بقلم: نعمة الله رياض
حلقت طائرة مصر للطيران القادمة من طوكيو في سماء القاهرة في طريقها للهبوط , جالسا علي المقعد المجاور للنافذة , شاهد الدكتور فريد مباني العاصمة وفي وسطها نهر النيل شريان الحياه لمصر وطنه الحبيب الذي لم يزوره منذ أكثر من عشر سنوات . جاء لمصر هذه المرة في زيارة عمل , وإن أمكن للعثور علي شريكه لحياته من بنات وطنه . أما الهدف الثالث والهام من رحلته , فهو زيارة شقيقه التوأم الذي لم يره بعدما إفترقا وعمرهما عدة شهور !!
فريد … البالغ من العمر تسعه وعشرون عاما , ابن بالتبني لسكرتير أول بسفارة مصر في اليابان درس الهندسة الميكانيكية بجامعة أوكسفورد بانجلترا أثناء عمل والده بالسفارة المصرية ببريطانيا , وحصل علي درجة الدكتوراه في تصميم السيارات من جامعة كيوتو القريبة من العاصمة طوكيو عندما إنتقل والدة إلي السفارة المصرية باليابان ,ويعمل حاليا” مديرا في ادارة التصميم في شركة مشهورة للسيارات باليابان .
في جلسة خاصة بين فريد وأبيه بالتبني قبل سفرة لمصر , صارحه أبوه بقصة شقيقه التوأم , قال :
تعلم يا دكتور فريد إنني وزوجتي لم نرزق بأطفال بعد زواجنا , وفشلت كل طرق العلاج الطبية في تحقيق أمنيتنا , وكما أخبرتك , ذهبنا إلي ملجأ للأيتام حيث إخترناك من بين مجموعة من الأطفال الموجودين حينئذ .. ولكن ما لم نذكره لك انه كان لك شقيق توأم يشبهك تماما” , ولم يكن لنا إستعداد لتبني طفلين في هذا الوقت , ولم نعرف عنه شيئا بعد مغادرتنا الملجأ بسبب طبيعة عملي في السفارات المصرية خارج مصر.. ستسافر للقاهرة الأسبوع القادم ، إذا أردت العثور علي أخيك ,ها هو إسم وعنوان الملجأ الذي تمت فيه إجراءات التبني ,لتبدأ أول خطوة في تتبع كيف عاش شقيقك التوأم بعد ذلك , وأين هو الآن….
أشكرك يا أبي , سأحاول جادا أن أعثر عليه فهو كل عائلتي في مصر
علي ما أعتقد .
كانت حكومة اليابان قد وافقت علي إقتراح قدمه الدكتور فريد بتخصيص منحة من المنح المقدمة لمصر للتدرب علي تصميم سيارات الركوب والأبحاث الجارية لتطويرها , وإختارت اليابان الدكتور فريد لترأس لجنة تسافر للقاهرة لإختيار المرشحين.
تمت التصفية الاولي للمرشحين إلي ستة عشر مهندس ومهندسة بواسطة لجنة محلية من وزارة الصناعة , وتم إختيار ثلاثة منهم بالإجماع من اللجنة اليابانية التي يترأسها الدكتور فريد ,وهم من الحاصلين علي درجة الماجستير في الهندسة من الجامعات المصرية ولديهم خبرة جيدة في المصانع المصرية للسيارات التي يعملون بها .. وهم محمد صلاح وميشيل صبحي وجيهان مصطفي , وتم إبلاغهم بإنهاء إجراءات السفر خلال شهرين.
نظر فريد مليا إلي المهندسة جيهان, بدت مصرية المظهر حتي النخاع , بوجهها الجميل المشرق وبشرتها القمحية وشعرها الأسود الفاحم المنسدل علي كتفيها وعيونها العسلية الواسعة وقوامها المتوسط الطول الذي يميل قليلا إلي الإمتلاء , وملبسها العصري الأنيق, وقبل ذلك أعجبه فيها ذكاؤها وروحها المرحة في إجاباتها علي أسئلة الممتحنين وأدبها الجم في الحديث وصوتها الناعم المفعم بالأنوثة …
قبل أن تغادر جيهان قاعة الإختبار , إستبقاها الدكتور فريد وأخبرها إنه إطلع علي سيرتها الذاتية ويود التعرف أكثر عليها لغرض التقدم لعائلتها , إذا لم تكن مرتبطة بأحد أخر, فوجئت جيهان بطلبة , ولكنها رحبت به , حينئذ طلب فريد منها إصطحابه إلي مطعم الفندق ودعاها لتناول الغذاء , سارت جيهان إلي جانبه وهي تشكراللة علي نجاحها في الإختبار وتقدم عريس لها في يوم واحد !!!… بعد الغذاء أعطاها رقم تليفونه المحمول وأخذ منها رقم تليفون والدها للإتفاق علي موعد زيارته لعائلتها …
في اليوم التالي لإنتهاء الإختبارات ,ذهب إلي الملجأ الذي عاش فيه شهور مع أخيه التوأم قبل أن يتم تبنيهما , علم من مدير الملجأ بعد الإطلاع علي ملف أخيه أن إسم شقيقه هو حافظ وقد تبناه موظف في وزارة التموين وزوجته لعدم قدرتهما علي الإنجاب ,وأعطاه عنوان إقامة هذا الموظف . حرر فريد شيك بمبلغ كبير تبرعا” للملجأ الذي قام بإيوائه هو وتوأمه في بداية حياتهما , ثم توجه علي الفور إلي عنوان الموظف الذي تبني حافظ ..
علم من زوجة الموظف , إن زوجها قد توفي منذ عدة أعوام وإن إبنها بالتبني حافظ قد غادر المنزل بعد زواجه بدون علمهما . وأعطته عنوان منزل حافظ ..
وصل منهكا لمنزل حافظ المتواضع في منطقة شعبية بحي الدويقه بجوار القلعه .. عرف فريد نفسه لزوجة حافظ المنقبة وجلس معها ومع والدتها وحولهما جلس أطفال حافظ الثلاثة , كانت الطفلة الكبري في السادسة من عمرها ومحجبة .. !! قالت الزوجة إن حافظ معتقل منذ أشهر في أحد السجون بتهمة الإنتماء لجماعة إرهابية وهي تعيش هي وعائلتها علي مساعدات من أهل الخير .. أعطاها فريد معظم ما معه من نقود سائله , ووعدها بإرسال مساعدة شهرية عن طريق صديق له يعمل بوزاره الخارجيه بالقاهرة .
إتصل فريد بوالده في اليابان ليساعدة في مقابلة شقيقه , عن طريق وزاره الخارجية , نجح والدة في تحديد موعد لفريد مع عقيد في أمن الدولة ..
إستقبل العقيد فريد في الموعد المحدد ورحب به قائلا” :
– يعتبر شقيقك مثال نموزجي للمتدين المعتدل الذي تحول تحت تأثير عدة عوامل إلي متطرف يعتنق عقيدة مبنية علي تفسيرات خاطئة للدين
وتحيز لهذه الأفكار دون قبول الرأى الأخر, وعاش هو والمغرر بهم من زملائه بعيدا عن الناس معتبرين إعتقادهم هو الحق , وفي مرحلة تالية كانوا علي إستعداد لإستخدام العنف ضد المختلفين معهم في الرأى من المؤمنين بنفس دينهم , فما بالك بالمختلفين معهم في الدين ؟!! يعتبرونهم كفارا” يستحلون دمائهم !! ويتحولون بذلك إلى إرهابيين خطرين علي أمن الدولة ..
سأله فريد :
– لكن ما هي العوامل التي أشرت إليها والتي تؤدي الي تطرفه ؟
– أولا” .. إقتصار دور المدرسة علي التحفيظ, وغياب دورها في غرس حب المجتمع والإنتماء للوطن , وليس الإنتماء لأمة المجاهدين الذين يعملون علي تفكيك الدول وإحلالها بأمة يؤمن شعبها بعقائد متطرفة .. وثانيا .. الإختلاط والتأثر بأفراد متطرفين يستغلون فقره وعوزه في تنمية شعوره بالعداء والكراهية لذوي السلطة والثروة من أبناء وطنة وإستعدادة للتضحية بروحه لمحاربتهم , ويغرونه بالجنه والتنعم بخيراتها ومباهجها إلي أبد الأبدين ,إذا أستشهد في سبيل الله .. وبذلك يصبح آداة طيعة في أيديهم ومن السهل حينئذ تكليفة بأعمال إرهابية … وهذا ما حدث لحافظ , فبعدما حصل علي شهادة فنية متوسطة من إحدي المدارس الحكومية , كان شخصا عاديا يواظب علي الصلاة في مواعيدها , لكن بعد وفاة والده بالتبني ,إضطر أن يعمل سائق للتوك توك إستأجره من أحد التجار المتطرفين بحي الدويقه . وقد قام هذا التاجر بضمه إلي الجماعة المتطرفة التي يتبعها وتزويجه من إحدي فتياتها, وهي لا تقرأ أو تكتب ومنقبة ولم يراها إلا ليلة الدخلة !!
نظر العقيد إلي فريد وقال :
سبحان الله !! عندما ألقي القبض علي حافظ في مخبأه بسيناء وهو يدرب المجاهدين من أمثاله علي إرتداء وتشغيل الحزام الناسف وصنع العبوات المتفجرة .. كان حالقا” شعر رأسه وشاربه , مطلقا” ذقنه الكثة مرتديا” جلبابه القصير الأفغاني , من يشاهده ويشاهدك بالمقابل , لا يصدق أبدا” انكم أخوة .. بل توائم متشابهين !! ..
إستدعي العقيد حافظ من محبسه ليقابل شقيقه فريد , قال العقيد لحافظ :
سلم علي أخيك التوأم , جاء من اليابان ليراك .. إنه الآن دكتور مهندس يعمل في اكبر مصنع للسيارات هناك ..
نظر حافظ إلي فريد شذرا وصرخ في وجهه :
أنا لا أعرفك , أنت لست اخي , أنت تعمل في بلاد الكفار, تلبس ملابسهم وتأكل طعامهم وتتشبه بهم , أغرب عن وجهي , إذهب إلي جهنم وبئس المصير …
مرت عدة أيام , قام خلالها فريد بزيارة عائلة جيهان التي تسكن في حي راقي بالقاهرة ويملك والدها مصنعا” كبيرا” في منطقة صناعية قريبة من القاهرة يتولي إدارتها هو وإبنه .. صارح فريد عائلة جيهان بظروف نشأته وتبنيه .. قدرت عائلة جيهان ظروفه ورحبت به , وإتفقا علي حضوره للقاهرة بعد شهر مع ابيه وأمه بالتبني لعقد الزواج علي أن يصطحبها بعد ذلك ليقيما حيث مقر عمله باليابان .
أقلعت طائرة مصر للطيران من مطار القاهرة في طريقها لليابان , جلس فريد بجانب النافذه يشاهد بوجه عابس وعيون دامعة قاهرته الحبيبة , تنهد بآهه خافتة , سمعتها الراكبه الأجنبية العجوز الجالسة بجواره .. نظرت إليه وقالت :
أري يا سيدي إنك حزين .. هل عندك مشكلة ؟
نعم يا سيدتي , إنا حزين علي أخي التوأم ..
أوه … هل حدث له مكروه ؟
نعم يا سيدتي , لكنها قصة طويلة لشعب طيب كافح .. وما زال .. من أجل حياة كريمة , يسودها التسامح والإيمان القويم ..