بقلم: أسامة كامل أبو شقرا
إنَّ ما يحصلُ في البلادِ العربيةِ هذه الأيام ليسَ مؤامرةً، كما يحلو لبعضِهم تسميتُها، بل أراها حربًا من حروبِ صراعِ البقاء. بدأتَ هذه الحرب في آخرِ القرنِ الثامنَ عشر مع نزولِ نابوليون بونابارت بجيشِه في مصر ثم توجُهِه بعد ذاك إلى عكا، فتتصدَّى له بريطانيا العُظمَى وتردّهُ عنها ثم تطردُهُ من مصر. لم تقمْ بريطانيا بذلك حُبًّا بسلاطينِ بني عُثمان، بل أولًا: بسببِ العداوةِ القديمةِ بينها وبين الفرنسيين، الذين سيقومون حتمًا بقطع الطريقِ عليها إلى الهندِ إذا ما احتلُّوا مصرَ وسوريَّا، اللتان تشكلان مع ما حولَهُما من الأراضي العربيّةِ، بقعةً من الأرضِ هي أهمُّ بقاعِ الكرةِ الأرضيّة، بموقعِها الاستراتيجيِّ كبوابةٍ لقارَّاتِ العالمِ القديمِ الثلاثِ، ولِما فيها من ثرواتٍ طبيعيةٍ ضخمةٍ. وثانيًا: لأنها لم تكنْ بعدُ قد اتفقتْ والدُّولِ الأوروبيّةِ الأُخرى على تقاسُمِ تركة ذلك “الرجل المريض”.
وفي العامِ 1840 تقاطرت الدول الأوروبية، وعلى رأسها بريطانيا، لمساندةِ السلطنةِ العثمانيّة في طردِ جيوشِ محمد علي باشا من سوريا وإعادةِ تحجيمِهِ واليًا على مصر. وعلى الرُغمِ من أنَّ فرنسا كانت حليفةً لمحمدِ علي، فلم تقدم له أيَّ نوعٍ من المساعدة سواء في الرجالِ أم في السلاحِ أم خلاف ذلك. لم تقم الدول الأوروبية بذلك إلّا لأنها أيقنت، أن دولةً حديثةً فتيةً بدأتْ تظهرُ بقوةٍ على أهم موقعين من تلك البقعةِ الاستراتيجيةِ ولتحلَّ بالتالي محلَّ السلطنةِ العثمانية، التي كانت على طريقِ الزوال. وكان لا بدَّ لهم أيضًا من تسليح وإثارة أبناء جبل لبنان بوجه محمد علي للتسريع في طرده، ليقينهم أنه لم يتمكن سابقًا من احتلال سوريا بسرعة قياسية لولا وقوفهم عسكريًا معه. هذا الجبل الذي يشكل القلعة الطبيعية التي من يسيطر عليها سيسيطر على سوريا بكاملها. وهذا ما جعلهم أيضًا يثيرون تلك الأحداث المؤسفة بين أبنائه، بدءًا من العام 1842 حتى 1860، ويلبسونها الثوبَ الطائفيَّ، كي يُنهوا أهمية هذه القلعة.
وفي العام 1907 شكل رئيسُ وزراء بريطانيا، كامبل بانيرمان، لجنة من الخبراء، في عدة حقول، من كلٍّ من بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا، وكلفهم بدراسة أحوال الدول الأوروبية، وخاصة الاستعمارية منها، التي قاربت، حسب رأيه، حافة الزوال. وكانت نتيجة تقرير تلك اللجنة أن الخطر الأهم في سرعة زوال دولهم يكمن في العالم العربي، الذي يقطنه أناسٌ يتكلمون لغة واحدة، وغالبيتهم على ديانة واحدة، وأرضهم تحتوي على كميات هائلة من الموارد الطبيعية المتنوعة، ولا يفصل بينهم فاصل جغرافي، وقد بدأوا يصحون من سُبات طال أمده، ولا يحتاجون إلّا إلى قيادة قويّةٍ حكيمةٍ ليقيموا دولة قوية على أهم بقاع الأرض استراتيجية، والتي ستتمدد فيما بعد حكمًا تُجاه أوروبا.
أما الحل فكان التالي:
1 – العمل المستمر على تفتيت وتقسيم وتفريق هؤلاء العرب.
2 – تأسيس كيانات مصطنعة تكون تحت سيطرة الدول المُستَعمِرة.
3 – محاربة أيَّ نوع من أنواع الوحدة بينهم سواء كانت جغرافية أم ثقافية أم دينية أم تاريخية، والعمل من دون حدود على تقسيم المناطق المأهولة من أراضيهم.
4 – ولإتمام ذلك اقْتُرِح أن تُؤسَّس في فلسطين دولة “فاصلة” (Buffer state) مأهولة من أناسٍ غرباء أقوياء، معادين لجيرانهم، أصدقاء للدول الأوروبية ومصالحها.
وهكذا كانت اتفاقية سايكس – بيكو، ووعد بلفور ثم قيام دولة إسرائيل. أما لماذا اختاروا فلسطين بالتحديد؟ فلأنها تشكل فاصلاً جغرافيًّا كاملاً فيما بين عرب آسيا وعرب إفريقيا.
وأعتقد بأنني لست بحاجة لسرد ما حصل للبلاد العربية منذ بداية القرن العشرين وحتى يومنا هذا. مع الإشارة إلى أن الولايات المتحدة الأميركية تولت، منذ خمسينات القرن الماضي، الدور الذي كانت تقوم به، في بلادنا العربية، دول الاستعمار القديم، وخاصة بريطانيا وفرنسا، بما عُرِف يومها بسياسة “تعبئة الفراغ”، كما تولى الاتحاد السوفييتي، سابقا، روسيا حاليًّا دور القياصرة الروس.
ومن رؤيتي لما حدث ويحدث على أراضينا أقول: إن تلك الدول لا تضع الخطط مسبقًا ولكنها تراقب وتنتظر ما نقعُ فيه من أخطاء، وما أكثرها، فتستغلها لتحقيق غاياتها في زيادة شرذمتنا وتقسيمنا وتقطيع الأواصر التي تربط فيما بيننا.
وهنا أسأل جميع المسؤولين في البلاد العربية قاطبة:
هل علمَ أحدُكم، أو أحدُ مستشاريكم، بتلك المقررات أو مثيلاتها؟ وما أكثر أولئك المستشارين! أم ما زلتم تغُطُّون بنومٍ عميق؟ وإذا ما علمتم بها، وبما أن أسلافكم قصروا بمواجهتها، فكيف ستواجهون ما هو آتٍ؟
وأختم بالقول المأثور: “إن كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم.”