بقلم: د خالد التوزاني
للكتابة الصوفية منطق مغاير للمألوف من الكتابات المتداولة بين المبدعين والقراء، فالمتصوف المبدع له وضع خاص، ليس على مستوى مظاهر الحياة اليومية حيث الترفع عن بعض المباحات، وإنما كذلك على مستوى التعبير عن طبيعة تلك الحياة وأشكالها المختلفة، حيث يكون للصوفي وضع “خاص” مخالف للمتعارف عليه؛ يتسم بالقطع مع كل ما هو دنيوي زائل، فلا تصرف له في الأشياء، وإنما هو مستقبل للأنوار والتجليات، منسجم مع حركة الكون في الخضوع للخالق، فلا يكتب غير ما يُطلب منه، وما يتجلى في قلبه من حقائق وأذواق. مما فتح هذا النوع من الكتابات على جماليات متفردة، ظلت تمارس سحرها على القارئ، وتثير عددا من القضايا والإشكالات.
إذا كان الأديب مَصدرا لإبداعه، فالصوفي ليس كذلك، وإنما هو ناقلٌ للمعرفة، مُعَبِّرٌ عن المعاني، وعَبْرَهُ ينتقل المقدس ليُطَهِّر المدنس، فرسالة المتصوف كما يحاول إقناعنا بها هي إنقاذ العالم، عبر لفت انتباه الخلق لكلام الخالق، فهو يقوم بتبليغ الرسالة كما أُلهمها من قبل الله، ولذلك سميت الكتابة “كتابة” من باب المجاز، وإلا فهي على الحقيقة ضربٌ من الإلهام والفيض والفتح.
ثمة علاقة جدلية بين الإلهام والكتابات الصوفية، فهو ينمو بنموها، ويخفت بريقه بأفول شمسها، ذلك أن الإلهام مادة هذا النوع من الكتابات؛ مثلما أن الحجر مادة النحت، والأصوات مادة الموسيقى، والألوان مادة الرسم، غير أن الإلهام ليس مجرد مادة هامدة كالحجر، وإنما هو حيُّ مثل الماء؛ يأخذ شكل الإناء الذي يوضع فيه، فهو يتفاعل مع متلقيه/الصوفي، ولا يظل جامدا كالحجر، لأنه مشحون بما يشغل ذهن الإنسان وفكره، ويوجه مسار حياته صوب العلوي والقدسي، ليصبح الإلهام مصدرا للكتابة والإبداع الصوفيين، وبدل أن يكتب الصوفي تجربته، يحدث العكس، فتصير الكتابة الصوفية هي من تكتب الصوفي وتنفخ فيه من إلهامها، وكأن وجود الكتابة أسبق من الكاتب، حيث خلود النص في الأزل، ونزوله في لحظات الفيض، ليكون علامة على الجمال الأبدي لمبدع الكون، وشتان بين من تكتبه وبين من يكتبك ويصنعك.
إذا كانت التجربة الصوفية في عمومها تسقى بماء واحد، مصدره ينبوع المحبة أو بحر الحب، “الذي يخلخل المرء عن عقله، ويأخذ بكله، ويغيبه عن وطنه وأهله، فيتصل بأصله، فيكون به في ذاته وقوله وفعله”، فإن التعبير عن هذه التجربة متنوع، ومتلون حسب أحوال المحب، وألوان شوقه، وحنين روحه إلى النبع الصافي الذي انبثقت منه وولجت الجسد الفاني، حيث كانت تسوية الإنسان ونَفْخُ الروح فيه أمرا عجبا، كما قال الحق تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن روحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾، ومعلوم أنه لا سجود لغير الله تعالى، فهذا سجود تحية وتكريم، حيث شرف الجسد البشري بوجود روح من الله فيه، اقتضت تعظيم الملائكة لخلق الله. وفي موقف آخر، أقر البشر جميعا بوحدانية الله، حين أشهدهم الحق على أنفسهم: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا﴾، فظل حنين الإنسان إلى ذلك الخطاب الرباني في الأزل، ناطقا بتوحيد الله، فلا عجب أن يعبر الصوفي عن لحظة الشوق والحنين لذلك الأصل، بأنواع من الكتابة، التي تجسد محبته ووفاءه، وتعكس طموحه في القرب من محبوبه والعودة إلى الزمن الأصلي.
بهذا المعنى تصير الكتابة تجربة قائمة الذات، وليس مجرد وسيلة للإبلاغ والتواصل، إنها من تكتب الصوفي وليس العكس، فقد حركته الأشواق والأذواق للبوح، فأملت عليه ما يكتب، هي من كتبتْ، فصنعتِ الكاتبَ أي الصوفي، وهو يمارس تجربته بالكتابة، أي يتحول زمن الكتابة إلى لحظة تجربة حقيقية، يحس فيها بمرارة البعد وألم الفراق ولسع الشوق يعصر قلبه، فيطول فناؤه أو يقصر إلى أن يوهب له البقاء بوصال محبوبه، فيكون “شهود الحق حقا، ومعرفة الجمع فرقا” ، وهي ثمرة لا تنال إلا بمعاناة التجربة، إذ ليست الكتابة سهلة، فهنا نستحضر لحظة نزول الوحي على الرسول ﷺ حيث تعجز الناقة عن حمل النبي ﷺ من شدة ثقل الأمانة أي الوحي، يقول ابن عربي الحاتمي(ت638هـ): “ومن أعجب الأشياء الواقعة في الوجود، ما أقوله، وذلك أن الملائكة إذا تكلم الله بالوحي، كأنه سلسلة على صفوان تصعق الملائكة، ورسول الله ﷺ كان إذا نزل عليه الوحي كسلسلة على صفوان يصعق وهو أشد الوحي، فينزل جبريل به على قلبه، فيفنى عن عالم الحس ويرغو ويسجي إلى أن يسري عنه وإنه لينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيتفصد جبينه عرقا” ، كذلك الصوفي يشعر بثقل ما يجد، فلا تسعفه اللغة، ويبطل الكلام المألوف، ليحل الصمت أو الجنون أو الشطح، يقول البسطامي: “من عرف الله بهت، ولم يتفرغ إلى الكلام” ، فإذا نطق قال العجب، ودوّن العجيب . ولا عجب في ذلك لأن شخصية المجنون مقبولة في سياق الخلق والإبداع من أجل إنتاج “عجيب الجنون الإيجابي” ، ولا يختلف ذلك عما هو مألوف عند الصوفية مثل ظاهرة البهاليل والمجاذيب الذين يتجاوز خرقهم للعادة ما هو مألوف عند أهل الفن والأدب، فمن المتصوفة قوم بهاليل (…) يقع لهم من الإخبار عن المغيبات عجائب لأنهم لا يتقيدون بشيء، فيطلقون كلامهم في ذلك، ويأتون منه بالعجائب.
هكذا، يمكن اعتبار التجربة الصوفية، تجربة فريدة من نوعها، لأنها محاولة لبلوغ الكمال وتذوق الجمال الكوني في مختلف أبعاده وتجلياته، وأثناء هذه المحاولة يقع التداخل والتجانس، بين المتباعدات، والأضداد، والأشباه والنظائر، إلى حد التكامل ثم التماهي، فلا تكاد في النهاية تفرق بين التجربة والكتابة والصوفي، يصبح الكل معبّرا عن الكل، ولا يتبين: مَنْ صَنعَ مَنْ؟ وهنا تكمن جمالية هذا النوع من الكتابات، إلى درجة السكر الجمالي الذي يغيب الحواس، مفسحا المجال للقلب كي يتذوق بعض الحقائق ﴿ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ ، فالقلب آلة الذوق ومستقر الحق، وبدون هذه الآلة يصعب فهم “الكل” أي؛ “التجربة والكتابة والصوفي”، وقد يتصاعد التماهي، فيبلغ درجة قصوى بأن يصبح الصوفي وهو في قمة الوصال وتلقي الرحمات أو الفيوضات مُعَبِّرًا عن الكل وربما كل الكل أو كل كل الكل، كما قال الشاعر المتصوف:
أنَا كُلُّ كُلِّ الكُلِّ طَلْسَمُ طَلْسَمٍ بِذَاتِي خَلَتْ ذَاتِي بِكَاسَاتِ خَمْرَةِ
تكشف الكتابة الصوفية عن تنوع الأشواق التي يحملها قلب المحب الصوفي جراء البعد أو الحجب، وحيث إن المتصوف لا يملك غير اللغة للبوح بتلك الأشواق، ونقل ما يختلج في قلبه من الأذواق، فهو يضطر إلى تحميل اللغة فوق ما تطيق، وشحنها بألوان المعاني التي تضيق عن حملها الألفاظ المألوفة، فيصبح الخرق، ثم التجاوز سمة مميزة لهذه الكتابة، فتتعدد محاولات الوصول، وحوادث الوقت مما يصادفه الصوفي في سيره إلى الله، وفي كل محطة من محطات السير، هناك كتابة مخصوصة لها مميزات معلومة، إذ لا يمكن أن تشبه كتابة الوصول كتابة الانطلاق، فالصوفي لا يقبل الثبات، فالحركة عنده مقدسة، لأنها حركة في اتجاه السماء.






























