بقلم: د. خالد التوزاني
هذا كتاب نفيس يشتمل على جملة من اللطائف والحكم الربانية التي كان يلقيها الشيخ أحمد بن محمد بن حبيب الله المشهور بلقب الشيخ الخديم (توفي عام 1927م) على مجموعة من طلبته مريدي علم التصوف في الديار السنغالية، وكان من بينهم المريد محمد صل المعروف بسرين صل (توفي عام 1957م) الذي كان يدوّن إملاءات شيخه بحرص وأمانة، ثم وضع لها عنوان: “جوامع الكلم فيما ورد عن العبد الخديم من علوم وحكم” لتستفيد منه الأجيال القادمة في فهم تعاليم الشيخ الخديم وفي خدمة الطريقة المريدية.
وقد بقي الكتاب مخطوطاً غير منشور، إلى أن جاء ابن المؤلف “سرين شيخ صل” ومنح الإذن لصديقه الباحث الموسوعي الشيخ أبو مدين شعيب كيبي بتحقيق هذا الكتاب وترتيب مواده والعناية به تدقيقاً وتنسيقاً وفهرسةً، ونشره بالعربية لأول مرة عام 2017 بتقديم الشيخ عبد الصمد بن الشيخ عبد القادر مباكي، وصدر في القاهرة على نفقة عمر صل حفيد المؤلف محمد صل، ونظراً لأهمية هذا الكتاب القيم، فقد ترجمه الأستاذ عبد الله فهمي، بناء على طلب المؤلف، ليتم نشره مرة ثانية ولأول مرة باللغة الفرنسية، بتقديم الأكاديمي المغربي الدكتور خالد التوزاني، رئيس المركز المغربي للاستثمار الثقافي، مساق، وبتعاون مع مركز الخديم العالمي للبحوث والدراسات الذي يهتم بنشر التراث المريدي.
وقد صدر هذا الكتاب في نسخته الفرنسية ضمن سلسلة علمية من كتب (نفائس مساق) التي ترعاها دارة ابن الزكري الألمانية للنشر المعرفي، ويديرها الباحث البحريني الدكتور محمد الزكري القضاعي.
هذا الكتاب جزء من التراث الخديمي الذي يمثل إرثاً روحياً وعلمياً، ينتمي لمجال جغرافي نادراً ما انتبه العالمُ إلى كنوزه، ونقصد التراث الإفريقي، متمثلاً فيما تركه شيوخ التربية الصوفية من مصنفات بديعة تضاهي في قيمتها الآداب والفلسفات العالمية قديماً وحديثاً، وتضم معرفةً عابرةً للقارات والأزمنة والثقافات، لأنها تتعلق بطبّ القلوب وعلاج الأرواح من الضيق والتوتر والضياع، ومن تلك المصنفات يأتي كتاب جوامع الكلِم فيما ورد عن العبد الخديم من علوم وحِكمٍ، جمعها العلامة التقي الشيخ محمد صل المشهور بسرين صل، وحقّقه الباحث الموسوعي أبي شعيب كيبي، ونظراً لقيمة هذا الكتاب فقد نقله إلى اللغة الفرنسية الأستاذ عبد الله فهمي، ليقدم بذلك خدمة جليلة لهذا التراث الإنساني الذي كتبَ اللهُ له القبولَ في الأرض ببركة محبة النبي صلى الله عليه وسلم، تلك المحبة التي تجلّت صورها في كثير من المظاهر وعلى رأسها تسمية الشيخ أحمد بمب بالخديم، أي خديم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سار مدد هذه البركات في أبناء الشيخ الخديم وأقاربه وأحفاده ومحبّيه إلى يوم الناس هذا، متجلياً في تداول حِكم الشيخ وعلومه وإشاراته ودُرر معارفه؛ مما نطق به حاله وأفصح عنه لسانه وصدّقه العمل.
يضمّ هذا الكتاب النفيس جملةً من لطائف المعارف المتعلقة بأحوال القلوب وطبائع النفوس في سَفرها إلى مدارج التكمّل بفضائل الأخلاق، والتجمّل بمكارم الصفات، والترقّي في منازل الأخيار السائرين في رحاب الحق تبارك وتعالى، فيجد القارئ، في هذا الكتاب، ما يمسّ شغاف قلبه ليرقّقه بالزهد والفناء في محبة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، باتباع هديه. كما يجد فيه ما يقوي به الإيمان من عجائب العلوم وغرائب الأخبار ولطائف الإشارات ومواعظ الشيوخ والكرامات. ويجد فيه ما يرفع همّته من المجاهدات الصوفية والرياضات الروحية. كما يجد فيه ما يشحذ به العزيمة من قصص الصالحين ومناقب الأولياء، ما يبلّغ المقصود ويختصر على المريد وجه الله، المسافات.
إنَّ مَنْ يُطالِعُ هذا الكتاب النادر يقف على فوائد جمّة في علوم شتى؛ منها ما له صلة بالعقيدة وهي رأس مال المسلم، وأنفس ما يملك وأعزّ ما يطلب معرفته، قبل أي قول أو فعل، فمتى صحّة عناصر الإيمان في الإنسان، استقامت الأساسيات الكبرى لديه، ثم ينهل من علوم القرآن الكريم ما يقوي به الإيمان، ويزيّن السلوك بفضائل الأخلاق وجميل الصّفات، حيث يشتمل هذا الكتاب على مقومات التربية الإسلامية، بمنهج تربوي يقوم على جوامع الحِكم والأمثال والأصول والقواعد، مما يسهّل حفظها وتداولها، ويجعلها يسيرة في التطبيق العملي، فالإسلام دين المعاملة قبل كل شيء، والتربية الدينية جامعةٌ بين التحقّق بعقائد الدين والتخلق بالآداب الشرعية في جميع الأعمال وسائر الأحوال، ومن هنا ندرك الصلة الوثيقة بين الإيمان والسلوك، فكلاهما وجهان لعملة واحدة هي الإسلام، والذي يتجلى في الظاهر أي العبادات والمعاملات، ووراءه الجانب النظري المكوَّن من العقائد، والذي لا بد منه لكل قول أو عمل، فكل تأثير في الاعتقاد يكون له الأثر المباشر في السلوك.
إن الاهتمام بالعلم من أهم ما تميّزت به المريدية، ولذلك حرص أهل هذه الطريقة المباركة على طلب العلم من منابعه، على اعتبار أن الإسلام يحث على طلب العلم ويثيب الراغب فيه، والمجاهدُ من أجله والرّاحِلُ في سبيله، عن طريق الاتصال بالعلماء والشيوخ وكبار المحدثين والفقهاء لتحقيق الروايات وأخذ الأسانيد والإجازات والاطلاع على المؤلفات ومناقشة أمور الدين والحياة، فكان أهل المريدية مثالاً للصبر في طلب العلم ونيل شرف لقاء الشيوخ والتفاني في خدمتهم، وقد لمعت أسماؤهم وذاع صيتهم في البلدان لما نالوه من علم وافر، ولما تركوه من مؤلفات نفيسة وعلوم دقيقة تشهد بعلو كعبهم في البحث والتأليف وخدمة الإنسانية جمعاء، وهنا يأتي واجب الوقت في ضرورة الالتفات إلى رصيد الأمة من نفائس المخطوطات وكنوز الآثار العلمية، والعمل على تحقيقها ودراستها ونشرها، صيانة للذاكرة والهوية، وحتى تعم الفائدة ويتصل بناء الحضارة، لأنَّ الأمة التي لا تعرف ماضيها العلمي المجيد، تظل عالة على غيرها من الأمم الأخرى.
وضمن هذا السياق، لا بد من الإشادة بجهود علماء السنغال من أهل المريدية الأخيار، ممن أفنوا أعمارهم في خدمة الدين والوطن، بالعلم والإيمان، فضربوا أروع الأمثلة في الوفاء للشيوخ العلماء والتعبير عن الانتماء لأمة الإسلام؛ بحفظ تراثهم والعناية به تحقيقاً ودراسةً ونشراً وترجمةً وتداولاً وتشجيعاً، وهذا الكتاب الذي بين أيدينا نموذج من المحبة التي يكنّها المريد لشيخه؛ بجمع علومه وإشاراته، فضلاً عن الفناء في خدمته، فالمرء مع مَنْ يُحبّ، وهو سبيلٌ لا يطيقه إلا صفيّ صادق قد آثَرَ الآخرة على الدنيا، وترقّى في مقامات الصفاء، فطوبى لمن جعل الله وجهته، فكانت طوبى جنة المأوى حسّاً ومعنى.
وتكمن العلمية لنشر وترجمة مثل هذه الذخائر النادرة، في إحياء سُنّة حميدة، تتمثل في التعلّق بالعلماء، وضبط سِير الرجال الأفذاذ وتوثيق علومهم، فإن لكل أمة أعلامها وصُنّاع حضارتها، فضلا عما يمكن أن تحفل به هذه المؤلفات النفيسة من قضايا علمية دقيقة، وخاصة في ما يرتبط بالعقيدة والسلوك والمذهب والأخلاق، وهي القيم والمبادئ الإنسانية التي لا تفنى، إلى جانب أصناف العلوم ومناهج تقريبها من الفهوم، وغيرها من علامات القوة في حضارة الأمة الإسلامية، والتي يؤدي تعّرفها اليوم إلى نوع من إيقاظ الهِمَم وغرس القيم وتحفيز الشباب للصبر على التعلم واختراق الآفاق بحثاً عن المعرفة من منابعها ومصادرها الحقيقية؛ وهي اللقاء المباشر بأهل الاختصاص، فكثيرا ما أسيء فهم النصوص، إذا اكتفي بقراءتها بعيدا عن المناقشة والحوار وعن اللقاء بأصحابها إن كانوا أحياء، وقد كان دأب السابقين في الحرص على اللقاء وتجشم عناء السّفر في طلب العلم، فكان ذلك المنهج من عوامل ترسيخ المعلومة وتعميق الفهم وخلق بيئة مناسبة للإبداع والتجديد والابتكار، إلى جانب توقير العلماء والاعتراف بفضلهم ورفع مكانتهم، وهو ما نلمسه بوضوح في آداب المريدية، سواء في مصنفاتهم البديعة أو ملتقياتهم العلمية أو جلساتهم الروحية.
إن الشباب العربي اليوم، في ظل العولمة الثقافية، في أمس الحاجة إلى معرفة العلماء، والاهتداء بطريقهم، في درب النجاح والصبر والكفاح. تلك القدوات والنماذج التي يستمدون من سيرتها قوة الإرادة وصلابة العزيمة والإصرار على طلب العلم واحتمال مشقة التعلّم في سبيل نيل أعزّ ما يُطلَب، وأنفس ما يُدّخر وهو العلم، وخاصة إذا كان ذلك العلم ربانياً موصلاً لسعادة الدارين.
أخيراً إن كتاب “جوامع الكلم فيما ورد عن العبد الخديم من علوم وحكم” للباحث السنغالي الموسوعي الشيخ أبو مدين شعيب كيبي، واحد من أهم المصنفات التراثية في السلوك الصوفي المريدي، نسبة للطريقة المريدية، والتي تحقق اليوم انتشاراً عالمياً، فرض ضرورة نقل هذا التراث من العربية إلى اللغات الأجنبية ومنها اللغة الفرنسية التي صدر بها هذا الكتاب مؤخراَ.