بقلم: د. خالد التوزاني
كثيرا ممن درسوا الرحلات، وحاولوا تحليل بعض نصوصها، انشغلوا بالعجيب والغريب فيها، فمثلا انشغل حسين محمد فهيم بغرائب الأطعمة وعادات الأكل التي وردت في رحلات؛ البيروني (ت440هـ)، وناصر خسرو (ت481هـ)، وابن جبير (ت614هـ)، والبغدادي (ت629هـ)، وابن بطوطة (779هـ)، والشدياق (ت1887هـ) . وعلى سبيل التمثيل لا الحصر، يمكن أن ننتقي وصف الرحالة الفارسي “ناصر خسرو” للمائدة السلطانية التي شاهدها إبان زيارته للقاهرة عام 439هـ حيث يقول: “أما هيئة المائدة السلطانية فتصل حد الإعجاز، تزين المائدة شجرة عملاقة شبيهة بشجرة الأترنج، وجميع أغصانها الكثيفة وحملها من الأترنج عبارة عن قطع من السكر، ويحف بالشجرة ويعلوها ويجاورها ويرقد بين يديها آلاف من الصور والتماثيل الغريبة العجيبة وكلها من السكر الخالص، حقا إن هذا لشيء عجاب” . وكذلك، أورد أبو سالم العياشي في رحلته “ماء الموائد”، بعضا من الأكلات الغريبة، مثل الهريسة، وقد وصف كيفية إعدادها وبيان تأثيرها ، كما ذكر ولع أهل المدينة المنورة بأكل اللحم (…) “حتى أن من نسائهم من لا يطبخ غذاءا ولا عشاءا إلا أن يكون لحما، ويقلن: نحن لا نعرف الطبخ بلا لحم، ولو أدى ذلك إلى بقائهم بلا عشاء ولا غذاء” .
اهتم محمد بن عبد العزيز الدباغ برصد بعض المشاهد الطريفة في رحلة ابن بطوطة ، منها على سبيل المثال ما يذكره الرحالة ابن بطوطة من مساوئ أهل السودان وهي: “كون الخدم والجواري والبنات الصغار يظهرن للناس عرايا باديات العورات، ولقد كنت أرى في رمضان كثيرا منهن على تلك الحال، ومنها أن كثيرا منهم يأكلون الجيف والكلاب والحمير” .
اعتبر صالح مغيربي رحلة أبي حامد الأندلسي (ت565هـ) والمسماة: “تحفة الألباب ونخبة الإعجاب”, “مجموعة عجائب” ، نظرا لما اشتملت عليه من وصفٍ لعجائب البلدان وما فيها من غرائب الخلق والعمران، فقد تضمنت وصفا لأقوام متخيلة مكونة من النساء فقط، يحملن عند الاتصال بالماء، ولا يلدن سوى البنات، أو لهم أجسام غريبة، مثل قوم الوبر في اليمن، الذين تحولوا إلى أنصاف بشر؛ نصف رأس، ويد واحدة، ورجل واحدة .
إن نظرة سريعة على محتوى بعض الرحلات المدونة تبين بجلاء كثافة حضور العجيب فيها، والذي يشكل محور الأحداث وغاية الوصف، ويمكن الاستدلال – في هذا السياق- برحلة ابن جبير المسماة: “تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار” والتي يرصد فيها عددا من الأمور العجيبة في رأيه، مثل منار الإسكندرية الذي يعد في نظره من أعظم ما شاهده من عجائب الإسكندرية، حيث “يظهر على أزيد من سبعين ميلا، ومبناه في غاية العتاقة والوثاقة طولا وعرضا، يزاحم الجو سموا وارتفاعا، يقصر عنه الوصف وينحسر دونه الطرف، الخبر عنه يضيق والمشاهدة له تتسع” . وقد لفت انتباهه بعض المآثر العجيبة في مصر والقاهرة، مثل: “رأس الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، وهو في تابوت فضة مدفون تحت الأرض، قد بني عليه بنيان حفيل يقصر الوصف عنه ولا يحيط الإدراك به (…) فيه من أنواع الرخام المجزع الغريب الصنعة البديع الترصيع ما لا يتخيله المتخيلون ولا يلحق أدنى وصفه الواصفون” ، وليس قبر الحسين وحده الذي أثار عجب ابن جبير في مصر، وإنما كذلك تلك المقبرة المعروفة بالقرافة، والتي يعتبرها “إحدى عجائب الدنيا لما تحتوي عليه من مشاهد الأنبياء صلوات الله عليهم، وأهل البيت رضوان الله عليهم، والصحابة والتابعين والعلماء والزهاد والأولياء ذوي الكرامات الشهيرة والأنباء الغريبة (…) فهي بأسرها روضات بديعة الإتقان عجيبة البنيان، (…) ومنظرها منظر عجيب” .
الملاحظ في عجيب رحلة ابن جبير أنه يركز على المشاهد من المدن والأماكن والآثار، فيصف بديع الصنعة فيها وغريب الأشكال والألوان، ويتعجب من كيفية بنائها وفق ذلك الجمال والجلال الذي “يحسب الناظر استعظاما له، أن عمر الزمان لو شُغل بترقيشه وترصيعه وتزيينه، لضاق عنه” ، فنجده يصف قبة جامع المكرم بدمشق، قائلا: “فالعجب كل العجب من تطليعها إلى ذلك الموضع المفرط السمو، وكيف تمكنت القدرة البشرية لذلك، فسبحان من ألهم عباده إلى هذه الصنائع العجيبة، ومعينهم على التأتي لما ليس موجودا في طبائعهم البشرية” ، ويؤكد الرحالة ابن جبير غير ما مرة أن لغته تضيق عن وصف ذلك العجيب الفاتن، “فمرآه إحدى عجائب الدنيا التي لا يبلغها الوصف ولا ينتهي إليها الحد”.
قد يشتمل المكان العجيب على عجيب الأحداث وغريب التفاعلات البشرية، ومن أمثلة ذلك، ما يذكره الرحالة ابن جبير حول صحراء عيذاب، حيث يقول: “ومن عجيب ما شاهدناه بهذه الصحراء، أنك تلتقي بقاعة الطريق أحمال الفلفل والقرفة وسائرها من السلع مطروحة لا حارس لها، تُترك بهذا السبيل، إما لإعياء الإبل الحاملة لها، أو غير ذلك من الأعذار، وتبقى بموضعها إلى أن ينقلها صاحبها مصونة من الآفات على كثرة المار عليها من أطوار الناس” ، ولا يقع الخرق من قبل البشر داخل الأماكن العجيبة فحسب، وإنما قد يحدث الخرق كذلك من قبل غير البشر، فهذا جامع المكرم بدمشق، بعد وصف ابن جبير لقبتيه العجيبتين، يقول: “ومن جملة عجائب ما عايناه في هاتين القبتين أن لم نجد فيهما عنكبوتا ناسجا على بعد العهد من التفقد لهما من أحد والتعاهد لتنظيف مساحتهما، والعنكبوت في أمثالهما موجود” .
يبلغ تعجب الرحالة ابن جبير ذروته ومنتهاه، عندما يحاول وصف خيرات مكة المكرمة، حيث نجده يُبدي إعجابا بالغا بما في مكة من طيبات وأرزاق، فمن ذلك وصفه لفاكهة البطيخ وصفا رائقا وشائقا، حيث يقول: “ومن أعجب ما اختبرناه من فواكهها البطيخ والسفرجل، وكل فواكهها عجب، لكن للبطيخ فيها خاصة من الفضل عجيبة، وذلك لأن رائحته من أعطر الروائح وأطيبها، يدخل به الداخل عليك فتجد رائحته العبقة قد سبقت إليك، فيكاد يشغلك الاستمتاع بطيب رياه عن أكلك إياه، حتى إذا ذُقته خيل إليك أنه شيب بسكر مذاب أو بجني النحل اللباب، ولعل متصفح هذه الأحرف يظن أن في الوصف بعض غلو، كلا لعمر الله، إنه لأكثر مما وصفت وفوق ما قلت” . وإذا كان ذلك وصفه لنوع من الفاكهة لا تختلف عن غيرها وتبدو عادية عند كثير من الناس، بل قد يوجد ما هو أعجب منها، فما بالك بوصفه لأنواع الطيبات الأخرى والأمور الغريبة فعلا، حيث يقول: “وأما لحوم ضأنها فهناك العجب العجيب (…) أنها أطيب لحم يؤكل في الدنيا” ، ويوضح خاصية هذا اللحم في كونه “هنيئا رخصا يذوب في الفم قبل أن يُلاك مضغا، ويسرع لخفته عن المعدة انهضاما” .
لا يكتفي الرحالة ابن جبير بوصف عجيب المشاهدات، بل يتفاعل مع ذلك العجيب بحثا عن سببه وكيفية تأثيره، فيرجع سبب طيب خيرات مكة وكثرتها، إلى بركة البلد الأمين، فيقول: “وما أرى ذلك إلا من الخواص الغريبة، وبركة البلد الأمين قد تكفلت بطيبه لا شك فيه” . ويستمر الرحالة في وصف أعجب ما شاهده في مكة مثل “العمرة الرجبية” ، و”هوادج من يشار إليه من عقائل نساء مكة” ، وبعض الأحوال الغريبة لقبائل من اليمن تعرف بالسّرو ، “فشأنهم عجيب كله” . ويفصِّل القول في مناسك العمرة والحج وما وقع فيهما من الأحداث العجيبة والأمور الغريبة، والتي يطول تتبعها في هذا السياق، لأن المراد هنا هو التمثيل للعجيب فحسب، من خلال عرض مختارات منتقاة من بعض الرحلات، ولعل الرحالة ابن جبير إنما قصد من وراء رصد العجيب وتعجيب خطابه عبر الوصف المبالغ فيه، هو أن يبلغ بالمتلقي درجة يُسَبِّحُ فيها للخالق فيزيد إيمانه ويشتعل شوقه إلى زيارة البيت العتيق، حيث يوظف عبارات مثل هذه: “فسبحان الموجد للعجائب لا إله سواه” ، خاصة إذا عرفنا أن الرحالة قديما يكون من العلماء والفقهاء الذين لهم وزن وقيمة داخل مجتمعاتهم، وعندما يخوضون رحلة ما فإن تدوينها تصبح له دلالات كثيرة؛ ففضلا عن حشد العجيب في الرحلة، يكون ذلك مؤطرا بمنهج في الكتابة والتأليف يقوم على تحقيق منافع دنيوية وأخروية على اعتبار أن العلم الذي يُنتفع به صدقة جارية، ومن ثم نلاحظ استحضار كثير من كتب العجائب والغرائب لهذا البعد، إذ لم يكن تعرّف العجيب مقصودا لذاته، وهذا المنهج يفصح عن حقيقة التأليف عند العرب المسلمين، عندما تكون الكتابة خادمة للدين أو تصبح عملا مقدسا ينال به الكاتب الحسنات، كنوع من العبادة، وهذه النظرة التقديسية للكتابة جعلت الرحالة المسلمين يولون اهتماما كبيرا لغايات العجيب، والذي ينبغي أن يوصل للحق ويجعل القارئ يردد دائما “سبحان الله”.
لا شك أن لبعض الرحلات خصوصيات، خاصة عندما يجتمع فيها دافع رغبة الاكتشاف مع دوافع أخرى وحوافز أكثر قوة وتأثيرا، تجعل من الرحلة عملا “مقدسا” أو فعلا دينيا وروحيا ترتقي من خلاله ذات الرحالة، حيث تزيد علومه ويرتفع مستوى إيمانه ليحقق درجات راقية من التميّز داخل مجتمعه فينال التقدير والاحترام، لخوضه ما لا يقدر عليه إلا القلة من الناس، وذلك عندما يتحول السفر إلى مدارج للترقي ومنافذ لتوسيع الرؤى وتعزيز القدرات الإنسانية اللامحدودة، فتصبح الرحلة منهجا في الحياة متواصلا ومستمرا على الدوام لا ينتهي في محطة و لا يتوقف عند بلوغ غاية معينة، وإذا كان السفر المحسوس والمألوف غالبا ما ينتهي بالعودة إلى الديار فإن بعض الأسفار لا تتوقف أبدا، ويظل الرحالة في ارتقاء مستمر وتحوّل دائم من حال إلى حال ومن مقام إلى آخر، في سعي أبدي نحو الكمال لا ينتهي، يعكس طموح الإنسان نحو تحقيق المزيد من المكتسبات، ويتعلق الأمر برحلات الترقي في مدارج السلوك العرفاني، وتحديدا أسفار المتصوفة ورحلات الحج.