بقلم: د. خالد التوزاني
حتى ندرك خطورة الرحلة الروحية ومدى أهميتها، نستحضر أكثر الأسفار شهرةً في الكون، والتي كان لها تأثير عميق على تحولات الحياة في الأرض، قيام دول، وبزوع أفكار، ونهوض أمم، وبناء حضارات، ويتعلق الأمر بتلك الأسفار التي أحدثها الله جل في علاه، ومنها أنه أنزل الكتب السماوية على الرسل والأنبياء، وخصّ كل رسول بسفر أو أسفار تتلاءم مع قومه وعصره، فقد أهبط آدم وحواء إلى الأرض، ورفع إدريس عليه السلام، وحمل نوحا في البحر، وذهب بإبراهيم الخليل ليمنحه كراماته، وأخرج يوسف، وأسرى بلوط، وأمر موسى بالهجرة فرارا من قومه، ورفع عيسى إليه، وذهب بيونس إلى بطن الحوت، وأسرى بمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، وأنزل الروح الأمين جبريل على قلوب أنبيائه مُكلّفاً بالوحي، وأصعد الكلم الطيب إليه.. فالرحلة بهذا المعاني هي جوهر الحياة محرك الأحداث الكبرى، لا يمكن الاستغناء عنها، ولا مفر منها، وما دامت هذه الرحلة ضرورة أكيدة، فلتكن إلى الحق إذن، وليكن الفرار إليه وحده سبحانه وتعالى، امتثالا لقوله عز من قائل: “فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ، إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ” ، ليؤسس هذا النداء نوعاً فريداً من الرحلات: رحلات الروح أو السفر في مسالك النفس.
السفر ضرورة حتمية وسنة كونية، كما أن الإنسان يُجَسِّد في مساره كل أنواع السفر؛ فخروجه إلى الوجود سفر، نموه الجسدي سفر، جريان دمه في العروق سفر، كلامه دائم السفر، حروف كلامه مسافرة عند خروجها من أعماق النفس، وأفكاره دائمة السفر بين المحمود والمذموم، وفي المتنفس سفر للأنفاس، وفي الرؤية كما في الرؤيا سفر للأبصار في المبصرات، وفي تعبير الرؤيا سفر وعبور من عالم إلى عالم، وأما عوالم الخيال فكلها أسفار في أسفار، ثم إنَّ موت الإنسان سفر أيضا من العالم المحدود إلى العالم المطلق، فالإنسان إذن في سفر دائم قبل أن يُخْلق، وحياته عبارة عن سفر من الميلاد إلى القبر، ومنه إلى البرزخ، وفي البرزخ يسافر إلى الحشر فإلى الصراط ثم إمّا إلى جنة أو إلى نار، وفي الجنة سفر دائم كما في النار سفر دائم، وهكذا فعُمرُ الإنسان سفرٌ من الأسفار، وتبعاً لهذه الحقيقة ينبغي لعاقل أن يعجل بحمل الزاد والإعداد للرحيل، كما قال الشاعر:
فَاقْـضُوا مـآرِبَكُم عِجـَالاً إنَّمَا أَعْمَاركُم سفرٌ مِـنَ الأَسْفَار
من هنا تأتي أهمية وِجهة السفر، وإذا كانت الرحلات المألوفة انتقالا من مكان لمكان، فإن نمطا الأسفار والتنقلات تجعل من القلب رحالة في الخلوات و تنتقل به من فضاءات الغفلة إلى منازل القرب حيث صفات الرحمة والجلال، وهنا يتحقق بعمق مفهوم العجيب في رحلات المتصوفة، إن رحلة القلوب تعني ترحالها من مألوف الأخلاق إلى محاسنها وأجودها، ومن غفلة القلب إلى يقظته وانتباهه، ومن القلق والتوتر إلى الاطمئنان والثَّبَات، حيث يترقى الوجدان وتنتعش الروح في مدارج التكمل والتجمل ليصبح المرء أكثر قربا من خالقه ومن ثم أكثر سموا وجمالا، مما يسهم بشكل فعال ومثمر في بناء إنسان متوازن ينزع نحو تحقيق نوع من الكمال الإنساني المنشود، ليستحق وصف “أحسن تقويم” ولعل المجتمعات الحالية في أمس الحاجة لهذه القيم النبيلة؛ قيم النهوض والارتقاء والسمو بالروح قبل الجسد والتخلص من أمراض القلوب وزلات النفوس والأوهام عبر السفر في قطارات المحبة فائقة السرعة والموصلة للحق ولرضى الرحمن وفق منهج خير الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وهكذا، يميز أبو حامد الغزالي بين سفرين اثنين: “سفرٌ بظاهر البدن عن المستقر والوطن، إلى الصحاري والفلوات، وسفر يسير القلب عن أسفل السافلين، إلى ملكوت السماوات، وأشرف السفرين السفر الباطن” ، فهو أحسن السفر كما نقل ذلك الرحالة العياشي في رحلته “ماء الموائد”:
مَا أحسَن الضَّحك الجَارِي بِغير فَم ورُؤْيَةٍ غَـابَ عَنْهَا هيكــل البَصَر
كُنْ قَاطِنـًا ظاهرًا والسِّر مُرْتَـحــــِلٌ فَالسَّيْرُ مِنْ دُونِ رِجْلٍ أَحسن السَّفَر
فهو سفر وجداني إلى مدارج الحقيقة الروحية، يُسْفِرُ عن معدن الإنسان، ويسير به نحو نوع من الترقي في عالم الحقائق، وفي هذا المعنى يقول عبد الكريم الجيلي: “فهذا سفر أسفر عن محياه، وأظهر ما منحه مولاه، فإذا تحقق الإنسان بهذه الحقائق، واستحضر هذه الطرائق، سافر من معدنه إلى نباته، إلى حيوانيته، إلى إنسانيته، إلى نفسه، إلى عقله، إلى روحه، إلى سره، إلى حقيقة حقيقته وكليته المطلقة” ، حيث يشير إلى تفاصيل رحلة الإنسان في مسيرته السلوكية إلى الله، ومعراجه إلى معرفته والتفاني في حبه، فيخرج الإنسان من ضيق النفس إلى فضاء الروح، قبل أن يصل إلى عالم الحقائق، ويدرك حقيقة الحقائق، حيث لا حدود لفوائد هذا النوع من الأسفار، الذي تكون النفس مسالكه وممالكه، ويكون القلب مسافرا فيها، أي منتقلا من مقام إلى مقام.
إن رحلة القلوب، نوع من “الانتقال عن المقامات، والإنزال في أخرى، كالانتقال من مقام الإسلام إلى الإيمان، ثم من مقام الإيمان إلى الإحسان” ، ويقتضي ذلك قطع كل العلائق، والخروج عن الشهوات والعوائد، حيث “لا يتحقق السفر ويظهر السير إلا بمحاربة النفوس، ومخالفتها في عوائدها، وقبيح مألوفاتها وشهواتها” ، وحسب همة السالك يكون نوع السفر الذي يطيقه قلبه، وتقدر عليه جوارحه، وقد لَخَّصَ ابن عجيبة أنواع سفر القلوب إلى حضرة علام الغيوب في الانتقال من أربعة مواطن إلى أربعة أخرى، حيث يسافر أولاً: من موطن الذنوب والغفلة، إلى موطن التوبة واليقظة، ويسافر ثانيا: من موطن الحرص على الدنيا والانكباب عليها، إلى موطن الزهد فيها والغيبة عنها، ويسافر ثالثا: من موطن مساوئ النفوس وعيوب القلوب، إلى موطن التخلية منها والتحلية بأضدادها، ويسافر رابعا: من عالم الملك، إلى شهود عالم الملكوت، ثم إلى شهود الجبروت، أو من عالم الحس إلى عالم المعنى، أو من عالم الأشباح إلى شهود عالم الأرواح، أو من شهود الكون إلى شهود المكوّن ، حيث ندرك المهمة الجسيمة التي على السالك إنجازها، وهي بلوغ حضرة الحق، وما تتطلبه هذه الغاية من سير متواصل وجهد مستمر، قد يفوق ما تتحمله أجساد الرحالة أثناء السفر المحسوس، لكن المتصوف قد يجمع في أسفاره بين سفر القلوب ورحلة الأبدان، فيحقق نوعا من الكمال في رحلاته التي تختلف عن رحلات غيره من الناس، ويستمر في الانتقال حتى “يصير سفره وحضره على السوية”.
إن رحلات أهل العرفان، من ذوي الخبرة بمسالك السير إلى رضوان الله، لم تكن رحلاتهم “للتنزه في البلدان، أو لكروب الأوطان، بل في رضى الرحمن، لأن مقاصدهم دائرة على الجد والتحقيق والمناقشة والتدقيق، لا ينقلون أقدامهم إلا حيث يرجون رضى الله، ولا يسافرون بقلوبهم إلا إلى حضرة القريب المجيب، بخلاف العامة: أنفسهم غالبة عليهم، وشهواتهم حاكمة عليهم، إن تحركوا للطاعة خوضتها عليهم، فأفسدت عليهم نياتهم، وأزعجتهم في هوى أنفسهم، تُظهر لهم الطاعة وتُخفي لهم الخديعة” ، وذلك لأن مدار السفر، على “مجاهدة النفوس ومحاربتها في ردها عن عوائدها ومألوفاتها” ، ومن عَجَز عن ذلك، لم يكن مسافرا بالقلب، وإنْ انتقل بالبدن، فَمَن لم يُحارب في نفسه الأخلاق الذميمة، ويحلي قلبه بمكارم الصفات، لم يسافر بالروح ولم يتنقّل في مسالك النفس، ولم ير العجائب، فكان كمن طاف حول نفسه، مكرّراً ذاته دون أي جديد ودون أي فائدة، أو كان كالمجنون يدور حول ذاته ساخراً من حمقه دون أي يدري أو ربما ظنّ ما لا يظنّ به الآخرون، فكان في وادٍ، والحقائقُ في واد آخر، وبينهما حجاب أو سور ليس له باب.