بقلم: د. خالد التوزاني
نظمت جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز، بالعاصمة العلمية للمملكة المغربية، مدينة فاس، ندوة علمية احتفاء باليوم العالمي للشعر، وذلك بالتعاون مع المركز الأكاديمي للثقافة والدراسات المغاربية والشرق أوسطية والخليجية، ومعهد صروح للثقافة والإبداع، مع تقديم كتاب: المنتقى المعين من شعراء المغرب في القرنين التاسع عشر والعشرين، لمؤلفه فضيلة العلامة الدكتور مولاي عبد الله بنصر العلوي حفظه الله، وعرفت هذه الندوة مشاركة باحثين ونقاد وشعراء، وأقيمت بقاعة القرويين، بكلية الآداب ظهر المهراز، مساء يوم السبت 10 أبريل 2021.
عرفت هذه الندوة العلمية تكريم رواد البحث العلمي في الجامعة المغربية، حيث تم تكريم السيد عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية الأستاذ الدكتور خالد لزعر، وأيضاً تكريم السيد العميد السابق لهذه الكلية الأستاذ الدكتور عبد الرحمن طنكول، وأيضاً تكريم الأستاذ الدكتور عبد الله بنصر العلوي الرئيس المؤسس للمركزالأكاديمي للثقافة والدراسات المغاربية والشرق أوسطية والخليجية، وشهدت فعاليات الندوة تنظيم جلستين علميتين، وفقرة للتكريم، وجلسة لقراءة الشعر بأصوات أبرز الشعراء المغاربة، ومعرض للكتب والإصدارات.
ترأس الجلسات العلمية فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الرحمن طنكول، وقدم الأستاذ الدكتور خالد لزعر عميد الكلية مداخلة حول أثر الشعر العربي في الأدب الألماني، ثم تلتها مداخلة للدكتور عبد الوهاب الفيلالي، ومداخلة للشاعرة الأستاذة نبيلة حماني رئيسة معهد صروح للثقافة والإبداع، ثم مداخلة الأستاذ الدكتور عبد الله بنصر العلوي.
بعد ذلك، ترأسالأستاذ الدكتور إدريس الذهبي فقرة تكريم الشخصيات العلمية، وقدم كلمات مؤثرة في حق المحتفى بهم، عبّر فيها عميق المحبة والتقدير الذي يكنه لهم، وأبرز بعض جهودهم العلمية من خلال التعريف بمسارهم العلمي المشرف،والحافل بالعطاء والإنتاج العلمي، كما قدم المكرّمون كلمات عبّروا فيها عن شعورهم وهم ينالون هذا التكريم، وذلك في مشهد يحتفي برواد البحث العلمي، ويجدد معاني الوفاء والتقدير والامتنان لما بذلوه من عطاء.
ثم جاء دور الاحتفاء بالشعر ليقدّم الشعراء قصائدهم، وكانت البداية معالشاعر الدكتور أحمد مفدي، ثم الشاعر الدكتور عبد الكريم الوزاني، والشاعر محمد شنوف، والشاعرة نبيلة حماني، والشاعر محمد الادريسي، وآخرون.
أما الجلسة العلمية الثانية، فتم فيها تقديم مداخلتين، حيث قدم الدكتور خالد التوزاني قراءة في كتاب شعراء الصحراء المغربية، وقدم الدكتور عبد الفتاح البوزيدي قراءة في كتاب شعراء حاضرة فاس، وقدم الدكتور خالد لزعر مداخلة حول الشعر، ثم قدم السيد رئيس الجلسة الدكتور عبد الرحمن طنكول مداخلة حول مفهوم الشعر.
لقد شكّلت هذه الندوة مناسبة لإحياء جملة من القيم الإنسانية وتجديد أواصر الوفاء بين أجيال أبدَعَـت وأعطت بلا حدود، ينبغي أن لا يُنسى ذكرها وأن لا يُنكر فضلها، لأنها تمثل ذاكرةَأمّةٍ حية، وأجيال قادمة ينبغي أن تعرف تاريخ الأمة التي تنتمي إليها.
ومهما قيل عن انحسار مساحة الشعر في عالمنا المعاصر، إلا أن حضور القصيدة مازال مؤثّراً في الوسائط الجديدة، فالصورة الرقمية احتاجَت إلى الكلمات الجميلة الواصفة والمعبّرة، ولا صوت يعلو في الرقميات على صوت الكلمة الجميلة والمؤثرة، والشعر موطن الجمال ونبعُ الجلال،ولذلك فإنَّ الشعرَما يزال يمارس وظيفته في التأثير على جمهور واسع، يظهر ذلك أيضاً في حضور القصيدة بأنواعها وأنماطها واتجاهاتها، في ميادين كثيرة؛ في مناسبات متفرّقة، وفي تخليد أمجاد الأمم ومنجزاتها، بل في ساحات المقاومة والدفاع عن الأوطان، وفي ميادين العمل وتحفيز العُمّال، وفي التربية والتعليم والتدريب، وفي انتشال المرء من بؤس الماديات، وجفاء الآلة التي لا ترحم.
لا تخفى أهميةُ القصيدةِ في تأريخ الحياة النفسية والاجتماعية، وفي التعبير عن مظاهر الحضارة ونقل الثقافة، وتوثيق المشاهد والصور بدقة متناهية، وإيماناً بالشّعر وثيقةً تحفظ ذاكرة الأمة المغربية، يأتي العمل الموسوعي الذي أنجزه الدكتور عبد الله بنصر العلوي، والمعنون بــ: المنتقى المعين من شعراء المغرب في القرنين التاسع عشر والعشرين، والذي يتكون من عدة أجزاء، صدر منها البعض في انتظار تتمة المشروع، ولذلك تكتسي ندوة الاحتفاء باليوم العالمي للشعر، أهمية خاصة في تقديم عمل أكاديمي يشرّف الجامعة المغربية، ويرسّخُ أفقاً جديداً من التواصل الثقافي والتعاون المثمر، في سياق انفتاح الجامعة واستمرارية عمل الأستاذ الباحث، باعتباره رائداً في مجالٍ من مجالات البحث والتكوين، لا يتوقف عن العطاء والبذل، وضمن هذا التوجّه العام يعمل الأستاذ الدكتور عبد الله بنصر العلوي، وفق إيقاع يومي في التأليف والتوجيه والتواصل، ليقدّم درساً في العمل الدؤوب حيث عطاءُ العالِم والخبير مَعينٌ لا ينضب، فكان المنتقى المُعين من شعراء المغرب في القرنين التاسع عشر والعشرين، خير شاهد على عملٍ ضخم، لا تطيقه مؤسساتٍ فكيف برجلٍ فردٍ، وقد صدق الحق تبارك وتعالى حين قال: “إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً” (سورة النحل، 120)، فبعض الرجال مؤسسات تمشي على الأرض، وخزائن علم تسير على قدمين، بل جامعة متحركة، هذه الحقائق تصدق على كثير من رجالات العلم في بلدنا المغرب، ومنهم فضيلة الدكتور عبد الله بنصر العلوي حفظه الله.
ومن أجزاء هذه الموسوعة، يأتي الجزء الخاص بشعراء الصحراء المغربية، ليوثّق لواحد وخمسين شاعراً من شعراء الصحراء المغربية، وبعدد صفحات تقترب من ستمائة صفحة،ويضم هذا الجزء من الموسوعة، فضلا عن ذلك نصوصاً نادرة تنشر لأول مرة، لشعراء من الصحراء المغربية، كما يضم ترجمة لمغمورين منهم، لم يكن من السهولة الوصول إلى سيرهم، وهذا الكتاب لم يكتفبمسردٍ للشعراء وتعريف بمسارهم، بل ضم بين دفّتيهأيضاً دراسات قيّمة أنجزها الأساتذة: محمد الظريف وعبد الكريم الرحيوي ومصطفى بوخبزة، وقفوا فيها على جوانب من النبوغ المغربي في هذه الرقعة المغربية، الغنية بتراثها الفكري والحضاري، الأصيلة بأمجادها ومفاخرها ومحافظتها على الثوابت الفكرية والوطنية.
إنَّرصدَ شعراء الصَّحراء المغربية،يُعزّزُ الشعور بالانتماء إلى وطن واحد، ويقوي عناصر الانتماء المشترك لقيم إنسانية ودينية، تُمثل جملةً من الثوابت الوطنية، التي توحِّد المغاربة قاطبة، ولقد كان الدكتور عبد الله بنصر العلوي على وعي تام، بالسياق الحضاري في الراهن لمؤلَّفه حول شعراء الصحراء، حيث يقول في تمهيد الكتاب: “إنَّ هذا المُنجَز يمنح لعام نشره هذا (2021) زخماً للدبلوماسية الثقافية الدولية في حضورها القنصلي بمدينتي العيون والداخلة جوهرتي الصحراء المغربية، رعايةً للوحدة الوطنية وسُبلِ إقرارها بصون هويتها المغربية وبسِعة مجالات التنمية التي يحرص عليها جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأعزّ أمره”.
أما منهجية تأليف هذه الموسوعة، فيقول الدكتور عبد الله بنصر العلوي:وقد صنّفت هؤلاء الشعراء حسب مكان ميلادهم وفق المنهج الإقليمي الذي لا يعارض الرؤية الوطنية والإنسانية. فقد دأبت الدراسات المغربية على لمّ شتات كثير من أخبار المدن التي حظيت بكتابات عن تاريخها وأعلامها ممن وُلد بها أو حلّ فيها أو توفي بها،مما يسهم في تكامل الرؤية الثقافية الوطنية.
ويمكن توضيح هذه المنهجية في جملة من الإجراءات وهي:
أ- وضع تقديم عام يعرّف بسياق العمل.
ب – تمهيد عن الحاضرة الشاعرة.
ج – تصدير بمثابة مدخل إلى الحركة الشعرية بالحاضرة كتبه الدكاترة: محمد ظريف وعبد الكريم الرحيوي ومصطفى بوخبزة.
ثم يأتي القسم الخاص بالشعراء والأشعار: كل شاعر يتم التعريف به، واستحضار ما نشره من شعر أو ألّفه من مصنفات، وما قيل عنه، ثم مصادر ترجمته، وأخيراً الاستشهاد بنماذج من شعره، وهي نصوص ثرية تُسعِف الدارسين في بحث خصوصيات الشعر في الصحراء المغربية.
وفي آخر الكتاب، تم وضع ملحقين: الأول مسرد لأزيد من مائتي شاعر من شعراء الصحراء المغربية، مع ذكر مواطن ترجمتهم في معجم البابطين لشعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، الذي نشرته مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، بالكويت عام 2008. وكتاب:معلمة المغرب، ومصادر أخرى.
والملحق الثاني يقدّم جرداً لأهم المصادر والمراجع التي اهتمت بالشعر الصحراوي، وضمّ أزيد من أربعين مُصنّفاً، تقرّب الموضوع من الباحثين في هذا المجال.
وعلى الرغم من أهمية هذا الكتاب في حفظ ذاكرة الشعر في الصحراء المغربية، ومنحه المكانة اللائقة عبر بعثه من جديد؛ بإحياء مغموره، والتعريف بمجهوله، ونشر نصوصه، والإحاطة بمجمل خصوصياته الفنية والموضوعية، ويكفي الكتاب هذه المفاخر ليكون علامة من علامات النبوغ المغربي المتجدّد، إلا أنَّ تواضع العلماء يأبى أن ينظر للعمل نظرة كمال أو تمام، وفي هذا الصدد وبعد استفراغ كل الجهد، يختم الدكتور عبد الله بنصر العلوي كتابه هذا، بقوله: “إن ما قدّمناه لا يتجاوز غيضاً من فيض، ممن ترجمنا لهم وعرضنا لبعض أشعارهم” .وبهذا يضرب الدكتور عبد الله بنصر العلوي مثالاً للباحث المغربي الذي يعمل في صمت ويُنجِزُ ويُبدع دون ضجيج.
أخيراً، لقد عكست هذه الندوة، جملة القيم الإنسانية التي طبعت الشعر المغربي في انفتاحه وتواصله، وفي ترسيخ الثوابت الوطنية وتحصينها، وتعزيز الدبلوماسية الشعرية، وهي القيم التي حرص على إشاعتها الدكتور عبد الله بنصر العلوي ليس في ما كتَبَ فقط، ولكن في مأسَسَة هذه القيم، لتتجسّد في تأسيسه لمركز أكاديمي عُمره الآن أزيد من عشرين عاماً، يحمل اسم المركز الأكاديمي للثقافة والدراسات المغاربية والشرق أوسطية والخليجية، وهو المركز الذي نشر أزيد من ستين كتاباً، أغلبها بدعم من معالي الدكتور مانع سعيد العتيبة المستشار الخاص لصاحب السمو رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة.