قصة قصيرة بقلم: سوسن شمعون
هربت في ذلك اليوم من المدرسة لا تلوي على شيء , كانت تعيش ذروة الاكتئاب بعد وفاة والدها ولم تستطع لصغر سنها أن تعبِّر عن حزنها إلا بالصمت و الجزع, و كانت أمها رهينة أسى وماضٍ ليس بشاسع السنين, تائهة عن ابنتها و محيطها كله , لم تكن الصدمة آنذاك متوقعة لكن حصلت و انتهى الأمر , وبقيت تلك الطفلة تعيش الكبت و المقت ولا ترى في وجوه من حولها إلا نظرات الشفقة و تشعر بكلامهم بشيء من اللامبالاة أحياناً أو كمن يحاول أن يسقيها كأس مرارة اليتم لتعيش تلك الفجوة واضحةً في بنيان أسرتها بينها و بين أهلها وحتى أمها, تلك الفتاة و أمها عاشتا الاضطراب النفسي و المادي فكل منهما كان في داخله صراع بين ما كان و ما سيكون و كيف يكون, لم تتقبل البنت تدخل الأقارب في تربيتها لكن لم يكن بيدها حيلة إلا الانصياع و الصمت لتمضي السنين حاملة في قلبها تراكمات صور لأحلام ضاعت و مشاكل عانت منها و ألم لم يستطع أحدٌ فهمه و جرح لم يقدر إنسانٌ على مداواته, ففي تربية البعض نرى خوفاً قمعياً على مثيلات تلك الفتاة , يكبلهن و يمنعهن من تنفس هواء التجارب و المحاكاة الاجتماعية لما حولهن ليخلق فيهن سجن يأسر شخصيتهن و يحد من عواطفهن و مشاعرهن بحجة العيب و الحرام, فلا تظهر إلا خلسةً . اعتادت الفتاة على تطويق مجتمعها لها أو ربما ظنّت ذلك وكبرت و كذلك أمها كبرت معها و كبر حقدٌ دفين في قلبها الصغير على كل من جرحها و ظلمها و وأد طفولتها , الأم القاسية الخائفة على ابنتها من براثن الحياة ترى نفسها وحيدة بعد أن تغرب أهلها عنها و اعتزل صلة الرحم من اعتزل, فوهنت قواها ولم ترى أحداً يقيم لها عضدها إلا ابنتها التي طالما عصفت بها المحن لتجبرها على سلوك طريق و أساليب تُقصيها عن الحياة العادية لأي فتاة, تلك الصبية هي الآن السند و المدد و العون لأمها التي مازالت تقمعها لشدة خوفها, لكن الفتاة ما تزال تختبئ وراء أملٍ بعيد لامست شيئاً من ألوانه الزاهية في خضم اﻷيام , وتلك الأم تجيد إخفاء مشاعرها و حاجتها الماسة إلى اهتمام و عطف لأنها ترى أنه لابد من مواجهة الأيام بقلبٍ مغلق كي لا يقودها إلى انكسارات جديدة كانكسارها القديم , الصبية رغم حيويتها المزعومة لكن في داخلها روحٌ تستجدي المحبة و السكينة , و الأم ترى ابنتها تلوذ بأسرارها لذاتها بعيداً عنها خوفاً من عتاب أو إساءة تلقاها نتيجة لحظة غضب و انفعال اعتادتها منها, هما تعيشان في بيتٍ واحد لكنهما بعيدتان عن بعضهما كل البعد , فالشابة تحتاج إلى الانطلاق و هي أسيرة المسؤولية و الوحدة والخوف من الآتي وتحاول البحث عن ذاتها دون سطوة المجتمع , و الأم تخاف الإهمال و التناسي و تخشى الانزواء لذلك تبقي ابنتها في قيودها دون محاكمة أو استجواب أو حتى تفهُّم , ذلك القمع الناتج عن قسوة الزمان هل سينتج غير التعب و العناء والمزيد من العجز و اليأس ؟؟ ليس في القمع الصارم و التربية العنيفة جدوى ليمارَس على فتياتنا لكن هناك دائماً حدود لكل شيء , لأن أولئك الفتيات سيواجهن صعاب الحياة يوماً ما إن شئنا ذلك أم لا , فلنعطيهن الحق في رؤية أشكال الحياة المختلفة و نكون معهن إخوة و أهل ذوي حكمة و تعقّل حتى تتكون لهن خبرةٌ في مجابهة الأيام دون عقدٍ نفسية ودون خوفٍ من المواجهة ولكي يحسنَّ قيادة حياتهنَّ و أسرهن مستقبلاً.