بقلم: د. حسين عبد البصير
يعتبر القرن العشرون من أهم القرون فى الاكتشافات الأثرية المصرية. وقام بهذه الاكتشافات المثيرة علماء آثار أفذاذ حققوا نتائج وإنجازات مذهلة لم يسبق لها مثيل حين نقبوا ونشروا عبق مصر القديمة على العالم أجمع.
وادي المومياوات الذهبية
فى عام 1999م، قام الدكتور زاهى حواس وبعثته الأثرية بالكشف فى منطقة الواحات البحرية فى الصحراء الغربية- تبعد عن القاهرة حوالي 385 كيلومترًا- عن واحد من أهم الاكتشافات الأثرية فى القرن العشرين الذي أذهل العالم أجمع منذ لحظة اكتشافه إلى الآن. ويجىء هذا الاكتشاف ليلقى الضوء على فترة مهمة من تاريخ مصر فى بداية العصر الرومانى، محاولا تكثيف بؤرة الضوء على منطقة الواحات البحرية. وأحدثت المصادفة البحتة هذا الاكتشاف فى يوم 2 مارس عام 1996م، عندما غيّر حمار الشيخ عبد الموجود، حارس معبد الإسكندر الأكبر، طريق عودته الليلية بعد انتهاء نوبة حراسة صاحبه، فغاصت قدما حماره فى حفرة، فهبط الشيخ عبد الموجود من على حماره ليستطلع الأمر، فنظر فىها فلم ير غير شىء يبرق فى الظلام، فذهب إلى مدير آثار الواحات البحرية، ليخبره بما رأى، ولم يكن هذا الذي رآه الشيخ عبد الموجود سوى قناع ذهبى يغطى وجه مومياء، ومن هنا جاءت تسمية الوادى باسم «وادي المومياوات الذهبية». وقام أثريو الواحات البحرية بإجراء مسح أثرى أولىّ للموقع المكتشف، فتأكدوا من صدق كلام الشيخ عبد الموجود وحقيقة الاكتشاف، فأخطروا الدكتور حواس. وبدأت أعمال الحفائر العلمية المنظمة فى مارس عام 1999م، فكشفت النقاب عن عدد هائل من المومياوات الذهبية، جعل الدكتور حواس يرجح امتلاء هذا الوادى بعدد كبير منها، فى مساحة مكانية كبيرة، تستغرق زمنا طويلا من أعمال الحفائر المنظمة؛ فلم يكتشف فى المواسم السابقة سوى عن 250 مومياء. وتعود المومياوات المكتشفة إلى القرنين الأول والثانى الميلاديين، عندما كانت مصر تحت الحكم الرومانى. وتظهر هذه المومياوات المكتشفة، استمرارية الديانة المصرية فى هذه الفترة على الرغم من وجود المعتقدات اليونانية والرومانية الخاصة بالطبقة الحاكمة، التى تأثرت بدورها بالديانة المصرية القديمة، وأغلب هذه المومياوات المكتشفة ذات أقنعة وصدور مذهّبة ومزخرفة بنقوش هيروغليفية ورسومات دينية.
آثار الإسكندرية الغارقة
فى عام 1994م، وصلت البعثة الأثرية الفرنسية برئاسة جان-إيف إمبرير المكوّنة من 30 غواصا إلى الإسكندرية. وبدأ العمل يأخذ شكلا آخر، وكشف المسح الذي قام به إمبرير فى الميناء الشرقية بالقرب من قلعة قايتباى المملوكية عن وجود أكثر من 300 كتلة ضخمة (بلغ وزن بعضها حوالي 75 طنا)، واعتقد المكتشف أنها تمثل بقايا فنار فاروس الأسطورى (إحدى عجائب الدنيا السبع) فضلا عن عدد من العناصر المعمارية (أعمدة ومسلات)، وتماثيل على خط الصخور الموازى للساحل، وتاج جرانيتى ضخم لبوابة بطلمية وتمثال للملك رمسيس الثانى على شكل «أبو الهول». وكان أول القطع النحتية التى استخرجها إمبرير من البحر جذع الملكة البطلمية الذي رفع فى 4 أكتوبر 1995م، وتلاه بفترة قصيرة اكتشاف تمثال ضخم لملك بطلمى، ثم توالت الاكتشافات الأثرية بصورة مذهلة. وقاد فرنسى آخر، هو فرانك جوديو من المعهد الأوربى للآثار الغارقة، مشروعا ثانيا لاكتشاف آثار المدينة الغارقة. وعمل جوديو على البقايا الغارقة من الأرضية الرخامية الموجودة فى ميناء الإسكندرية الشرقية، فظهرت أعمدة ساقطة فى مواقعها الأصلية، ووقعت على خرائط مساحية كونتورية، وقال عنها الجغرافى الإغريقى استرابون، الذي زار مكتبة الإسكندرية فى عام 25 ق.م.، أى بعد مرور حوالي خمس سنوات على حدوث موقعة «أكتيوم» البحرية: «إن شعورا رائعا يغشى بقايا المدينة». بينما قال جوديو عن اكتشافاته: «أفكر عندما ألمس تمثالا أو كأسا أن الملكة كليوباترا، ربما تكون قد سبقتنى إلى الفعل نفسه». ثم توالت الاكتشافات الأثرية تحت مياه بحر الإسكندرية بواسطة بعثات مصرية.
مقابر بناة الأهرام
من بين أهم اكتشافات الدكتور زاهى حواس، اكتشافه المهم مقابر «بناة الأهرام» من العمال والفنانين الذين شادوا أهرام مصر الخالدة على وجه الزمن، وأثبتوا للعالم أجمع أن المصريين هم «بناة الأهرام» ولا أحد غيرهم كما زعم البعض كذبا بهتانا. وأثبتت هذه الاكتشافات أيضا أن الأهرام المصرية بنيت بالحب والعقيدة الراسخة لا بالسخرة، وبناها حوالي عشرين ألف عامل وليس مائة ألف كما زعم أبو التاريخ «هيرودوت» وأوضحت كيف كان الهرم هو المشروع القومى لمصر؛ إذ كانت تسهم فى بنائه الأسر الكبيرة فى صعيد مصر ودلتاها بإرسال شباب العمال طاعة وولاء للملك، فضلا عن الإمداد بالطعام والخبز والجعة فى سبيل إنجازه. وأذهل بناء الهرم الجميع بإعجازه الهندسى والفلكى والمعماري الذي لا يبارى، وكشف عن نظام إدارى جبار تمكن من تنظيم العمل داخل هذا البناء المعجز بكل عناصره وتكويناته المعمارية العديدة. وكما أكّد الدكتور حواس، فى أكثر من مقال له، أن الذي يؤثر فى الناس فى العالم أجمع، هو كيفىة بناء هذا الهرم الضخم، بينما يرى أن المعجزة – وإن كانت تمكن فى بناء الهرم المذهل بكل المقاييس – فإنها تمكن فى الإعجاز الإدارى فى تحقيق وتنظيم العمل داخل منطقة العمل على فترة طويلة، وبين عدد كبير من العمال والفنانين والإداريين منذ أكثر من 4600 عام. وتجىء البداية الحقيقية للكشف عن هذا الاكتشاف المهم ـ بعد بحث مضن جاس فى المواقع المحتملة فى هضبة الجيزة بحثا عن مقابر «بناة الأهرام»- فى ظهيرة يوم 14 أغسطس عام 1990م، وكان الجو حارا للغاية، وكان الدكتور حواس يجلس وحيدا فى مكتبه المجاور لهرم خوفو مباشرة، فجاءه شيخ خفراء منطقة الهرم آنذاك، يخبره بأن سائحة أمريكية سقطت من فوق صهوة جوادها حين اصطدمت قدمه بجدار من الطوب اللبن على بعد عشرة أمتار فقط من موقع الحفائر التى يجريها للبحث عن مقابر «بناة الأهرام»، فتوجه إلى الموقع على التو، وعندما شاهد الموقع، قال على الفور:» هذه هى مقابر العمال بناة الأهرام». وفى السنوات التالية، قام فريق عمل مصري من خيرة الشباب المتخصصين تحت رئاسة الدكتور حواس بالكشف عن عدة اكتشافات أثرية مهمة غيّرت من خريطة منطقة الجيزة تماما. وأهم هذه الاكتشافات هى كشف مقابر «بناة الأهرام» ومنطقة الإدارة الخاصة بالعمال ومنها المخابز ومناطق تجفىف الأسماك وصهر المعادن وصناعة الجعة، بالإضافة إلى الأماكن التى عاش فىها هؤلاء العمال وغيرها. وكان الفنانون والصنّاع والنحاتون يعملون طوال العام تحت إمرة الملك، بينما كان يؤتى بالفلاحين من القرى المجاورة والأقاليم ليعملوا بنظام التناوب.
خبيئة معبد الأقصر
يعد اكتشاف خبيئة معبد الأقصر من أهم الاكتشافات التى حدثت فى منطقة طيبة عام 1989م حيث تم العثور على مجموعة من التماثيل الفرعونية الفريدة لبعض الآلهة والملوك التى ترجع إلى الدولة الحديثة، عندما قام الدكتور محمد الصغير ببعض الاختبارات لتقوية أرضية فناء الملك أمنحتب الثالث (1405- 1370 ق.م.) الذي كان مخصصا أغلب الظن للاحتفالات الدينية التى كانت تشارك فيها فئات الشعب المختلفة، وذلك بعد أن لاحظ ميل بعض الأساطين، وهي عبارة عن صفين من الأساطين، شكلت على هيئة حزم سيقان البردي، ومجموعها 64 أسطوانا. وفى هذا الوقت، تم العثور على قاعدة لتمثالين على عمق حوالي 50 سم فى أرضية فناء أمنحتب الثالث مختلفى الحجم ومصورة بالحجم الطبيعى، وفى حالة حفظ جيدة، ومصنوعة من الديوريت، ونقش على القاعدة رسم صاحب التمثال «نب- ماعت- رع أمنحتب- حقا واست» (أمنحتب الثالث)، مما دعا إلى القيام بحفائر فى تلك المنطقة. وكان من بين أهم نتائج البعثة أن عثر على مجموعة من التماثيل أهمها:
-تمثال للإله آتوم (إله هليوبوليس) والملك حور محب على قاعدة واحدة، مصنوع من الديوريت، وهو تمثال فريد فى الفن المصرى القديم. وصور الملك حور محب راكعا مقدما إناءين يعرفان بـــــ»النو» للإله آتوم، ومرتديا النمس والصل الملكى، واللحية الملكية المستعارة. وصور الإله آتوم فى هيئة بشرية جالسا على كرسى العرش، مرتديا التاج المزدوج، واللحية الإلهية المستعارة، وممسكا فى اليد اليسرى علامة الحياة عنخ الموضوعة على فخذه. وزين كرسى العرش بمناظر تمثل إلهي النيل وربط نبات البردي (رمز الشمال) ونبات اللوتس (رمز الجنوب) (للدلالة على وحدة أرضى مصر السفلى والعليا).
-تمثال الملك أمنحتب الثالث، مصنوع من الكوارتزيت، ارتفاعه حوالي 2.5 م، وصور الملك واقفا على قاعدة تشبه الزحافة، ومرتديا التاج المزدوج، واللحية الملكية المستعارة، وممسكا علامة مكس فى يديه.
-تمثال للإلهة حتحور، ويعود إلى عهد الملك أمنحتب الثالث، ومصنوع من حجر الديوريت، وارتفاعه حوالي 170سم. وصورت الإلهة فى هيئة إنسانية، جالسة على كرسى العرش، وممسكة فى اليد اليمنى علامة الحياة عنخ الموضوعة على فخذها، ومرتدية التاج المميز لها الذي هو عبارة عن قرص شمس بين قرنى بقرة.
-تمثال للإلهة أيونيت، ممثلة فى هيئة بشرية بالشعر المستعار الذي يصل إلى الصدر، وتمسك بيدها اليمنى علامة الحياة عنخ الموضوعة على فخذها، وتكون مع الإلهة ثننت والإله مونتو ثالوث مدينة أرمنت المقدس.
-تمثال على هيئة «أبو الهول»، مصنوع من المرمر، ويرجع إلى عهد الملك توت عنخ آمون، ويرتدى الملك تاج الوجهين البحرى والقبلى.
-تمثال للإله «كا- موت- إف» على هيئة ثعبان الكوبرا، وارتفاعه حوالي 140سم، ومصنوع من حجر الجرانيت، ويرجع إلى عهد الملك الكوشى طهرقا.
وقد زاد عدد التماثيل التى عثر عليها فى خبيئة معبد الأقصر عن العشرين تمثالا بجانب بعض الأوانى التى ترجع إلى العصر المتأخر.
مراكب خوفو
فى شهر مايو عام 1954م، وفى ظل الاكتشاف المدوى الذي أنجزه زكريا غنيم فى سقارة، اكتشف مصرى آخر اكتشافا أثريا مهما، هو مركب الملك خوفو (2551- 2528 ق.م.) جنوب هرمه الأكبر وفى الناحية الشرقية من ضلعه الجنوبى تحديدا. وأحدث هذا الكشف عاصفة عالمية من الاهتمام أدهشت العالم.
كان المهندس المصرى كمال الملاخ يقوم بأعمال التنظيف وإزالة الرديم جنوب الهرم الأكبر، فكشف عن حفرتين لمركبين مغطيين بكتل من الحجر الجيرى الجيد. ومن الجدير بالذكر أن للهرم الأكبر ثلاث حفرات أخرى منقورة فى الصخر الطبيعى لهضبة الجيزة تأخذ شكل المراكب فى الناحية الشرقية للهرم، تقع اثنتان منها فى الناحية الجنوبية والناحية الشمالية للمعبد الجنائزى، بينما تقع الحفرة الثالثة شمال الطريق الصاعد للهرم الأكبر.
وفى الحفرة الأولى التى تقع جنوب شرق الهرم الأكبر، عثر كمال الملاخ فوق سطحها على إحدى وأربعين كتلة ضخمة من الحجر الجيرى الجيد المستجلب من محاجر طره الملكية. وبداخل هذه الحفرة البالغ طولها حوالي 31,2م، وعرضها 2,6م، وعمقها 3,5م، عثر على مركب خشبى كبير مفكك إلى حوالي 1224 قطعة خشبية من خشب الآرز القادم من لبنان موضوعة بعناية فائقة فى 13 طبقة فى أماكنها الأصلية، ومختلفة الأطوال مابين 23م و10سم، علاوة على كميات كبيرة من الحبال والحصير، والمجاذيف الخاصة به. وقد تولى ترميم هذا المركب، المرمم المصرى القدير الحاج أحمد يوسف فأعاده إلى ما كان عليه أيام الفراعنة، ويعرض الآن فى متحف خاص به فوق الحفرة التى اكتشف فيها، ويحمل اسم «متحف مركب خوفو». ويبلغ طول المركب 43,4م، وأقصى عرض له 5,9م، وعمقه 1,78م، وارتفاع مقدمته ذات الشكل البردي 6م، وارتفاع مؤخرته 7م، وله عشرة مجاذيف: خمسة على كل جانب تتراوح أطوالها مابين 6,5 و8,5م، ومقصورة رئيسية تتقدمها مقصورة الربان فى مقدمة المركب، والدفة عبارة عن مجذافىن كبيرين، ويزن المركب حوالي 45 طنا. ومن الجدير بالذكر أنه لم يستخدم مسمار معدنى واحد فى صناعة هذا المركب، فقد استخدم المصرى القديم هنا طريقة «العاشق والمعشوق» والحبال في تكوين أجزاء هذا المركب كبير الحجم.
ولنا تكملة في العدد القادم