يدخل إلى كافيتريا الشركة في ساعة الغذاء، يحاول ألا يجعل معاناة و مضايقات العمل هذا الصباح تسيطر على تفكيره، يبحث عن أفكار إيجابية كي تأخذ عقله بعيدا عن معاناته، يحيره البحث، هل خلت حياته من الإيجابيات لهذه الدرجة، إبنته مها، يفكر فيها و يبتسم، الكافيتريا مزدحمة، يرتفع فيها ضجيج ساعة الغذاء التقليدي، لا شك أن مها من الأشياء الجميلة القليلة في حياته، يبحث عن مكان يجلس فيه، يراها، تجلس بمفردها على مائدة صغيرة تتسع لاثنين، لا شك أنها موظفة جديدة لأنه لم يراها من قبل، نظر لها بتمعن، ملامحها مريحة تشي بطيبتها، ما جذبه لها هو هذا الوهج الذهبي الجميل الذي يشع من جبهتها، هي إذا واحدة منهم، يقترب منها، يبتسم و يسألها بلهجة ودية:
ـ هل يمكنني مشاركتك مائدتك؟
تنظر له مستطلعة، ترى بدورها وهجه الذهبي، تبتسم و تشير له على المقعد الخالي. يجلس و يفتح كيسه الورقي الذي أحضر فيه غذاءه، يسألها:
ـ هذه أول مرّة أراكي، هل أنتِ موظفة جديدة؟
ترد و مازالت عيناها متعلقتان بالوهج الذهبي الذي يشع من جبهته:
ـ لقد نقلت من المركز الرئيسي إلى هذا الفرع في بداية الإسبوع، هذا ثالث يوما لي هنا.
ذكر لها اسمه و مد يده مصافحا، ردت بدورها أن اسمها شذى، أجاب مداعبا:
ـ معنى هذا أن رائحتك دائما جميلة؟
ـ سأدعك أنت تحكم على ذلك.
ـ ما رأيك في فرع الشركة هذا؟
ـ لم أكون رأي محدد بعد. صمتت برهة ثم سألت:
ـ هل هناك الكثير منا هنا؟ ـ ثلاثة أو أربعة، ستعرفيهم من وهجهم الذهبي، أشخاص في منتهى الرقة و الرقي.
تبادلا الحديث في شتى المواضيع، إنتهت ساعة الغذاء، قبل أن يفترقا قال:
ـ سعدت جدا بمعرفتك و بالحديث معكِ.
قالت: أنا أيضا تمتعت بصحبتك.
عيونهما قالت:
ـ سنكرر هذا اللقاء كثيرا.
لم يكف عن التفكير فيها باقي اليوم و صباح اليوم التالي، لم يتخيل من قبل أن إمرأة تدخل حياته فجأة هكذا و يكون لها كل هذا التأثير بعد لقاء واحد، سأل نفسه “أليس غريبا أني لم أعرف عن قرب أي إمرأة من ذوات النفوس المرهفة، لم أكن أبحث عنهن بطريقة محددة، كوني متزوجا قد يكون أحد الأسباب، الآن و مع شذى أرى أنه يمكنني بداية صداقة جديدة رائعة، إثنان من أصحاب النفوس المرهفة يبحثان عن السعادة معا”.
لم يمكنه منع نفسه من مقارنتها بزوجته، من الناحية الجمالية زوجته أكثر جمالا، مواهبها الجسمانية كأنثى بارزة و غلابة، تقاطيع وجهها جميلة و لا تظهر حقيقة عمرها، شذى جمالها هادئ و تقاطيعها مريحة، ثم يكفي أنها مثله من أصحاب النفوس المرهفة.
لقاءاتهما في كافيتريا الشركة يومية، يتحدثان في مختلف المواضيع، الكتب التي يقرآها، الموسيقى التي يستمعان لها، المعارض و المتاحف التي يذهب كل منهما لها، لقاءاتهما تبعث فيه السرور و الفرحة و البهجة و الأمل و كل المشاعر الجميلة، تعمد ألا يسألها عن حالتها الاجتماعية رغم معرفته من الخاتم في يدها أنها متزوجة. طلب منها أن يتقابلا في غير مواعيد العمل خارج الشركة، إعتذرت بلطف، قالت أنها لا تود أن تفعل شيء تضطر أن تخفيه عن زوجها، عندما رأت ملامح القنوط على وجهه سألته برقة:
ـ و أنت بصفتك من أصحاب النفوس المرهفة بالطبع لن تكذب على زوجتك، هل تستطيع أن تخبرها أنك كنت مع صديقة لك؟
ـ لو كانت أكثر تفهما و أكثر ذكاءً لأخبرتها، لكن طريقة تفكيرها و اهتماماتها لن تسمح لي بأن أصارحها، لن تفهم، و بالتأكيد لن تفهم أنها بطبيعتها و شخصيتها هي ما يدفعني للقائك و يسعدني بهذا اللقاء.
رانت لحظت صمت بينهما، قطعها هو قائلا:
ـ أرى أن هذا ثمنا يجب علينا دفعه نحن أصحاب النفوس المرهفة، إنه نتيجة الفرق بين ما نود عمله ما نشعر بأهميته و جماله من ناحية و بين واقعنا و متطلباته التي قد تصل أحيانا إلى المراوغة و المداهنة.
كان هذا النقاش بداية حوار طويل بينهما حول نفس الموضوع، أخبرها أنه يجد نفسه المرهفة عبء ثقيل عليه، و أن نفسه هذه قد تكون مثالية أكثر من المفروض، مثالية لدرجة العجز، أخبرته أنها لاحظت ذلك من شدة الوهج الذهبي على جبهته، قال لها أن جميع نواحي حياته سواء علاقته بزوجته أو بزملاءه في العمل أو الناس العاديين الذين يتعامل معهم في حياته اليومية تمثل عبء عليه. سألها:
ـ هل تعتقدين أني الوحيد من أصحاب النفوس المرهفة الذي أمر بهذه الحالة؟
ـ ليس عندي رد مبني على أي دراسة، لكني متأكدة ان حالتك أسوأ من غيرك،حيث أن أغلبنا يعانون لكنهم يستطيعون العيش مع معاناتهم دون أن يعقد ذلك حياتهم مثلك.
ـ هل تعتقدين أني أبالغ؟ أني أميل إلى مأسَوَة وضعي؟
ـ مأسَوَة؟
ـ نعم، المبالغة و تحويل الوضع إلى مأساة، هل هذه كلمة مألوفة؟
ـ لم أسمعها من قبل.
رد عليها باسما:
ـ حسنا لقد أدخلت إذا كلمة جديدة في لغتنا العربية، كلمة مهمة “مأسَوَة”، نحتاج لها مع واقعنا الذي نمر به.
عاد إلى منزله، تناول الطعام مع زوجته و ابنته و ابنه، حاول أن يجري حوارا متحضرا معهم على المائدة، محاولاته لم تنجح فابنه يأكل مسرعا كي ينصرف مسرعا ليقابل أصدقاءه، زوجته كعادتها لم تتجاوب معه فهي ترى المواضيع التي يتحدث فيها سخيفة و معقدة، ابنته سارحة في عالمها الخاص. بعد الأكل جلس أمام التلفاز و في يده كتاب، كعادتها زوجته إنتقدته قائلة:
ـ إنت حتتفرج على التلفزيون و لا حتقرا؟
لم يعلق على كلامها، بدأت تتحدث عن مواضيعها المفضلة التي لا تهمه، أسعار الخضار و الفاكهة، زوجة أخيها التي لا ترد على محادثاتها الهاتفية و اللتي بسبب ذلك ستزبلها، ابنتهما و التي تميل للسرحان و الإنطواء. في الماضي كانت أحاديثها تؤلمه و كان يتجاهلها، بدأت تشكو من أنه لا يتحدث معها، وجد أن شكواها في محلها، و لأنه من أصحاب النفوس المرهفة و يهمه المحافظة على مشاعر الغير قرر أن يتحدث معها مهما كانت أحاديثها تافهة و مؤلمة، و فعلا بدأ يرد على هيافاتها بردود محايدة لا معنى لها كي يظهر لها أنه مهتم بها و متفاعل معها.
التلفاز يذيع هيافاته و زوجته أيضا تذيع هيافاتها و هو يرد ردود مقتضبة لا معنى لها.
سرح بأفكاره إلى شذى، يا للتناقض بين الوقت الذي يقضيه معها و الوقت الذي يعانيه مع زوجته، لكنه كواحد من أصحاب النفوس المرهفة لا يجب أن يظهر معاناته حتى لا يجرح مشاعر زوجته.
كالعادة يجلس مع شذى في كافيتريا الشركة، أرته إعلان على هاتفها المحمول عن مؤتمر لمدة يوم ينظمه أصحاب النفوس المرهفة للحديث عن المواضيع التي تهمهم، قال لها:
ـ لم أعرف أن هناك تنظيم لنا.
ـ هو ليس تنظيم بالمعنى التقليدي، لكنه مجموعة من الناشطين يحاولون لأول مرة الحديث عنا و عن اهتماماتنا و واقعنا بطريقة منظمة، سأذهب، هل تأتي معي؟
ـ طبعا، يهمني أن أسمع ما يتحدثون عنه، لكن حتى إذا كانوا سيقولوت أشياء سخيفة و معادة، سأذهب كي أكون معكِ.
إبتسمت و لم ترد. كانت هذه عادته أن يقول لها أثناء حديثهما عبارات مجاملة و تقدير تعبر عن مشاعره نحوها، مشاعره التي لا يعرف حقيقتها، أم تراه يعرف و يحاول تجاهل هذه المشاعر.
ذهبا إلى المؤتمر معا، القاعة مليئة بالمئات من أصحاب النفوس المرهفة، كان منظرهم طريفا بجبهاتهم ذات الوهج الذهبي و الذي تختلف شدته من شخص لآخر حسب شدة أحاسيسه المرهفة.
تتابع المحاضرون، كانت هناك محاضرة عنوانها “هل يمكن استقطاب الناس العاديين ليصبحوا من أصحاب النفوس المرهفة”، أخرى عن “أهمية تكاتف أصحاب النفوس المرهفة و مساعادتهم بعضهم البعض”، محاضرة أخرى مدعمة برسومات بيانية و إحصائيات عن ” أصحاب النفوس المرهفة على مستوى العالم”.
بعد نهاية المؤتمر سألها إذا كانت تود الدردشة عما جاء في المحاضرات في كافيتريا قريبة، رحبت شاكرة، كانت أول مرة منذ عرفها يتقابلان خارج مكان العمل، تحادثا عما قيل في المحاضرات، أراءهما لحد كبير متفقة، سألها إذا كانت تتوقع أن يتكرر هذا المؤتمر في المستقبل، أخبرته أن المنظمين في نيتهم جعله حدثا سنويا، قال:
ـ أرجو في المؤتمر القادم أن تكون هناك دراسة و محاضرة عن كيفية تعاملنا مع مجتمعاتنا حتى لا نشعر بالغربة و حتى لا يقودنا التناقض بين مشاعرنا و طريقة تفكيرنا من ناحية و بين مجتمعنا و واقعنا إلى الجنون. ردت:
ـ فعلا موضوع مهم، أنا أرجو أن تكون هناك محاضرة عن كيفية تحويل هذه المشاعر المرهفة إلى حركة إصلاحية إيجابية تفيد المجتمع.
ـ تعتقدين أن هذا ممكن؟
ـ أتعشم و أتمنى ذلك.
في نهاية اللقاء قال لها:
ـ لا تتصوري مدى سعادتي و أنا معكِ، مجرد وجودي معكِ و حديثنا معا يسعدني بطريقة لا تتخيليها.
إبتسمت مرحبة بكلامه.
عاد لمنزله، زوجته في الصالة تشاهد التلفاز و تقزقز لب، سألته:
ـ كنت فين.
ـ في محاضرة عن أصحاب النفوس المرهفة.
لم تعلق و استمرت في قزقزة اللب، لا يدري إذا كانت لم تسمع رده، أم سمعته و لم تفهمه، أم فهمته و وجدته سخيفا.
فتح جهاز الكمبيوتر، مازال نقاشه مع شذى عن كيفية تعامل أصحاب النفوس المرهفة مع مجتمعاتهم يستحوذ علي أفكاره، بحث في الكمبيوتر عن هذا الموضوع، قفز أمامه إعلان بصوت متحفز مستفز يقول “إذا كانت مشاعرك المرهفة تعذبك فالآن تهاية ألامك، عندنا العلاج الجديد الذي سينهي متاعبك، مضمون و نقودك سترد لك إذا لم ينجح العلاج، أطلبه الآن و سيصلك خلال ثلاثة أسابيع و نحن ندفع مصاريف الشحن”.
في العادة لا يلتفت لهذه الإعلانات، لكنه بدافع من تفكيره العشمي، طلب العلاج. ثم أغلق الكمبيوتر.
سأل زوجته:
ـ أين أماني حبيبة أبوها؟
لم ترد، كرر السؤال، أجابت بشيء من الضيق و هي تنظر له شذرا.
ـ في أودتها، حتروح فين، زي العادة ساكتة و إنطوائية، حتجيبه منين، مش من برّه.
لم يعلق، توجه إلى حجرة إبنته، مازال يفكر في الدواء الذي إشتراه عبر الكمبيوتر، ترى هل ينجح في التعامل مع حالته؟ دعى الله ضارعا “يا رب يا قدير يا مجيب الدعوات أنعم علي ببعضا من تبلد الحس”
طرق باب حجرة ابنته، فتح الباب ببطأ و دخل، وجدها في فراشها تقرأ كتابا، قال:
ـ كيف حال حبيبة أبوها؟
ابتسمت إبتسامتها التي يعشقها و قالت:
ـ حبيبة أبوها زي الفل، كيف حال حبيب بنته؟
ـ تمام، ماذا تقرإين؟
ـ ديوان شعر، أشعار حب.
جميلة هي ابنته، أخذت جمالها من أمها لكنه يرجو ألا تأخذ منها شخصيتها، إقترب من سريرها كي يطبع قبلة على خدها، لاحظ أن هناك وهج ذهبي خافت ينبعث من جبهتها.