي “يُقـَصِر العمر”. أحيانا أقارن ما يجري في الورشة بما كان يحدث في الجبهة أثناء خدمتي العسكرية، جنون في الحالتين لكن على الأقل هنا احتمالات الموت ضعيفة للغاية.
أنا أطلق على نفسي لقب “وَرْشَجي”، فالورشة بالنسبة لي هي الحياة بصعوباتها و إنجازاتها، أجوس خلال أركانها، أتأمل آلاتها و هي تدور و تنتج، أحملق بوَلَه في عدة القطع و هي تنحت الصلب فيتحول إلى المشغولات المطلوبة. العملية يتجسد فيها الدراسة و الخبرة و المهارة، هذا ما يراه الجميع في عملية التشغيل، أما أنا فأرى فيها بالإضافة لذلك ناحية جمالية شاعرية تبهرني.
حبي لورشتي و إدماني لها مرجعه شعوري و أنا بها أني مهم. فنجاحها هو نجاح لي، يعتمد على قدراتي الفنية و مهارتي في التعامل مع الأفراد. أكيد القدر كان كريما معي عندما حصلت على هذه الوظيفة.
تقطع شريط ذكرياتي الممرضة الشرسة، تدخل الحجرة التي يشاركني فيها ثلاث مرضى آخرون. تقول لي بلهجة عدوانية لا أدري سببها:
ـ ميعاد الدواء.
أعتدل في فراشي، بمساعدة جرعة ماء أبلع الدواء ثم أقول لها بلهجة أحاول أن أجعلها حيادية بدون لوم و بدون توسل:
ـ الحفاضة* في حاجة للتغيير، منذ حوالي ساعتين و أنا أحاول استدعائك عن طريق الجرس.
ـ تنظر لي بعدوانية لا تتناسب مع الإكراميات التي تمنحها أسرتي لها و تقول:
ـ لم أكن ألعب، الدنيا لن تطير، عندما يكون عندي وقت سأغير لك الحفاضة اللعينة.
أصمت و أعود لذكرياتي.
*الحفاضة هي ما يطلق عليه “الدايࢠر” أو “البامبر” أو الكافولة.