بقلم: د. حسين عبد البصير
الفراعنة في بالتيمور
وصلت إلى مدينة بالتيمور بولاية ميريلاند الأمريكية للحصول على درجة الدكتوراه في تاريخ وآثار مصر والشرق الأدنى القديم في جامعة جونز هوبكنز العريقة في بداية عام2003. ولفت نظري أن الجامعة تضم مجموعة أثرية تعليمية صغيرة بها بعض من الآثار المصرية القديمة. وفى أواسط عام 2002، كانت الجامعة قد استضافت اللقاء السنوي لمركز البحوث الأمريكي بمصر بعد فترة طويلة من انعقاده في نفس الجامعة. وشهدت نهايات عام 2003 وصول معرض «مصر الخالدة» من المتحف البريطاني بلندن إلى «متحف والترز للفن» الشهير بمدينة بالتيمور في إحدى محطاته الأمريكية العديدة. فما قصة مصر الفرعونية في مدينة بالتيمور الأمريكية وتحديدا في متحفها المعروف «الوالترز»؟
يقع «متحف والترز للفن» في وسط مدينة بالتيمور، قريبا جدا من منطقة الميناء الداخلي (الإنر هاربر) وليس بعيدا عن جامعة جونز هوبكنز، ويعتبر من أبرز معالم المدينة الثقافية. وبناه هنري والترز (1848-1931) عام 1909، رجل الأعمال وجامع التحف الأمريكي المعروف، ابن مدينة بالتيمور. وجمع آثاره وكنوزه الفنية الرائعة، بين عامي 1899-1931. وبوفاته أصبحت مجموعة الآثار المصرية واحدة من أجمل المجموعات الأثرية الخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية. وفى ما بعد ساهمت الإهداءات والمقتنيات والإعارات الزمنية الطويلة في جعل المتحف واحدا من أهم المجموعات الأمريكية في الفن المصري القديم. وربما جذب والترز إلى اقتناء أعمال الفن المصري القديم قيامه برحلة بحرية في البحر المتوسط في عام 1889 زار خلالها مصر، وتحديدا القاهرة والجيزة لمدة يومين. وفى تلك الزيارة، جلب عددا من روائع مجموعته المصرية. وعلى عكس عدد كبير من هواة جمع الآثار الثمينة في زمنه، لم يقم أو يكلف والترز أحدا بإجراء حفائر له في مصر من أجل التنقيب عن الآثار المصرية لإثراء مجموعته الخاصة، وإنما اقتنى أغلبها بالشراء من التجار أو من صالات بيع الآثار في مصر وخارجها.
وبينما شغل هواة جمع الآثار المصرية أنفسهم بجلب المومياوات والبردي والآثار الكبيرة الحجم إلى متاحفهم ومجموعاتهم الخاصة، انصب اهتمام والترز على الآثار الصغيرة والثمينة مثل التماثيل الصغيرة والتمائم والجعارين والحلى والقطع المهمة. وانصرف بدأب إلى اقتناء كمية كبيرة وفريدة من التماثيل المصرية والأعمال المصنوعة من البرونز. وفى نهاية حياته، ضم عددا من التماثيل الكبيرة إلى مجموعته حتى أصبحت متميزة للغاية في زمن قصير.
وفى عام 1925، اشترى والترز واحدًا من أهم القطع المصرية في مجموعته، وأعنى تمثال المدعو «نحي» من تاجر آثار فرنسي غير معروف في نيويورك، وربما جاء هذا التمثال من سقارة، وربما اشتراه جان-فرانسوا شامبليون، مكتشف الكتابة الهيروغليفية، أو أحد جنود الحملة الفرنسية على مصر في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي.
ومن بين الآثار المصرية المهمة في الوالترز، نقش من معبد من سمنود (وسط الدلتا المصرية)، يمثل الملك نختنابو الثانى (من ملوك الأسرة 30)، وتمثال كبير لأنثى فرس النهر يجسد الربة الحامية «تاورت». ومن بين جميع المتاحف الأمريكية، اشترى والترز أكبر عدد من التماثيل المستخرجة من خبيئة الكرنك التي اكتشفها المهندس الفرنسي جورج ليجران في فناء الصرح السابع الخاص بالمعبود آمون من الصروح العشرة في معابد الكرنك. وعلى ذلك، فإن مجموعة الآثار المصرية بالوالترز ضعيفة في عدد من الموضوعات المصرية المهمة مثل المومياوات والأثاث الجنائزي وقطع الحياة اليومية والبردي. وللتغلب على ذلك النقص، قام المتحف في عام 1941 بالحصول على مومياء من متحف المتروبوليتان للفن في نيويورك. وكان قد عثر على هذه المومياء في البر الغربي لمدينة الأقصر في منطقة الدير البحري (حيث يوجد معبد الملكة حتشبسوت الشهير) بين عامي 1930و1931. وهذه المومياء لسيدة وذات غطاء جميل من الكارتوناج، وتعد من روائع متحف الوالترز. وبعد ذلك، جاءت مومياء أخرى من العصر الروماني، ومومياوات حيوانية، ومومياء القمح الطقسية. وأعار متحف المتروبوليتان بعضا من آثاره الجنائزية للوالترز. وكذلك فعل المعهد الشرقي بجامعة شيكاغو حين أعار بعضا من أدواته للحياة اليومية للوالترز. وتمتد زمنيا مجموعة الآثار المصرية بالمتحف من عصور الأسرات المبكرة إلى العصر اليونانى-الرومانى. وتم إعداد وإعادة افتتاح القسم المصري بالمتحف للجمهور في عام 2001.
ورغبة منه في أن يشرك أهل مدينته، مدينة بالتيمور، في التمتع بمجموعته الفنية الضخمة، كتب هنري والترز في وصيته أن يؤول المبنى ومحتوياته إلى عمدة ومجلس مدينة بالتيمور وذلك «لمنفعة الجمهور». وعندما مات في عام 1931، أصبح الوالترز متحف مدينة بالتيمور.
وفى النهاية، أقول إن مجموعة الآثار المصرية في متحف والترز للفن في مدينة بالتيمور تعد خير معبر عن مصر القديمة وحضارتها على أرض أمريكية، وتعكس ماضيًا مصريًا بعيدًا غير أنه مفعم بالحيوية، وتمثل حالة لا تنتهي من السحر والجمال.
قصة خلق الكون
تعد قصة نشأة الكون في مصر القديمة من أبدع ما توصل إليه فكر المصري القديم في تفسير تلك الظاهرة التي عالجها بكثير من الرقي الفكري والإبداع الفلسفي اللذين توصله إليهما قبل وصول الأديان السماوية بفترة زمنية طويلة إلى أرض مصر المباركة.
لقد بزغت تصورات واجتهادات الإنسان عن خلق الكون من الولع الإنساني الملح بالبحث عن تفسير منطقي أو غير منطقي يرضي ضالته ويروي شغفه بكشف السر وراء من ومتى وكيف نشأ الكون الفسيح من حوله.
وفي ذلك البحث المضني، بلورت خبرة الكائن البشري المتراكمة بالعالم الذي كان يعيش فيه عبر ملاحظته الدقيقة أو العابرة على مر الزمن، أفكاره وتصوراته عن عملية الخلق. وساهمت كل حضارة بنصيب وافر أو ربما غير شاف في هذا المضمار، سواء نسبت الخلق إلى إله خالق له مقدرة غير محدودة، أو أرجعت نشأة الكون إلى مجرد المصادفة البحتة التي لا دخل فيها لمقدرة ما إلهية كانت أو غير ذلك من قوي.
وفي هذا السياق، لم يبنِ المصريون القدماء تصوراتهم عن كيفية نشأة الكون ومختلف المخلوقات والكائنات على مجرد أفكار نظرية جوفاء، بل أرسوها على أسس ووقائع وحقائق مستمدة من البيئة المصرية القديمة أعطت معنى كبيرًا وأهمية بالغة تعكس خبرتهم بالحياة فوق الأرض وبالكون من حولهم.
كانت الأفكار الدينية ونظريات الخلق والعالم الآخر من أكثر الأمور التي شغلت بال المصريين القدماء
ولا تشير نظريات خلق الكون لدى المصريين القدماء إلى أفكار علمية تشرح كيف أوجد الإله القادر الكون من حولهم بكل كائناته، بل هى تصورات رمزية تحاول فهم الخلق وطبيعته ودور الخالق في عملية الخلق وكيف أبدع الحياة وعن دور العناصر المختلفة في الخلق وأهمية كل منها في هذه العملية المعقدة وتراتب ظهورها في سلم الخلق.
وكان الخلق أمرًا مهمًا في الفكر الديني المصري القديم. ووفقًا لمعتقداتهم الدينية، آمنوا بأنه كانت هناك قوة إلهية علية غير محدودة الإرادة والقدرة على الخلق والإبداع والابتكار أوجدت كل الكائنات وكل الأشياء منذ البداية واستمرت تخلق وتبدع وتجدد ما أخرجت للوجود بصورة لانهائية دون كلل أو ملل.
ومن اللافت للنظر أن المصريين القدماء لم يشيروا إلى جنس هذه القوة الإلهية؛ فلم تكن مذكرًا أو مؤنثًا، بل كانت مزيجًا من الجنسين معًا؛ وذلك لأهمية وجود عنصري الذكر والأنثى من أجل التزاوج بغية استمرارية الخلق والتجدد ودورة الحياة.
وفي الأغلب الأعم، تشير تصورات المصريين القدماء عن الخلق -بوضوح جلي ودون أدنى شك- إلى وحدة وتناغم وتفرد الكائنات والأشياء التي خلقتها المقدرة الإلهية حين شرعت في نشأة الكون وتهيئة المسرح للإنسان بإعلاء شأن الوجود والقضاء على العدم وإقرار النظام وإنهاء الفوضى من أجل استمرارية وتمكين الكائن البشرى الأسمى من العيش فوق سطح الأرض لأزمنة أبدية غير مقيدة بعدد معلوم. وتعددت نظريات المصريين القدماء عن الخلق، ونشير فيما يلي إلى أشهرها.