بقلم: محمد منسي قنديل
هذه المرة يتزايد الاحساس بالخجل لحد قاتل، هذه المرة نشعر جميعا بذنب عظيم، لا أحد يستطيع أن يبرئ نفسي منه، لقد تعرض شركاء الوطن من الاقباط لوحشية لا مبرر لها، تحولت اعيادهم إلى مناسبات جنائزية، واصبحت كنائسهم مقابر جماعية، استبدلنا عبارات التهنئة بالعيد، إلى كلمات للعزاء والتعاطف الزائف، اقباط مصر هم ضحايا تعصبنا، وعدم قبولنا للآخر، لقد حولنا الوطن الذي يجمعنا إلى جحيم بالنسبة لنا جميعا، ولا يمكن أن نواصل الحياة في ظل هذا الميراث من الكراهية.
احداث واقعة انفجار كنيسة الاسكندرية لا تصدق، فبدون تردد أو تفكير، يندفع شاب غريب لا نتبين وجهه بوضوح إلى المبنى ، يحاول الدخول من البوابة الحديدية المفتوحة ولكن الحارس «عم نسيم» يمنعه في رفق، يشير له بالدخول من البوابة الالكترونية، ودون تردد ايضا يتجه الشاب إليها، كانت هناك اثنتان من الشرطة النسائية واقفتان تتحدثان دون أن تلتفتا نحوه، ماتتا على الفور، وهناك طفل يجلس على مقعد بعيدا قليلا عن البوابة، قتل هو الآخر، واربعة من رجال الشرطة لم يظهروا في الصورة، ولكن لم يفلتوا من الموت، وعندما تصدر البوابة صوتا محذرا من أن الشاب يخبئ اسلحة تحت ثيابه يتراجع خطوة صغيرة للوراء، وقبل أن يوقفه أحد يضغط على زر التفجير فيتحول كل شيء إلى اشلاء ورماد، بثقة وثبات وفي ثوان معدودة ينفذ الشاب الغريب عمليته الانتحارية.
من أين جاء الشاب بهذا الثبات الغريب، وما سر رغبته العارمة في الموت وافناء الآخرين؟ اسئلة معلقة، الوحيد الذي كان يملك الاجابة عنها هو الشاب الذي تطايرت اشلاءه، لم يكن تصرفه بشريا، لقد تم غسل مخه من كل اسباب الحياة، ولم يعد يرى إلا الموت وصور الحياة الأبدية التي يتمنى أن تكون بعده، الجنة الموعودة التي صورها له الذين تسلطوا على عقله، الذين صوروا له أن الانتحار هو نوع من الاستشهاد المقدس، حتى الآن لم نعرف من هم على وجه التحديد، ولكننا نعلم أن بقايا جماعة الاخوان ما زلت تترصد النظام وتعمل على زعزعته، بينها وبينه ثأر لا يهدأ، منها يخرج كل الافراد الذين يسافرون إلى داعش، ثم يعودون للعمل داخل مصر، تضع الجماعة اسم داعش على البيانات التي تصدرها حتى تتظاهر أمام كل الذين يناصرونها أنها جماعة لا تؤمن بالعنف، رغم أنه جزء اساسي من تكوينها الفكري، ولأنها قد تعرضت للعديد من الضربات الأمنية فقد لجأت لهذه العمليات الانتحارية المتفرقة، وتبدو مهارتها في الاقناع عندما تستولى على عقل امثال هذا الشاب وتنزع منه غريزة الحياة وتستبدلها بغريزة الموت.
حياة الانسان كما يقول فرويد موزعة بين غريزتين متعارضتين، حب وكراهية، رغبة البقاء وأخرى في الافناء، غريزة للحياة وأخرى للموت، «الأيروس» هي غريزة الحياة، الدافع الأول لتجمع البشر وصنع الحضارة، دافع الإنسان ليوفر احتياجاته ويحقق اشباعه الجسدي والنفسي، وسبب اكتشافه للأدوات والوسائل التي توفر له البقاء والأمان، ولأنه كائن اجتماعي بالضرورة فهذه الغريزة تقربه من الآخرين وتغذي الغريزة الجنسية عنده لتمهد للإلتحام بين كائنين في رباط الزواج والانجاب من اجل اعمار الارض وبقاء النوع، لذا فمن العسير التغلب على غريزة الحياة لأنها مرتبطة بوجوده، وتنحيتها جانبا تعني موته ودماره.
يتحدث الأديب الأمريكي «جاك لندن» في أحد قصصه عن عادات «الاسكيمو» في مواجهة الموت، فالابن يحمل الجد العجوز فوق أحدى الزلاجات التي تجرها الكلاب وهو في لحظات الاحتضار الاخيرة، فالعادة المتبعة هي أن يؤخذ كبار السن والمحتضرين بعيدا عن ارض القبيلة ليموتوا وحدهم في مكان منعزل، بعد ذلك تطمر الثلوج اجسادهم بلا حاجة لمقبرة ، وعندما وصل الابن إلى هذا المكان المخصص، انزل الجد واخذ الزلاجة ومضى مبتعدا، دون اسف ودون بكاء، وظل الجد راقدا في العراء ينتظر الموت الذي تأخر قليلا، الذئاب هي التي جاءت مبكرة، شمت رائحة الجسد البشري واستعدت لافتراسه، رأى الجد عيونها اللامعة في الظلام، فامسك عصاه الغليظة التي لم يكن يملك غيرها وبدأ يدافع عن نفسه، دبت في داخله طاقة جديدة، تخلص من وهن الشيخوخة والاحساس بدبيب الموت، ظل يقاوم طوال الليل، يدفع الذئاب بعصاه الوحيدة، حتى انسحبت هاربة من أمامه، وعندما اشرق عليه الصباح كان يجلس هادئا وسعيدا، ولكنه ميت، لقد دافع عن الرمق الاخير من حياته حتى النفس الأخير.
من الصعب لأي انسان عاقل التغلب على رغبة الحياة الكامنة في اعماقه، ولكن الجماعات التي تستخدم الدين كوسيلة لإقناع الشباب اثبتت أنها قادرة على ذلك، قادرة على أن تدفع بأفرادها إلى تبني غريزة الموت «الثاناتوس»، فالموت ليس بعيدا عن النفس البشرية، فهو نهاية الدورة التي يمر بها الإنسان، المصير الحتمي لكل كائن، لكنها غريزة مخفية، كامنة متوارية خلف غرائز حفظ الذات، لا تبرز إلا في لحظات الغضب واليأس والاحباط، تتحول إلى نزوة لتدمير الذات، رغبة مرضية للعدوان وتدمير الآخرين، هكذا تتلقف الجماعات الارهابية كل اليائسين والكارهين، وتعمل على إيقاظ كل ما في داخلهم من نزاعات الحنق والكراهية بحيث يصبح خلاصهم الوحيد هو القتل، قتل النفس وقتل الآخرين..
نزع غريزة الحياة هي نزع للإنسان من وجوده الطبيعي، فالجماعات الارهابية تحول هؤلاء الشباب إلى مجرد آلات حية تنفذ اغراضها، يغسلون ادمغتهم ويحشونها بأنواع المباهج الغامضة التي تنتظر الشهداء، وفارق كبير بين شيخ الاسكيمو الذي كان يدافع عن الرمق الأخير من حياته، وهذا الشاب الذي تحول إلى آلة حية للدمار، وهو يتحرك نحو بوابة الكنيسة، منزوع الروح والاحساس والعاطفة، كأنه قنبلة موقوتة متجهة إلى هدفها.
لقد وجهت آلة الدمار ضربتها إلى شطر من الشعب المصري لا يرغب ولا يريد ولا يفضل أن يلجأ للعنف، فأقباط مصر قد تعودوا أن يمتصوا هذه الصدمات المأساوية، ولا يردون على هذه الكراهية التي لا مبرر لها بكراهية مماثلة، فهم متسامحون لدرجة تجعلنا جميعا نشعر بالخجل، يغلبون صوت العقل دائما ويتعالون على كل نوازع الانتقام، ويدركون بحسهم الوطني أنهم يواجهون افراد متطرفين وسط حشد هائل من البشر يحملون ملامحهم نفسها ويعيشون معهم في أمان، أنهم يعتمدون حتى الآن على فضيلة التسامح حتى تمر هذه الموجة من الارهاب ويلتقط الوطن أنفاسه ويواصل الحياة الطبيعية من جديد.