بقلم: د. خالد التوزاني
إذا كانت دلالات التجديد في معاجم اللغة، تحظى بنوع من الإجماع والقبول من لدن الجميع، نظرا لانسجام اللفظ مع المعنى المتواضع عليه، وانسجامه مع أصول لفظ التجديد، وتواتر المعاجم على إيراد المعنى نفسه، بصيغ مختلفة وعبارات متباينة، حسب طبيعة المعجم وجمهور القراء المتوجّه إليهم، فإنَّ دلالات التجديد قد عرفت اختلافاً بيّناً في معانيه الاصطلاحية، نظرا لاختلاف السياق الذي يُوظَّفُ فيه هذا المصطلح، فلكل عصر خصوصياته، التي تجعل الناس ينظرون إلى التجديد وفق ما يحتاجون إليه وتبعاً لذلك، فإن التجديد قد يهمين على عصر دون آخر، وقد يتخذ التعبير عنه مسارات أخرى بتوظيف ألفاظ تشترك معه في المعنى، مثل الإحياء والتطوير.. وغير ذلك، وهذا ما يجعل البحث في مفهوم التجديد عند بعض العلماء والأدباء والمثقفين يكتسي أهمية خاصة.
بين التجديد والتقليد
التجديد في اللغة يدور حول معاني البعث والإحياء والانبعاث، حيث نقول: جَدَّ الشيءُ يَجِدُّ (بالكسر) جِدَّةً، صَارَ جَدِيداً، وهو نَقِيضُ الخَلَقِ، وفي معجم مقاييس اللغة، سُمِّي كلُّ شئٍ لم تأت عليه الأيَّامُ: جَدِيداً، ولذلك يُسمَّى اللَّيلُ والنَّهارُ الجديدَينِ والأجَدَّينِ، لأنَّ كُل واحدٍ منهما إذا جاءَ، فهو جديدٌ، وأيضا أشار ابن منظور في لسان العرب قائلا: وتَجدَّدَ الشيءُ صَارَ جَدِيداً، وأجَدَّهُ واسْتَجدَّهُ، وجَدَّدَهُ: أي صَيَّرَه جَدِيداً، فالجديد بهذا المعنى هو ضد القديم، وقد تم توظيف مصطلح التجديد في مجال الفكر الإسلامي بمعاني الإحياء، أي إحياء ما اندرس من المعارف الدينية وترميم ما نقص وتقوية ما ضعف وبلي، فتجديد الشيء ليس معناه أن تزيله، وتنشئ شيئاً جديداً مكانه ، فهذا ليس من التجديد في شيء، تجديد شيء ما أن تبقي على جوهره ومعالمه وخصائصه ولكن ترمم منه ما بلي، وتقوي من جوانبه ما ضعف، إن تجديد الدين بمعنى تجديد الايمان به وتجديد الفهم له والفقه فيه. فلا يعني التجديد إضافة نوعية في الدين بقدر ما يعني الإحياء.
في مجال الأدب والإبداع يأخذ التجديد منحى مخالفا، فلا يعني الإحياء، بقدر ما يعني التمرد على القواعد المألوفة، والصيغ اللغوية التقليدية، وتوليد المعاني الجديدة، وأيضا نحت التراكيب الجديدة، مما قد ينتج عنه تصادماً بين قوانين اللغة، وضرباً لمنطق النحو والبلاغة والعروض، ولذلك وقع الاختلاف بين الأدباء والنقاد في قبول التجديد بين الرفض المطلق والدعوة غير المقيدة للتجديد، بوصفه سبيلا لتطوير العمل الإبداعي والارتقاء باللغة، وقد نحا هذا المنحى عدد من النقاد، ومنهم سعيد مصلح السريحي، في كتابه: الكتابة خارج الأقواس؛ دراسات في الشعر والقصة، وكذلك الدكتور سعد البازعي، في كتابه: ثقافة الصحراء؛ دراسات في أدب الجزيرة العربية المعاصر. حيث ربطا بين التجديد والكتابة الحداثية، وما بعد الحداثة، التي تتبنى رؤية مغايرة للسائد، وتؤسس منهجها على نقض القديم وهدم البنية التقليدية سواء في التركيب أو الدلالة، أي الشكل والمضمون، وتصبّ في تحقيق لذة النص، بما توفّره هذه الكتابة من آليات التوتر والإدهاش والمفارقات، والتي تُنتِجُ جماليات الغموض والبوح بالإشارة والرموز والعلامات، مما يطبع الكتابة الإبداعية الجديدة في عالمنا المعاصر.
إنَّ التجديد والابتداع ضد التقليد والاتباع، وهو الإتيان بالجديد غير المعروف، وقد يكون إبداعا أو توليدا حديثاً، ويقوم على خاصية التجاوز التي تتأرجح بين القطيعة والمحاورة والهضم، وينبني التجديد على رؤية إبداعية سابقة يصدر عنها المبدع سواء في نظرته للأشياء أو فهمه لطرق التشكيل وأنماط التركيب والتوليف والتوليد.
مفاتيح التجديد في المنتقى المعين:
إن قراءة المقدمات والتمهيدات التي افتتح بها المنتقى المعين من شعراء المغرب في القرنين التاسع عشر والعشرين لمؤلفه الدكتور عبد الله بنصر العلوي، وعلى امتداد الأجزاء الثمانية التي شكّلت متن هذه الموسوعة الشعرية، تؤكد بجلاء محاولة المؤلف الجمع بين التأصيل والتحديث، إذ لم تقتصر هذه الموسوعة على توثيق الشعر وترجمة الشعراء بشكل تقليدي متعارف عليه، بل جمعت إلى ذلك دراسات ومعطيات تخدم فهم خصوصية كل تجربة شعرية، سواء كانت تجربة فردية أو جماعية، مادام انتقاء كل جزء من الموسوعة قد تم على أساس المناطق الجغرافية، حيث يمكن أن نستشف ملامح رؤية نقدية تقوم على الخروج عن المألوف في أنظمة التعامل مع النصوص الشعرية، بإعادة الاعتبار لتأثير البيئة المحلية في الذائقة الشعرية، خاصة وأن الكثير من هذه النصوص هي لشعراء مغمورين، ترى النور لأول مرة، ويمكن أن تتيح قراءة نصوصهم فهم جوانب جديدة من سمات الحياة الأدبية والفكرية بالمغرب.
في هذه الدراسة سوف نركّز على المجلد الثامن من الموسوعة الشعرية الموسومة بالمنتقى المعين من شعراء المغرب في القرنين التاسع عشر والعشرين، ويتعلق الأمر بشعراء حواضر المغرب الشرقي، وهو الجزء الذي صدّر له وأعدّ تراجمه وانتقى أشعاره الأستاذين الدكتور عمر قلعي، والدكتور محمد يحيى قاسمي، وذلك تحت إشراف وتقديم ومراجعة مؤلف الموسوعة الدكتور عبد الله بنصر العلوي.
ونتناول بالفحص والتحليل قضية فنية تتمثل في التجديد والتقليد عند شعراء حواضر المغرب الشرقي، حيث نلمس سمة التجديد عند شعراء هذه الجهة، من خلال وفرة النصوص وتنوع موضوعاتها، “مما يجسّد غنى أشعار هذه الجهة وتميّزها الفني، فكانت ظاهرة شعرية في المغرب الشرقي، لما لها من كثرة وتراكم، وما لها من حضور فاعل في رؤى الحداثة ومقوماتها الأسلوبية والذاتية، وفي الأدب الإسلامي وخصوصياته الجمالية، وكلّ ذلك حقّق تفاعلاً كبيراً مع الثقافة الأدبية المعاصرة حتى أصبح الشعر ظاهرة إبداعية في كلّ حواضر المغرب الشرقي ملتزمة بقضايا الإنسان والمجتمع..”.
وإذا كان الجزء الخاص بشعراء حواضر المغرب الشرقي حسب مؤلفه الدكتور عبد الله بنصر العلوي “محاولة لرصد فضاء الشعر المغربي وبعض شعرائه في ضوء مدرستين كبيرتين: التقليدية والحداثية”، فإن دراسة التجديد والتقليد عند شعراء المغرب الشرقي تكتسي مشروعية علمية لها ما يدعمها من حيث النصوص والرؤى الشعرية لأصحابها، وأيضاً من حيث الموضوعات والأشكال التعبيرية، وهو ما سنتناوله في مقالات قادمة.