بقلم: كلودين كرمة
فى هذه الدنيا كل شى معروف بضده و بوضوح وبدون جهد فى التفسير : القريب والغريب ، الحب والبغض ،العذب والمر . إلى آخره..
ومن الجميل أن الإنسان يتميز يعقله بغرض التمييز وقد أنعم الله عليه بالفطنة والبصيرة ؛ فربما هنالك موقف غريب او ظرف مبهم أو أحداث غامضة ، وفى ظاهرها إنها لا تمثل أى ضرر أو أنها ليست ذو أهمية ، ومع ذلك تجد أن الإنسان يتعامل معها فى منتهى الحرص و يدرس السلبيات والإبجابيات ويتوخى الحذر و يتابع بدقة حتى يتبين له جليا الغرض والهدف .
ومن المعروف إنه مع كل مرحلة عمرية يكون هناك تقيم مختلف وردود فعل متغايرة وقد تتبدل وجهات النظر وتختلف الأراء وتتحول الميول والرغابات، وما كان فى غاية الاهمية ويشغل حايزاً كبيراً من الإهتمام و بتطلب الكثير من الملاحظة والمتابعة ، يصبح لا اهمية له على الإطلاق إذ يلوح فى الأفق هدف جديد وأمل جديد يتطلب أساليب جديدة للتطبيق وهذا بسبب الإيقاع السريع التى يتميز به عصرنا الحالى وعلى تعدد المتطلبات الأساسية للحياة وعلى حرص الإنسان المعاصر على اللحاق بالتطور الذى يصنع كل الإختلاف فى ادق تفاصيل الحياة اليومية و التى يشعر بها كل فرد كل على حسب إهتماماته وأهدافه.
ولكننا نلاحظ إن كل ما توسعت موجة التقدم كلما اصبح الوقت عزيز ايضا وكأن هذا التطور السريع هو فى سباق مع الزمن وكلما حاول الإنسان ان يسرع فى خطواته للحاق بهذا الموكب ، يجد نفسه بعد غير مؤهل ، وبالطبع يحاول أن يدرك ويستوعب ويحتوى ويزيد من قدرته و يدعم قدراته حتى لا يتخلف عن هذا الموكب الحافل والملئ بالأحداث المتتابعة والغير متوقعة.
ومن هذا المنطلق ، نجد أن الإنسان مدان ولكنه أيضا ضحية ، مدان لأنه يغفل التقارب الإجتماعى والمجاملات فى سياق مفاهيم التقدم .. ولكنه ضحية لأنه لا يمكنه ان يلتقط أنفاسه ولا يعى حتى لتدبير شئونه الخاصة فيلتفت يمينا ويسارا باحثا عن أحد ليعتنى به و يدبر له حياته وينظم له مواعيده ويتصرف معه وكأنه نفسه ، يتحدث أمامه أحاديثه السرية ويكشف عن أفكاره وخططه ولا يهم مطلقا أن يكون هذا الأخر على نفس المستوى الفكرى ، ولا يهم أيضا أن يتجاوب معه أو ان يبدى رأيه ، ولكنه يجب أن يتواجد حتى يشعر الأول انه لا يتحدث إلى نفسه وليس هناك من يستمع !
وبذلك يصبح أقرب الناس بعيدين إذ لا يمكنهم ملازمة الآخر طوال الوقت ، وأبعد الناس قريبين إذ هم ، بحكم عملهم ، متواجدين على الدوام أو ملازمين لهذا الشخص كظله وينفذون أوامره دون نقاش فيبدون وكأنهم أيادى خلقت لتحقق الأوامر وأرجل تتقدم بسرعة ودون ضجر لتلحق بالأحداث وتأتى بالجديد حتى يرضى رب العمل ..وهكذا دواليك ، ويصبح هذا الاخر فى غفلة من الزمن بعيدا عن مجتمعه وملاصق لصاحب العمل …
فتفقد الحياة توازنها نتيجة لسرعة تتابع الاحداث ، ويكون هناك حالة من التشتت مما يؤثر على التركيز التام ويسبب الإرتباك . ونتيجة لذلك نجد الكثير من أعراض مرضية تعترى الإنسان ليس لها أى تفسير من قبل الأطباء سوى “ الضغط النفسى والتوتر العصبى“ مما يفقد الإنسان ماهية الحياة وبهجتها، لربما يحصل على النجاح والشهرة والمال ويتعرف على اناس ذو مراكز مرموقة ولكنها فى النهاية حياة تدور كلها حول الحياة العملية فقط ، ويصبح الإنسان يواجه تيارات الأيام بجناح واحد اذ إنه يهمل النصف الأخر والأكثر جمالا والذى لايحتاج منه مجهود مرهق أو ذكاء خارق بل هو الجناح الاكثر اهميه إذ يحفظ التوازن ويصلح ما قد تفسده التحديات ويمنح النفس الطمأنية والاستقرار وهو بمثابة الترياق الذى يشفى ويداوى ويطبب الجراح والألام ويقدم الدعم والمساندة دون مقابل بعيدا عن المصالح أو المكسب المادى ، إنما بحب ورعاية وإهتمام ، وحياتهم المشتركة مستمرة مدى الحياة فى السراء والضراء ولا يمكن ان يكون هناك تضارب او عناد فى وجود جو من الود والتفاهم يسند وقت الضيق ويفرج الهم ويزيح الغيوم لكى تغلغل اشعة الامل فتخترق الصعاب فتتفتت وتصغر فيخف الحمل المادى والمعنوى.
وعندما تنقلب الموازين ونقترب من الأغراب ونبتعد عن الأقرباء والأحباء ، وإننا لا ننفى بالتأكيد وفاء المحيطين بنا وحبهم وحتى إخلاصهم ولكن يجب أن نوفى كل ذي حق حقه .. فعلينا أن نراعى من ارتبطنا بهم إرتباطا وثيقا إذ بإرتباطنا بهم يكون لهم الأولية فى اهتماماتنا ولا يصح أن نعتمد على حبهم وتقديرهم فنخذلهم ونتجاهلهم فيتحملون ما لا يستطيعون حمله و بدلا من أن نساعدهم فى تخطى أزماتهم ونمد لهم يد المساعدة ، نطلب منهم أن يستقلوا بأنفسهم بل وأن يسددوا احتياجاتنا أيضا ؛ فيشعرون بالوحدة واليأس والإحباط اذ دائما أياديهم ممدودة بكل الخير والنعم ولكنها نادرا ما تعود إليهم وبها شئ من العرفان بالجميل والشكر.
ومع تقدم العمر ، نعيد تقيمنا للأمور ، ونرتب الأوليات ونأمل أن نعوض ما فاتنا من متعة فى صحبة المقربين من القلب ؛ ولكن السؤال هل هم الآن ، وبعد الكثير من المحاولات والبذل ، مازالوا فى إشتياق لصحبتنا أم إنهم إعتادوا البعاد ؟
أو هل مازال بداخلهم الرغبة ام اصابهم الإحباط وقد رفعوا راية الإستسلام ؟ فللنتبه قبل فوات الاوان وقبل أن تفقد الحياة رونقها فى عيوننا وبهجتها فى قلوبنا ، فلنعمل على محاربة الظروف القاسية التى تبعدنا فعليا او تفصلنا عاطفيا ومعنويا عن الأحباء .. فلنعمل جاهدون بنفس الحماس ونحرص على عمل التوازن النفسي فدائما نحتاج إلى ان نعيش ونبتهج، وايضا نحتاج إلى المثابرة فى العمل لتحقيق الذات والمكسب والوصول إلى السعادةالحقيقية المتكاملة والعيش الرغد والنفسية السوية يجب علينا أن نحافظ على قوة ‘ الجناحين ‘ ونبقيهما على الدوام ممدودين سويا حتى يمكننا التحليق فى السماء عاليا بحرية وفخر لإننا احتوينا الدنيا بكل متاعها فى قلوبنا و نصب أعيننا، وكإننا نجبرها على طاعتنا والسير معنا فى الطريق الذى تم تحديده وإختياره من قبلنا . فلنكن أسياد انفسنا ولا. نكن أبدا عبيدا للايام . فبإرادتنا نوجه الدفه ونواجه الرياح العاتية ونتغلب على الصعاب و كم من نماذج معروفة جيدا تغلبت حتى على العجز والمرض – وهذا أصعب من أى عبء – ونالت شهرة عظيمة فى الحياة الخاصة والعامة لأنهم انخذو من الحب الثابت وغير المتغير القدرة على مواجهة الأزمات العملية .. فيجب علينا أن نهتم بهذه ولا نهمل تلك.