بقلم: د. حسين عبد البصير
كانت الأفعال التي تُعتبر جريمة في القانون الروماني مشابهة تمامًا لما يعاقب عليه في القانون البطلمي. وكان يمكن تحديد فئات الجرائم في مصر الرومانية وهي الجرائم ضد الأفراد، والجرائم المالية، والجرائم السياسية، والجرائم ضد النظام الاجتماعي، والجرائم الدينية. وبالمقارنة مع العصر البطلمي نرى أن الجرائم السياسية قد حلت محل الخيانة.
وكانت جريمة القتل مشهودة بها إلى حد كبير في الأدلة من مصر الرومانية، كما كان هناك تميزًا بين القتل المتعمد وغير المتعمد. وكانت عقوبة القتل شديدة مثل الصلب والسخرة في المناجم. وكما كانت الحال في القانون البطلمي، تضمنت الجرائم ضد الأفراد السرقة والابتزاز ومنع مسؤولي الدولة من القيام بأعمالهم، بالإضافة إلى تدمير الممتلكات الخاصة. ولكن في القانون الروماني، تنوعت الجرائم ضد الأفراد بصورة أكبر حيث شملت تدمير الوثائق وتقييد الحريات والحرمان من الدفن. وتم تكليف المسؤولين الحكوميون بالإشراف على عملية العدالة الجنائية، سواء من خلال الفصل بين كبار المسؤولين أو من خلال الشرطة المحلية. وعلى الرغم من ذلك، فإن تطبيق القانون في مصر الرومانية لم ينجح بنفس الصورة التي كان عليها في العصر البطلمي.
وكانت وسيلة تحديد ما إذا كان النظام الروماني يتم تطبيقه عمليًا هي معرفة إلى أي مدى كان العنف والجريمة متفشين في مصر. وكان هذا أمر معقدًا إلى حد ما؛ لأن المصادر الأدبية الرومانية القديمة هي في جميع الأحوال أحادية الجانب في تصويرها السلبي لمصر وسكانها. وكانت الطريقة التقليدية لقياس درجة النشاط الإجرامي في مصر الرومانية هي وضع قائمة بالجرائم من البرديات الموجودة. وعلى الرغم من مشاكل هذا النهج فإنه أصبح الإجماع العلمي العام أن مصر كانت بالفعل مكانًا عنيفًا إلى حد ما لا سيما في الأجزاء غير الصالحة للسكن.
وهناك مشكلة أخرى في نظام العدالة الجنائية في مصر الرومانية وهي أن السلطة القانونية بالكامل كانت مركزية حيث كان الحاكم فقط صاحب الحق في الفصل في النزاعات؛ لذا أصبحت عملية التقاضي بطيئة ومعقدة للغاية. ويبدو أن نظام العدالة الجنائية الروماني في مصر كان غير فعال. وكان يفتقر إلى المواد اللازمة للتعامل مع الجريمة على نحو ملائم؛ إذ لم يكن لدى معظم مسؤولي الدولة السلطة الفعلية لاتخاذ القرار بشأن مثل هذه الأمور. وبسبب هذا يبدو أن القانون والعدالة كان لهما معنى أقل في المستويات الأدنى من الإدارة وفي جميع أنحاء الريف المصري. وفي ضوء هذا كله لن يكون من المستغرب أن يكون هناك القليل من الأدلة على التنفيذ الفعلي للعقوبة الجنائية في مصر الرومانية. وكانت العقوبات المالية مصدقة في مصر الرومانية، متمثلة في مصادرة الممتلكات كما أن هناك القليل من الأدلة على وجود غرامات مالية. وفيما يتعلق بالعقاب البدني، لا يوجد الكثير من الأدلة التي يمكن أن تقود إلى الاعتقاد بأنها كانت تُستخدم بشكل متكرر، كما أنه كان يحظر استخدام العقاب البدني ضد المواطنين الرومان. وإنما كان يُطبق على العبيد. أما بالنسبة لعقوبة الإعدام، فلا يوجد دليل عليها في مصر الرومانية إلا بعد القرن الثالث الميلادي، فكانت العقوبة على القتل المتعمد إما بالنفي أو مصادرة الممتلكات.
وكان العدل مفهومًا مركزيًا داخل المجتمع المصري القديم. كانت الفرعون هو وحده يمتلك السلطة القانونية الحقيقية للفصل في الأمور. لكن من الناحية العملية قام بتفويض العديد من المهام إلى الوزير. ولم يتم تمييز القانون الجنائي عن القانون المدني. وعموما لا يبدو أن القانون قد تم تدوينه على الإطلاق. وبالنسبة للعقوبات فكان الأكثر شيوعا الضرب بالعصي وبتر الأنف والأذنين وإلحاق الجروح. ومع ذلك، يبدو أن المصريين القدماء كانوا مترددين تمامًا فيما يتعلق بتطبيقها. وبعد أن أصبحت مصر مملكة بطلمية، أسّس البطالمة نظامًا بيروقراطيًا فعالًا لخدمة الإدارة اليونانية الجديدة، وزيادة الدخل من خلال فرض الضرائب. وكان النظام البيروقراطي مبنيًا على هياكل إدارية مصرية موجودة. ومن المشكوك فيه جدا أن القانون الجنائي المصري التقليدي استمر في الوجود بعد 305 قبل الميلاد. ومن أجل تحقيق أهدافهم، استرضى البطالمة المصريين بوسائل مختلفة حتى إذا كان اليونانيون بالتأكيد يشكلون النخبة الاجتماعية والإدارية، فإن الثقافة المصرية كانت لها مكانة في المجتمع حيث يمكن ﻣﻼﺣظﺔ ذﻟك ﻓﻲ النظام اﻟﻘﺎﻧوﻧﻲ الذي استمرت فيه القوانين والعادات اليونانية والمصرية في التعايش.وتقدم القانون الجنائي بشكل كبير منذ عهد الفراعنة، ويبدو أنه تم اعتباره منفصلاً عن القانون المدني. وعندما فرض الفراعنة أقسى عقوباتهم على القضاة الفاسدين والذين سرقوا المقابر الملكية، كان القانون الجنائي البطلمي هو الأقل تسامحًا في الجرائم التي تؤذي إيرادات الدولة. وكان القانون البطلمي يعالج القضايا بسرعة وبشكل محلي في كثير من الأحيان، مما يثبت أنه كان وسيلة فعالة للغاية للحفاظ على النظام الاجتماعي. وبعد أكثر من قرن من كونها جزءًا من الإمبراطورية الرومانية، سقطت مصر في أيدي الرومان في 30 ق.م، وقاموا بالعديد من التغييرات في الأنظمة الإدارية والقانونية البطلمية، حيث أصبحت مصر تابعة مباشرة للإمبراطور، الذي عين حاكمًا يحكم البلاد باسمه. وأصبحت السلطة القضائية في مصر الرومانية مركزية إلى حد بعيد، فقط الحاكم يمكن أن يحكم بشكل قاطع في القضايا القانونية. وعلى الرغم من حقيقة أنه يمكنه تفويض بعض الحالات إلى مرؤوسيه، فإن هذه المركزية أبطأت وبصورة شديدة عملية الحصول على الحقوق. وفي الختام، كان لدى الحكومة الرومانية في مصر نفس الأهداف التي كان لأسلافها البطلميين، لكن فلسفتهم الإدارية كانت مختلفة تمامًا، حيث كانت بلا شك عاملاً مهمًا في تراجع العدالة الجنائية في مصر الرومانية، بالإضافة أيضًا أنه بعد عام 30 ق.م، أصبحت مصر جزءًا من إمبراطورية أكبر في مقابل كونها كانت مملكة تُدار بالكامل من الداخل خلال العصر البطلمي.
لقد كانت «الماعت» هي وجه مصر القديمة المشرق، بينما كانت «الإسفت» الفوضى هي وجه مصر القديمة المظلم. إن قصة الحضارة في مصر الفرعونية هي قصة إقامة «الماعت»، وقصة الفوضى في مصر الفرعونية هي سيادة «الإسفت». إن قصة مصر الفرعونية باختصار هي قصة الصراع بين «الماعت» (العدالة والنظام) و»الإسفت» (الفوضى) على أرض مصر الفراعنة.
السجون في مصر الفرعونية
عرفت مصر الفرعونية السجون!
وكانت السجون في العالم القديم هي الأماكن التي كان يتم فيها إيداع وحبس المخالفين للقانون سواء أكانوا من المدنيين أو من أسرى الحروب أو من المنشقين السياسيين أو من المهرطقين أو من المارقين الخارجين عن الدين وغيرهم. وظهرت السجون في العالم القديم في مصر القديمة والعراق القديم واليونان القديم وروما القديمة.
ووردت إشارات عدة عن السجون في العديد من النصوص المصرية القديمة. ولعل أشهر ما ورد عن وجود السجون بالفعل في مصر القديمة ما جاء في قصة سيدنا يوسف عليه السلام في الكتب السماوية المقدسة، أي أن مصر القديمة قد عرفت السجون دون شك. وقدمكث سيدنا يوسف عليه السلام بضع سنين داخل السجن. وعندما ظهرت براءته خرج من السجن مكرمًا وفي عظمة تليق به عليه السلام. وهنا يتجلى بوضوح دور العدالة في إحقاق الحق ورفع الظلم عن المظلومين.
وتؤكد الحقيقة التاريخية والشواهد الأثرية أن مصر القديمة عرفت السجون مُنذ القدم. وقد كانت السجون مكانًا من أجل إعادة التأهيل ولإخراج المُذنب بعد فترة إلى المجتمع وهو صالح تمامًا ويستطيع أن يحيا حياة إنسانية كريمة مرة أخرى في ظل المجتمع المصري القديم الذي كان يقدس قيمة ومفهوم «الماعت» أو العدالة.
وقبل الحديث عن مفهوم السجون في مصر الفرعونية، يجب علينا الحديث عن العدالة في مصر الفرعونية والتي كانت مهمة للغاية. وكانت جزءًا لا يتجزأ من جميع جوانب المجتمع وثقافته. وكان القانون من الأمور الأساسية في حياة المصري القديم، خصوصًا أن مصر هي التي أبدعت القانون والنظام القضائي. واعتبر المصري القديم أن لقرارات المحكمة أكبر تأثير على حياة المجتمع، حيث كان يجب معاقبة الخارجين على القانون، وتقديم المساعدات للأطراف المتضررة. وكان يتم تعيين أفضل الرجال من مختلف أنحاء مصر كقضاة حتى يصلوا إلى تحقيق العدالة وتطبيق القانون.
وكان الملوك الفراعنة مسؤولين عن جميع الأمور القانونية في مصر. وكانوا في كثير من الأحيان يصدرون المراسيم ذات الطابع القضائي. وكان الوزير تحت الفرعون مباشرة، ويعمل كيده اليمنى. ووضع الفرعون الوزير على رأس الإدارة في مصر. وكان مسؤولاً عن النظام القضائي للدولة. وفوض الفرعون والوزير مسؤولياتهما القضائية والإدارية إلى المسؤولين المحليين.
ومنذ عصر الدولة القديمة (2686 – 2181 قبل الميلاد)، كانت مصر تُدار من قبل مجموعة من الموظفين المتعلمين، وهم الكتبة الذين اجتازوا المهمة الشاقة المتمثلة في تعلم القراءة والكتابة. وكان لطبقة الكتابة دور أساسي في ازدهار مصر. كما تطور القانون المصري ببطء شديد. وكان يمكن أن تظل القوانين سارية المفعول لفترات طويلة للغاية.
ومن هذا الوصف الواسع للهيكل الإداري لمصر، لا يمكننا أن نستنتج الطريقة التي كان يُمارس بها القانون في الواقع. وعلى الرغم من أن الحجم الهائل لمواد المصدر المتاحة لنا، فإنه لم يتم بعد العثور على أي مثال للقانون المصري المقنن قبل عام 700 قبل الميلاد.
وفي غياب وجود قانون مقنن، يجب علينا أن تستند معرفتنا بالقانون المصري في الواقع إلى وثائق أخرى متاحة، مثل العقود والوصايا وسجلات المحاكمة والمراسيم الملكية. وللأسف لم تصلنا هذه بأعداد كبيرة. ولحسن الحظ، فهناك استثناءات لهذا جاءت مجتمع العمال بدير المدينة في عصر الدولة الحديثة. وعلى مدار عدة قرون، أنتج سكان دير المدينة عشرات الوثائق التي تم أرشفتها. وتمتد السجلات التي خلفها هؤلاء العمال على مدار عصر الدولة الحديثة. وتقدم هذه النصوص معلومات عن الحياة اليومية لهم. وساهمت بشكل كبير في معرفتنا بالنظام القضائي المصري القديم.
ومن الصعب – استنادًا إلى نصوص مثل سجلات المحاكمة – أن نميز القانون الجنائي عن فروع القانون الأخرى. حيث لم يكن القانون الجنائي، معرَّفًا بوضوح داخل النظام القضائي المصري. لكن هناك طريقة أخرى لتحديد القضايا الجنائية بوضوح في النصوص القانونية من دير المدينة، وذلك من خلال تقييم العقوبات التي تم تنفيذها في الحالات المختلفة، حيث أنه ليس من الواضح أن كل التجاوزات كانت متساوية في العقوبة.
ويبدو أن السرقة كانت موجودة إلى حد ما في دير المدينة، فلدينا في السجلات الاتهامات والتحقيقات والعقوبات المفروضة. ومع ذلك فإن العقوبات لم تتجاوز العقوبات الاقتصادية حيث كان يضطر اللص إلى إعادة البضائع المسروقة. وكان يتعين عليه دفع تعويض يمكن أن يصل إلى أربعة أضعاف القيمة الأصلية للبضائع المسروقة. اما إذا كانت البضاعة المسروقة ملكًا للدولة، فتكون العقوبة أثقل بكثير. أما إذا كان المسروق ملكًا للفرعون، فكان اللص مٌطالبًا بدفع ثمانين إلى مائة ضعف الأشياء المسروقة بالإضافة إلى العقاب الجسدي مثل الضرب أو في حالات نادرة تصل إلى الإعدام.
والنصوص القضائية الصادرة من دير المدينة غير محسومة فيما يتعلق بالموقف القانون المصري من الزنا والاغتصاب، لكن بالتأكيد، كان المصريون ينظرون إلى كل من الاغتصاب والزنا كسلوك غير مشروع، حيث كان يتم التعامل معه في كثير من الأحيان من قبل المحاكم. أما فيما يتعلق بالأفعال الأخرى التي يمكن أن نطلق عليها سوء سلوك جنسي مثل المثلية والبغاء فلا يبدو أن هذه كانت جرائم جنائية. وكان الاعتداء الجسدي بالتأكيد جريمة يعاقب عليها القانون في المجتمع المصري القديم، وهناك بعض الحالات التي تم فيها إدانة شخص ما حيث تلقى الجاني عقوبة جسدية من نوع ما.
وكانت ماعت إلهة العدالة مبدأً إرشاديًا داخل المجتمع المصري القديم. وهذه «العدالة الترابطية»، أي العيش وفقًا لمبادئ «ماعت» كان مسؤولية جماعية، ومن ثم ليس من المستغرب أن تُعتبر نزاهة القضاة ذات أهمية استثنائية. حيث كان القضاة مسؤولين حكوميين، يمثلون الفرعون في المسائل القانونية والإدارية؛ لذا فإن أي سوء تصرف قضائي ينعكس بشكل مباشر على الفرعون؛ لذا تم اتخاذ جميع الاحتياطات لضمان نزاهة المحكمة. كما هو موضح في نصوص دير المدينة.
وقرب نهاية عهد رمسيس، تشكلت مؤامرة لاغتيال الملك بين واحدة من الملكات وعدد من رجال البلاط الملكي. وتضمنت المؤامرة العديد من النساء من الحريم الملكي، فضلاً عن عشرة من مسؤولي الحريم وزوجاتهم. وقبل تنفيذ الخطة، تم كشف الخيانة والقبض على جميع المعنيين وأمر الفرعون بملاحقتهم. وبما أنه لا يمكن معالجة قضية بهذا الحجم من قبل محكمة قانونية عادية، فقد تم تعيين لجنة خاصة تتألف من أربعة عشر من كبار المسؤولين للتحقيق في الجرائم ومعاقبة المذنبين.
وكانت المقابر – خاصة تلك التابعة للطبقة العليا – هدفًا للسرقة، وكان ذلك جريمة يعاقب عليها القانون، حيث وصلت عقوبة السطو على المقابر الملكية إلى الإعدام، والمحكمة الكبرى التي يرأسها الوزير هي التي تحكم بنفسها في حوادث السطو على المقابر الملكية.
وعلى الرغم من أن معلوماتناعنالسجونفيمصرالفرعونية قليلة، فيمكن القول إنه بناء على ما تقدم من معرفة مصر الفرعونية بمبادئ تحقيق العدالة، والحق فى الأمن والأمان، وإرساء مبادئ القضاء والعقوبات وإقرار القوانين وتنفيذ الأحكام، وكما سبقت الإشارة، فكان لابد من وجود مكان يوضع به المُذنب من أجل فصله عن المجتمع لفترة ما حتى يعود إلى رشده ويخرج بعد ذلك شخصًا صالحًا للعيش في المجتمع. وكان فى تقييد حرية المذنب مجالاً لتهذيبه وإعادته إلى الصواب.
وعلى هذا الأساس، عرفت مصر الفرعونية عالم السجون. وكان السجن مهمًا داخل المجتمع الفرعوني. ووردت كلمة سجن في اللغة المصرية القديمة تحتاسم «إيتح» و «خنرت».وكلاهم اظهرا في سياق الحديث عن القلعة أو السجن. وكلمة «خنري» بمعنى «سجين». وحمل السجن الكبير في طيبة اسم «خنرتور». وجاءت كلمة «خنرت» من الفعل «خنر» بمعنى «قيّد» أو «حبس».