بقلم: ادوارد ثابت
كان يهوى في عطلته الأسبوعية أن يتجول سيراً بوسط البلد ليشتري ما يرغب في شرائه ويتطلع إلى ما يحب أن يتطلع إليه . وفي ذلك اليوم يستقل مترو مصر الجديدة من ميدان روكسي ‘ فما أن يمر المترو بمحازاة شارع رمسيس حتى ينظر من النافذة إلى مدرسته التي تخرج منها ويسترجع أياماً وسنوات مضت ، فقد بدأ دراسته بها في روضة الأطفال ، وظل بها حتى يحصل على الشهادة الثانوية ن وهي مدرسة خاصة من مدارس اللغات كانت مصروفاتها حين ألحقته أمه بها ثمانين جنيهاً تزيد إلى المائة في بعض الأحيان وهي تتضمن مع ذلك سيارة المدرسة التي تقله من بيته في الصباح وترجعه إليه ، وكان هذا المبلغ يقسط بأقساط شهرية ، تأتي معه أمه في بداية العام الدارسي فتدفع عشرة جنيهات أو عشرين جنيهاً وتضع له كل شهر في الجيب الأمامي لسرواله القصير او الطويل خمسة جنيهات تطويها وتغلق فوهة الجيب بخيط لا تعقده وتقول له أن يشد الخيط عندما يذهب إلى المدرسة ويعطيها لإدارة الحسابات ، وعرف في ذلك اليوم بعد تلك السنوات أن المصروفات بلغت أربعة الآف جنيهاً لروضة الأطفال وخمسة الآف للمرحلة الأبتدائية والثانوية ، وهو يشك أن يدفع هذا المبلغ مقسطاً وأن قُسَّط فلن يكون أكثر من قسطين أثنين . وكانت سيارة المدرسة تأتي إلى بيته في وقت مبكر جداً ، تحثه امه على الأستيقاظ وتساعده على أرتداء ملابسه وهو لا يكاد يفيق من نومه ، ويعد له أبوه كوباً من الشاي الممزوج باللبن فيلتهم في تعثر وسرعة قطعاً من الأفطار الخفيف ويحتسي معه على مضض بعض رشفات من الشاي كثيراً ما كانت تلسع سخونته لسانه فيضيق منه فتأتي أمه بكوب فارغ بارد بعض الشئ تقلبه بين الكوبين حتى يبرد ورغم ذلك يأخذ منه بعض رشفات قليلة ، ثم يعطيه ابوه قطعة من القروش الورقية ليشتري بها ما يحتاج إليه من مقصف المدرسة . ويحمل له حقيبته وينزل معه إلى الشارع وينتظر معه سيارة المدرسة فيقدم له الحقيبة عندما تقبل لتقله إلى المدرسة . وكان بمدرسته وحتى تخرج منها لا يأخذ ولم يأخذ غيره من التلاميذ تلك الدروس الخاصة التي اصبحت بعد ذلك أمراً رئيسياً في الدراسة بالمدارس ، فقد كان المدرسون يؤدون عملهم بما يستطيعون من كفاءة ولا يفرضون على التلاميذ تلك الدروس الخاصة فما هي الا البطاقة الشهرية التي توضع بها درجات الدروس فتعطى له ويعطيها هو لأبيه ليوقع عليها ليعرف منها الأهل مستوى التلميذ . فإذا أخفق تلميذ في درس ما توضع بالبطاقة حول القيمة التي حصل عليها دائرة حمراء وتستدعي المدرسة زويه ليوضح لهم المدرس ما يحتاج إليه ليتقدم فيما تعثر فيه . فكان إذا تفوق يقبل بالبطاقة فرحاً مغتبطاً فيريها لأبيه وأمه فيفرحان معه ويحيانه على تفوقه فيوقع عليها أبوه في إفتخار وبهجة وقد أوشك معهما متأثراً على أن يجهش بالبكاء وأوشكت الدموع على أن تترقرق من عينيه ، ولكن نادراً ما كان يحصل على تلك الدائرة الحمراء التي يحصل عليها من يتعثرون في دراستهم أو في درس منها . فقد كانت أمه تساعده في القراءة والكتابة وفي الحساب . وكان أبوه يساعده في الرسم ، ويحكي له عما يرتبط بالفن ، أما عندما كبر فكان يستقل بنفسه ولكن من الحق لم يكن من المتفوقين البارعين في دراستهم أو من أوائل الطلاب في مدرسته ، ومع ذلك لم يرسب أبداً طوال دراسته بالمدرسة ، ولم يتأخر تأخراً ملحوظاً في درس من الدروس ، ولهذا لم يحتاج لتلك الدروس التي تقوي التلاميذ ، بل لعله لم يكن يدرك أن هناك شيئاً منها ، ولم يكن هناك من التلاميذ من يسعى إلى هذه الحصص الخاصة التي أنتشرت بعد تلك الفترة فأضحت أمراً رئيسياً من الدراسة بالمدارس . وكان شعار المدرسة الذي يوضع على الدفاتر والمجلدات التي تصدرها هو (الفضيلة والعلم) يكتب عليها باللغة العربية وتحته ترجمته بالفرنسية ، وكان الشاعر خليل مطران الذي لٌقِب بشاعر القطرين قد درس وتخرج من هذه المدرسة بفرعها الموجود في بيروت بلبنان فكتب لها قصيدة يحث فيها طلابها على الجهد والكد ، وأن لايتهاونوا في سعيهم إلى العلم لأن تقويم الإنسان يبتغى بالفضيلة والعلم ، ويدعو للمدرسة أن يباركها الله وأن يعلي من قدرها فهي التي تنمي صغارها فيغدون بتأديبها كباراً ، فغدت القصيدة نشيداً لها يلقيه التلاميذ في الطابور اليومي ويلقيه هو معهم في نشاط أحس سعادته في ذلك اليوم وشعر معها بالحنو والحنين عندما أسترجع ذلك الماضي وهو يتطلع غلى المدرسة من نافذة المترو :
يقول خليل مطران :
يا بني العلم والفضيلة جِدَّوا كل كَد فيه فلاح فكِدُّوا
إنما الفوز للمجدين وعدُ
أطلبوا العلم لا تملوا طلابا لا تكلَّوا إذا لقيتم صعابا
أي ذل لمقدمٍ يرتدُ
وابتغوا بالفضيلة التقويما فهي والعلم لم يزالا قديما
للمعالي عتاد من يعتدُ
ذلكــم مــا تقولــه لبنيها هذه الدار بارك الله فيها
والهدى في شعارها والرشدُ
فخذوا من ذاك أشعار حلاكم أبينوا آثاره في علاكم
كل نبل من نبله مستمد
ربنا أعلى في البلاد منارا بطريركيةً نمتنا صغارا
وبتأديبها كباراً سنغدوا
وكان وهو صغير عندما يسألونه عن مكان مدرسته يقول كما كان يسمع من غيره من الطلاب أن المدرسة بشارع الملكة ، ولم يكن يدرك من هي هذه الملكة حتى عرف بعد أن كبر .. بأنها الملكة نازلي زوجة الملك فؤاد وأم الملك فاروق الذي كان ملكاً على مصر ستة عشر عاماً منذ 1936 إلى 1952 والذي تنازل عن العرش بعد حركة يوليو وتولى الحكم محمد نجيب الذي ترك الحكم قهراً أو مهادنة لجمال عبد الناصر ، وكان عبد الناصر لا يحب بل يبغض الملك والعائلة المالكة ويكره أن تظل أسماؤهم على الشوارع والأمكنة العامة بالبلاد فغير نظامه الشارع والميدان إلى رمسيس الأول بالميدان وينتهي المترو إلى الميدان ، فينزل منه ويتطلع حوله فيتساءل في نفسه متأسياً : ما هذا الزحام الذي يملأ الميدان ؟ ورائحة السيارات التي تغمر الجو وأين هو من هذا المكان الذي كان من قبل ؟! وينظر إلى محطة مصر للسكة الحديد ، والذي كان يطلق عليها وعلى الميدان من قبل باب الحديد لأن المحطة كان يحيط بها ويواجهها سور حديدي له باب يعبر منه الناس وتعبر منه السيارات إلى ابواب المحطة فجاءت من ذلك تلك التسمية . فكان في الصيف عندما يذهب مع عائلته إلى الإسكندرية ، تعبر سيارة الأجرة التي يستقلونها من ذلك الباب في وقت مبكر من اليوم ولازالت المصابيح الليلية تضيء المكان قبل أن تسطع الشمس فيرى قليلاً من الناس وقليلاً من السيارات بأنحاء المحطة . كان الميدان من قبل يبدو فسيحاً على الرغم من أن مساحته لم تتغير حتى بعد أن وضع به تمثال رمسيس الذي كانت تنطلق من أمامه تلك النافورة التي تصب مياهها في حوض كبير مستطيل فإذا مرَّ إلى جانبها أنتشر منها على وجهه رزاز خفيف يستمتع به مع الجو الذي كان نقياً بعض الشئ ويسترجع ماضي قبله ، فقد كان هذا المكان به تمثال نهضة مصر الذي نفذه المثال محمود مختار والذي وضع بعد ذلك أمام جامعة القاهرة ووضع تمثال رمسيس بدلاً منه ثم نقل إلى المتحف الحربي بطريق مصر – أسكندرية الصحراوي ، وأنشئ هذا المطلع الذي يربط كوبري ستة أكتوبر ، ومنذ ذلك الوقت أو قبله بقليل بدأ الزحام بالميدان ثم أخذ يشتد حتى بدا الناس والسيارات يسيرون فيه ملتصقين وكأنما هم يتصادمون أو يوشكون على التصادم وغدا الناس في سيرهم يعبرون الطريق وهم يحاورون السيارات ويجتازون من بينها بعضهم يجرؤون وبعضهم يتماشون وغير أولئك وهؤلاء لا يبالون وكأنما هم لا يتأثرون بهذا الزحام أو لا يحفلون به أو يؤثر فيهم كما لم تؤثر فيهم رائحة السيارات التي غدت تغمر الميدان كله . ويجتاز الميدان إلى شارع الجمهورية ، فينظر إلى ذلك الشارع الذي كان يطلق عليه من قبل إبراهيم باشا . ومثلما كان عبد الناصر يبغض الملك وعائلته فمحاها من الشوارع والأمكنة العامة . كان يبغض معهما لقبي الباشا والبك فألغاهما وألغى ارتباطهما بالشخصيات على اختلافها ، على الرغم من أن هذين اللقبين استمرا بعد ذلك يطلقان على كل من يحصل على منصب عالٍ ترحيباً أو نفاقاً ثم شاعا فأخذ الأصدقاء والمقربون ينسبونهما إليهم عندما يحييون بعضهم أو يتصافحون . ولم يزل نظام عبد الناصر لقب إبراهيم باشا من الشارع فقط وترك تسميته كما فعل ببعض الشخصيات وإنما غيّر تسميته فأطلق عليه الجمهورية مع أن إبراهيم باشا من الشخصيات المهمة في التاريخ المصري الحديث ، فهو أبن محمد على باشا الذي كان والياً على مصر في أوائل القرن التاسع عشر ثم تولى هو العرش ، وكان قائداً للجيش أتجه به في حملة على الجزيرة العربية وأنهى على الدولة السعودية الأولى وأسر أميرها عبد الله بن سعود ، ولا يزال تمثاله الرائع الذي نفذه الفرنسي (كوردييه) يوضع بميدان الأوبرا الذي كان يسمى من قبل ميدان إبراهيم باشا .
البقية في العدد القادم