بقلم: شريف رفعت
ابني يقول لي: الولد عنده مباراة هوكي اليوم، هل تستطيع اصطحابه؟ أنا و أمه مشغولان.
رددت: طبعا، سيعيد لي ذلك ذكرى أيام أن كنت أصطحبك أنت لمثل هذه الأنشطة منذ ثلاثين عاما.
يضيف: “نيل” يستطيع ارتداء ملابس و معدات الهوكي بنفسه، فلا داعي لاصطحابه لحجرة خلع الملابس، أيضا دعه يحمل حقيبة المعدات بنفسه.
في الميعاد المحدد اصطحبت حفيدي في سيارتي إلى الأرينا* حيث تقام المباراة. قدت سياراتي في شوارع مونتريال الباردة المغطاة بالثلوج. رغم العقود التي عشتها في هذه المدينة ما زال الشتاء يمثل عبء ثقيل علي. أحاول تبادل الحديث مع “نيل” كي أحثه على اللعب بتركيز و بهمة و أن يسعى جاهدا للفوز، لكنه يعزف عن الاستماع لي و يحرك أصابعه بسرعة على هاتفه المحمول، إما أنه يلعب لعبة إلكترونية على الهاتف أو هو يرسل رسائل لأصدقاءه.
عندما وصلنا للأرينا نزل الولد من السيارة و حمل حقيبته التي حجمها أكبر منه، سار إلى حجرة خلع الملابس و هو ينوء بحمله و يستند على عصى الهوكي أثناء سيره.
ركنت العربة و توجهت إلى المدرجات حيث تجلس أسر اللاعبين، في الطريق عرجت على حجرة خلع الملابس. “نيل” يقف في وسطها و حوله باقي أعضاء الفريق. كلهم في سن متقاربة حوالي عشر سنوات، يخلعون ملابسهم و يرتدون أغطية واقية لرقبتهم و باقي جسمهم كي تحميهم من أذى الوقوع على الجليد و تلقي الخبطات من لاعبي الفريق المضاد. بعد ذلك يضعون عليهم الفانلات و مناطيل و جوارب الهوكي الطويلة ثم يرتدون في أقدامهم زلاجات التزحلق على الجليد. يفعلون ذلك و هم يصيحون و يهرجون و يتبادلون السباب و القفشات. عند وصولهم للملعب المغطى أرضيته بالجليد يدقون بعصيهم على سطح الجليد كما لو كانوا يستعدون لمعركة حربية. يصيح أحدهم متسائلا: ماذا سنفعل بالفريق المنافس؟
فيردون جميعا: سنركل مؤخراتهم.
تبدأ المباراة، أأخذ مكاني على المدرجات، المكان بارد بسبب مساحة الجليد الكبيرة التي يلعب عليها الأولاد. أضطر للإحتفاظ بمعطفي كي أتقي البرد.
واضح أن الفريق المنافس أقوى و لاعبوه أكثر مهارة، اللاعبون خمسة من كل فريق بالإضافة لحارس المرمى يتحركون بزلاجاتهم على الجليد بسرعة فائقة، يطاردون قرص اسود من المطاط الصلب يحاولون أن يدخلوه مرمى الفريق المنافس. المباراة مقسمة إلى ثلاث فترات، للأولاد في هذا السن الفترة خمسة عشر دقيقة بينما للكبار تمتد الفترة إلى عشرين دقيقة. بعد أول فترتين كان فريق حفيدي مهزوما ٣\صفر، تبدأ الفترة الثالثة، يندفع “نيل” بمنتهى السرعة على زلاجتيه و يصدم لاعب من الفريق المنافس عن عمد، اللاعب يدفعه غاضبا، يتطور الموقف بسرعة يخلع الاعبان قفازيهما و يشتبكان في معركة تنهال فيها اللكمات، يـُسْقـِط نيل اللاعب الآخر و يجثم فوقه مكيلا له الضربات، يسرع الحكام الثلاثة بالفصل بينهما، تبعا لقواعد اللعبة يجلس كل من الاعبين لمدة دقيقتين في صندوق العقوبات المخصص لللاعبين الذين يرتكبون تجاوزات. و هو في طريقه للصندوق يخبط أعضاء فريقه بعصيهم مصدرين صوتا مزعجا كأنهم يدقون طبول الحرب، “نيل” يرفع يده يحييهم و هو سعيد بما فعل.
بعد المعركة يحرز فريق حفيدي هدفين لكن المباراة تنتهي بفوز الفريق الآخر.
أنتظر “نيل” أمام حجرة خلع الملابس، يخرج و هو ينوء بحمل حقيبة المعدات .في يده شيئا يرشفه، عبارة عن إسطوانة بلاستيكية شفافة بها ماء مُحلَى لونه أزرق و مجمد مثل الثلج المجروش، يسيل السائل على ذقنه و يده صابغا فمه و لسانه باللون الأزرق. أسأله: ما هذا؟
يجيب: ࢠوࢠسيكل، أحضرته لنا والدة أحد اللاعبين. أنظر له بطرف عيني و هو يسير بجواري متوجها للعربة، منظره طريف و هو منهمك في الرشف ويسير بجسده المائل كي يعادل ثقل حقيبة المعدات، يبدو محتاسا** بالسائل الأزرق الذي يسيل على ذقنه و ملابسه و رغم ذلك فهو سعيد.
نقترب من العربة أقول له محذرا: إحترس إياك أن تتسخ مقاعد العربة من يديك اللزجتين. يضع حقيبة المعدات في المقعد الخلفي للعربة، يتجه للثلج المتجمع على جانب الطريق يأخذ حفنة منه يدعك بها يديه و فمه و ذقنه، يمسح يديه في ملابسه ليجففها، ثم يقول لي: بسيطة، ستبقى مقاعد عربتك نظيفة.
قبل أن نستقل العربة أرى الولد الذي إشتبك في المعركة مع “نيل” متجها نحونا هو و أبواه، أسأل نفسي هل هم هنا للإنتقام؟ هل سيؤنبني الأب على تصرف حفيدي و يشتبك معي في معركة؟ الأب ضخم و أصغر مني في السن، لا شك لو تحول الموضوع لمعركة فسيكون علَيْ السلام.
يصيح الولد مخاطبا حفيدي: “نيل” هل تعلم أني حصلت مؤخرا على لعبة نينتندو “إسطورة زلدا” لعبة رائعة.
ـ أيها الكلب المحظوظ، أراهن أني أستطيع أن أفوز عليك لو لعبنا معا.
ـ أنت تحلم فأنا ممتاز في هذه اللعبة.
ـ حسنا، دعنا نلعب مباراة و نرى من سيفوز.
ـ مُر علي مساء اليوم حوالي السابعة.
ـ أو كي.
والِدَي الولد يبتسمان، الأب يحييني بإنحناءة من رأسه. عندما دخلنا العربة قلت لنيل: هل هناك إحتمال أنه يرغب أن تذهب له كي يضربك علقة في منزله ردا على ضربك له على الثلج؟
نظر لي “نيل” باستغراب ثم قال: جدي، الناس هنا لا تفعل ذلك، سأذهب لمنزله مساء اليوم و سأفوز عليه في لعبته الجديدة.
سألته: لكن لماذا أثرت هذه المعركة في المقام الأول؟
ـ كنا مهزومين و أردت أن أغير دينامكية المباراة.
لم أفهم ما هي دينامكية المباراة و بالتأكيد هو أيضا لا يفهم معناها لكنه يكرر ما يقوله مذيعي مباريات الهوكي في التلفاز.
نيل قال كأنه يحدث نفسه بصوت عال: هذا الولد المحظوظ عنده أحدث الألعاب.
ثم بعد فترة سألني: جدي، في عيد ميلادي القادم ممكن تكون هديتك لي لعبة “إسطورة زلدا”؟
أجبته: سأفكر في هذا الموضوع.
أضاف: في الواقع لا داعي للإنتظار حتى عيد ميلادي، سيكون جميل جدا منك أن تشتري لي اللعبة في أقرب و قت.
ابتسمت و لم أعلق. أضاف بعد فترة: أنا جوعان.
إقتربنا من المنزل، نظرت له وجدته غارقا في النوم، أنفاسه منتظمة، فمه الذي مازال به اللون الأزرق مفتوح نصف فتحة، يبدو كملاك شقي مـُـتـْعـِب، تعجبت كيف أن هذا الولد الجميل الشقي الجشع المختلف عني تماما من ذريتي.
عندما وصلنا استيقظ من نومه، نظر حوله ثم كرر مرة أخرى: أنا جوعان.
فتح باب العربة، صاح في: جدي حبيبي، إحضر معك حقيبة الهوكي للداخل. ثم إنطلق إلى المنزل.
مدخل المنزل الممتد من باب الجراج إلى رصيف الشارع و الذي نركن عليه العربات مغطى تماما بالجليد، قطعه نيل بسرعة و هو يتزحلق عليه مستمتعا كما لو كان ساحة زحلقة على الجليد.
حملت أنا الحقيبة . وجدتها أثقل مما توقعت، سرت على المدخل المغطى بالثلج ببطأ و حذر خوفا من الوقوع.
*الأرينا: الساحة المغطاة بالجليد و التي تستخدم لرياضة الزحلقة على الجليد و الهوكي، أيضا المبنى الذي يضم هذه الساحة.