بقلم: د. حسين عبد البصير
وفى العام 1907، تسلم اللوفر جزءا من مجموعة احتوت أشياء نادرة عدة، مثل فلك البروج بسقف معبد
دندرة السالف الذكر، وحجرة الاسلاف بمعابد الكرنك في البر الشرقي للأقصر، وأحضرها إلى فرنسا الرسام الفرنسي الشهير إميل بريس دافين الذي أشهر إسلامه وتسمى بـادريس أفندي فيما بعد. وبعد نقل آثار السرابيوم، كانت الآثار المصرية ترسل بانتظام إلى اللوفر وانتشر النباشون الفرنسيون في أرض مصر يقلبونها شبراً شبراً، بحثاً عن الآثار المصرية من أقاصي الدلتا شمالاً وإلى الجندل الأول جنوبا. فمن تانيس، احضروا عمودين من الجرانيت الوردي وأساسات معابدها، وكانت هليوبوليس عين شمس والمطربة الحاليتان شرق القاهرة أولى المواقع التي أمدت اللوفر بالكثير من الآثار، وبالرغم من قلة ما أخرجته، فإنه كان عظيم الأهمية بشكل لم يسبق له مثيل، وشمل، فيما شمل، النقش الصاوي (الأسرة 26) النادر للموضوع المصري الأثير والمعروف بـالصيد في الأحراش كطقس للقضاء على الشر في العالم الآخر. ومن أبو رواش شمال أهرام الجيزة، جاء التمثال النصفي الآسر لابن الملك خوفو، الملك جدفرع وآثار لأمراء آخرين من العائلة المالكة. علاوة على ما اخرجه الموقع من آثار كثيرة ترجع الى عصر ما قبل وبداية الأسرات المصرية، وهي من مفاخر اللوفر وشملت الأواني الحجرية وصلايات الشست (الواح طحن الكحل)، والأسلحة النحاسية، والأسود العاجية الصغيرة، وقطع الألعاب المختلفة.
ومن بين الآثار المكتشفة في تنيس شمال الدلتا المصرية، التوابيت ذات رؤوس الصقور المصغرة. وأخرجت مقابر زواية الأموات ودارا في مصر الوسطى تماثيل الخدم المؤدين أعمالهم المكلفين بها، والحلى، والآثار النذرية من أواخر عصر الدولة القديمة.
واستخرجوا نسيج القباطي ذا الشهرة العالمية من جبانة أنتنوى الشيخ عبادة في المنيا. وتمثل الآن مجموعة اللوفر واحدة من أكبر مجموعاته في العالم، ومن بينها، شال سابين المزين برسومات أسطورية منفذة بألوان مخلوطة. واكتشفت أيضاً آثار كثيرة من أدوات الحياة اليومية مثل صناديق أقلام الرسم، وأدوات النسيج، والفخار ذي الرسومات الحيوانية. فيما وجدت الأعتاب الخشبية والأبواب والتيجان واللوحات الجدارية مدفونة تحت الرمال في باويط في أسيوط. مما دعا أمناء المتحف إلى تخصيص قاعة في المتحف لتكوين كنيسة قبطية. ومن أروع ما عثر عليه من الآثار، تلك الحشوة الخشبية الملونة المدهشة والتي تجمع بين السيد المسيح عليه السلام، ورئيس الدير الأنبا مينا والأفاريز المنحوتة بالتصميمات النباتية والطيور، والأعتاب الخشبية المصور عليها الملكان ميكائيل وجبريل. وتعكس كل هذه الآثار مدى أهمية هذا الدير الذي عمر بين القرنين السادس والثامن الميلاديين.
وأخرجت أسيوط وسط صعيد مصر (المكان الاستراتيجي في عصر الدولة الوسطى) الأثاث الجنائزي الخاص برئيس القضاة نحت مع تمثاله المعبر من خشب الأكاشيا (السنط)، والتوابيت الحجرية، والتماثيل الصغيرة لحملة القرابين، والنماذج الملونة للمراكب والمخازن. ومن جبانة أبيدوس الملكية، جاء العمل الأعظم، لوحة الملك الثعبان، وأثاث الأسرتين الأولى والثانية النادر، ولوحات الأفراد، والأواني المنقوشة، والآثار المعدنية والعاجية.
واكتشف في الطود والميدامود (قرب الأقصر) كنز من الفضة واللازورد والتماثيل الملكية، ونقوش من الحجر الجيري ووجوه الملكين أمنمحات وسنوسرت وهي من روائع فن النحت من عصر الدولة الوسطى. وفى قرية دير المدنية في البر الغربي لمدينة الأقصر، حيث عاش ودفن العمال الفنانون المهرة الذين قاموا بتشييد وتزيين مقابر وادي الملوك، عصر الفرنسيون على كنز هائل من المعلومات عن كثير من مظاهر الحياة والموت في عصر الدولة الحديثة. فاكتشفت آلاف الأشياء في مقابر هؤلاء العمال والفنانين في أنقاض هذه القرية، والتي تحكى عنهم كل شيء، الطعام الذي كانوا يأكلونه مثل الفواكه، والخضراوات، والدجاج، وأثاثهم، وأدواتهم، وآلاتهم الموسيقية، وابتهالاتهم للآلهة، وأعمال التلاميذ المدرسية، والمشاجرات بين الزملاء، وأحوال المنزل، وشؤون الزوجات، وسجلت كل هذه الأشياء في الوثائق المكتوبة الخاصة بذلك المجتمع. ووجدت التماثيل والأعتاب والأثاث الجنائزي في منطقة مقبرة القائد إزى في إدفو شمال أسوان في صعيد مصر، والتي تجسد بوضوح تطور الجبانة في عصري الدولتين القديمة والوسطى.
وأخرجت جزيرة إلفنتين قرب أسوان وثائق ضرورية توضح كيفية عبارة آلهة الجندل الأول، وتشمل مومياوات الكباش (الحيوان المقدس للإله خنوم رب الخلق عند المصري القديم)، والقرابين المنذورة للإلهة عنقت، والكتل الحجرية الضخمة المخصصة لمعبد الإلهة ساتت زوجتا الإله خنوم اللتين تكونان معه ثالوث جزيرة إلفنتين.
وفى العام 1972، حصلت فرنسا على العمود الأوزيرى (نسبة إلى أوزيريس) الضخم والخاص بالملك أخناتون. والمتحف ملئ بتماثيل المرأة رمز الجمال الإغريقية فينوس القادمة من مصر، وكذلك الموازيك المصري وبورتريهات الفيوم من الحقبة الرومانية ومنحوتات دافني والعذراء أنونسيات. والمخازن مليئة بالملابس وتماثيل الترا كوتا (الطمى المحروق) المصرية الصميمة.
وبالنظر إلى النشاط الفرنسي في الآثار المصرية، نجد أنه بدأ منذ فترة مبكرة جدًا، ربما تكون أولى محطاتها الحملة الفرنسية على مصر، وأن الآثار المصرية في اللوفر جاءت من كل بقاع مصر من أدنى الشمال إلى أقصى الجنوب، ومن أقدم العصور المصرية منذ عصور ما قبل التاريخ مرورًا بالعصر العتيق وعصور الدول القديمة والوسطى والحديثة بما تخللها من عصور اضطراب وإلى نهاية العصور الفرعونية ثم العروج على آثار مصر البطلمية والرومانية والقبطية وإلى الفتح العربي. ففي رحلة زمانية تبدأ على وجه التقريب منذ سبعة آلاف عام قبل الميلاد وتمتد إلى سبعمائة ميلادية، حوالي 77 قرنًا هي عمر التجربة المصرية منذ عصور ما قبل التاريخ وإلى الفتح العربي. إذن هي رحلة زمانية مكانية، خاضها الفرنسيون في سبيل تكوين متحف اللوفر. وتنوعت مصادر تمويلهم بالآثار من فترة القناصل المزدهرة التي كانت مصر فيها مسرحًا مستباحًا لأخذ الآثار على أيدي القناصل الأجانب بها، في ظل غيبة الوعي والإهمال اللذين كانت تتعامل بهما الحكومة المصرية مع الآثار التي لم تكن تدري عنها شيئًا وترضي خاطر الأجانب بأية طريقة، إلى الاعتماد على الحفر المباشر في الأرض المصرية، ثم الشراء من تجار العاديات، وتقبل الإهداءات. واللافت للنظر في تعامل الفرنسيين مع الآثار المصرية أنهم كانوا لا يأخذون إلا أروع الروائع وأندر النوادر، فهم يقدرون الروعة والندرة في كل الآثار التي يجلبونها إلى اللوفر، ليصنعوا تاريخاً لهم من خلال سحر مصر القديمة الذي لا يقاوم.
مصر في المتحف البريطاني
يعد المتحف البريطانى في عاصمة الضباب البريطانية، لندن، صرحًا ثقافيًا كبيرًا في تاريخ البشرية جمعاء، وواحدًا من أبرز معالم الإنسانية، حتى إذا فقدت البشرية ذاكرتها وضاعت في غياهب النسيان، فسوف يكون السجل الحافل بأعظم إنجازاتنا وتاريخنا ومجدنا، بل وإخفاقاتنا، نحن بني الإنسان في كل مكان وزمان.
وتم تأسيس المتحف البريطانى العريق فى عام 1753. وكان أول متحف وطنى فى العالم كله يتم السماح فيه لعامة الجمهور بدخوله المتحف بالمجان. ومنذ اليوم الأول من افتتاحه، فتح المتحف أبوابه مجانا لجميع الأفراد الذين يدفعهم الفضول والاجتهاد لتحصيل العلم والمعرفة وتحقيق الإبداع والابتكار. وباستثناء فترة الحربين العالميتين، ظل المتحف يفتح أبوابه يوميا منذ اليوم الأول، مع زيادة تدريجية فى ساعات الافتتاح، وارتفاع ملحوظ فى عدد الزائرين؛ فتزايدت أعداد زائرى هذا المتحف العملاق من حوالي خمسة آلاف فى العام الواحد خلال القرن الثامن عشر الميلادى إلى ما يزيد عن ست ملايين زائر فى العام فى الوقت الحالى.
وترجع أصول المتحف البريطانى إلى التركة الأثرية والثقافية الهائلة التى أهداها له السير هانز سلون (1660-1753 ميلادية) الذي عمل كطبيب وعالم طبيعة وكان جامعا نهما للروائع والدرر والتحف الفنية من مختلف العصور والحضارات.
وجمع السير هانز سلون فى حياته ما يزيد عن واحد وسبعين ألف قطعة متحفية. وأراد أن يتم الاحتفاظ بها بعد وفاته، فأوصى بإهداء مجموعته كاملة إلى الملك البريطانى، الملك جورج الثانى، باسم الأمة البريطانية، مقابل مبلغ عشرين ألف جنيه إسترلينى يدفع إلى ورثة عائلة السير هانز سلون.
وبالفعل تم قبول تلك الهدية الثمينة من السير هانز سلون. وبناء على ذلك، أصدر البرلمان البريطانى قانون تأسيس المتحف البريطانى فى تاريخ 7 يونيو 1753 ميلادية.
وتكونت معظم مجموعات المتحف البريطانى الأساسية من الكتب والمخطوطات والعينات الطبيعية، وكذلك بعض القطع الأثرية والنقود والميداليات والمطبوعات والرسومات والقطع والمواد الإثنوجرافية وغيرها الكثير.
وفى عام 1757 ميلادية، تبرع الملك البريطانى، الملك جورج الثانى، بالمكتبة الملكية العريقة التى جمعها كل ملوك إنجلترا عبر القرون الطويلة للمتحف الجديد، فضلا عن منح المتحف البريطانى الامتياز الحصرى بالاحتفاظ بحقوق الطبع والنشر.
وبناءً عليه، افتتح المتحف البريطاني أمام عامة الجمهور يوم 15 يناير من عام 1759 ميلادية في مقره الأصلى، في قصر مشيد في القرن السابع عشر الميلادي، ويسمى مونتجيو هاوس، بحي بلومزبرى اللندنى الشهير، نفس الموقع الذي يوجد به المتحف البريطاني إلى اليوم الحالي.
وشهدت باكورة القرن التاسع عشر الميلادي عددًا من عمليات الشراء والاقتناء الشهيرة لمعروضات جديدة مثل الحصول على حجر رشيد (1802 ميلادية). وفي عام 1823 ميلادية، أدى قيام الملك البريطاني، الملك جورج الرابع، بمنح مكتبة والده (مكتبة الملك) إلى الأمة البريطانية، إلى تشييد مبنى المتحف الأصلى الذي نراه اليوم، حيث أشرف على تصميمه المعماري البريطاني المعروف السير روبرت سميرك. وبحلول عام 1857 ميلادية، كان البناؤون أنجزوا تشييد المبنى الراهن ذى الأضلاع الأربعة، وقاعة القراءة الدائرية.
وبعد ذلك، وبغرض توفير مساحات أكبر لحفظ مقتنيات المتحف المتزايدة، تم نقل مجموعات التاريخ الطبيعى إلى مبنى جديد فى حى ساوث كنسينجتون اللندنى المعروف خلال ثمانينات القرن التاسع عشر الميلادى؛ ليصبح بعد ذلك متحف التاريخ الطبيعى الشهير.
وقد شارك المتحف البريطانى فى أعمال حفائر كثيرة فى عدد كبير من دول العالم؛ فكانت مجموعات مقتنياته الأساس لفهم على سبيل المثال اللغة المصرية القديمة وفك رموزها. وكان حجر رشيد المفتاح الذي أسفر عن كشف أسرار الكتابة المصرية القديمة.
وتم زيادة مجموعة المتحف البريطانى من مصارد عديدة؛ فتم جمع قطع أثرية من عصور ما قبل التاريخ، فضلا عن عدد كبير من الفنون والمواد المختلفة من بلدان الشرق العديدة. وزادت أعداد الزائرين بشكل كبير فى فترة القرن التاسع عشر الميلادى. واجتذب المتحف عددا كبيرا من الزائرين من جميع الأعمار والطبقات الاجتماعية.
وإلى جانب الدراسات الأكاديمية، اهتم أمناء المتحف الثقات عبر السنين بتعزيز جاذبية المتحف وتوسيع دوره، من خلال إلقاء المحاضرات الثقافية والتعليمية، وتحسين معارض مقتنيات المتحف، وتأليف الأدلة المطبوعة التى يسترشد بها زوار المتحف من غير المختصين من جميع دول العالم.
وشهد القرن العشرون توسعا كبيرا فى الخدمات العامة التى يقدمها المتحف؛ فتم نشر أول دليل موجز للمتحف فى عام 1903 ميلادية وتعيين أول المرشدين فى عام 1911 ميلادية.