بقلم: سناء سراج
استيقظت مبكرا بعد أن أمضيت ليلتي وانا اجمع فساتيني،واحتياجاتي وضعتها في الحقيبة حيث انني مسافرة مع العائلة في عطلة الاجازة الصيفية إلى البلدة القديمة في الريف الجميل الأصيل حيث النقاء ليس فقط في الطبيعة الخلابة والطير والشجر ولكن أيضا في النفوس ، كنت دائماً احب السفر بالقطار رغم أنه قطار عادي ذو مقاعد خشبية جافة والطريق إلى حد ما طويل ولكنني كنت أشعر بمتعة وسعادة بالغة كلما اهتز القطار وسمعت صوت العجلات تأكل الطريق والقضبان ويهتز زجاج النوافذ إن وجد، كنت افتح النافذة ويالفحني الهواء بقوة وكنت استنشقه بعمق وقتها كنت أشعر أنني في عالم آخر غير الأرض كانت لى دنيتي الصغيرة كنت أرى فيها كل شئ جميل ونقى كنت اشعر اني اطير واحلق في السماء الصافية وأرى الأرض بساط أخضر يملأ المساحات الشاسعة ووديان وأنهار ومياه لامعة براقة تسر الناظرين كأنها قطعة من الجنة ورغم شقاء الرحلة إلا أنها رائعة، ووصل القطار وحملنا الحقائب والأمتعة وركبنا سيارة لنصل بها إلى البيت العتيق وعلى طول الطريق تشم رائحة الزرع ورائحة الخبز الساخن ورائحة العشب الأخضر حيث يلتقي مع زرقة السماء الصافية في لوحة ربانية وكأنها قطعة من الجنة.
كل شي كنت احبه جدا ما عدا احتفاء الناموس ذلك الكائن الصغير الذي لا تستطيع أن تراه ألا بعد لدغة دامية في أي مكان وجهك قدمك يديك هذه الحشرة التي تفسد الرحلة وكانت لي بعض الطقوس المختلفة عن باقي أفراد عائلتي، فمثلا كنت لا أحب النوم كثيرآ كنت استيقظ مبكرا لاري الشروق وأرى الشعاع الذهبي الذي يشق السماء ويخترق كل الأجواء وينشر النور والضياء ونسمة الهواء العليل البارد التي تحمل معها رائحة الريف وعبق المكان كنت أنظر إلى كل شئ أجده رائع وجميل الشجر النخل البساط الأخضر الذي يكسو الأرض الشاسعة برداء من سندس واستبرق، كنت أرى قطرات الندى التي أغرقت الأوراق والأشجار والحقول وباتت في أحضانها طوال الليل تتجلى وتتلاشى كلما زحفت الشمس تنتشر في ربوع الأرض.
ثم يبدأ الناس الانتشار في الأراضي والحقول يغرسون البذور أو يجمعون الحصاد وآخرون برفقتهم بعض المواشي من الأبقار والجاموس حيث هذه الحيوانات تمثل جزء لا يتجزأ من حياتهم والكائن الذي يطلقون عليه حمار حمال الأثقال والأحمال والهموم الذي لا يكل ولا يمل، وعلى البعد تجد الساقية المستديرة المغروسة في البئر العميق وهي تدور وتدور لتخرج المياه التي تمشي في قنوات تشق الأرض وتروي الزرع وتجرها البقرة أو الجاموسة، ثم تعود ليلا تدر الحليب لوحة ربانية، منظومة رائعة رسمها الخالق قطعة من الجنة على أرضه..
في الجانب الآخر ساعة العصاري تجد المرأة تلك الفلاحة الشامخة بثوبها الفضفاض المزركش تمشي وهي تحمل فوق رأسها البلاص وهو عبارة عن إناء من الفخار له اذنين وفوهة صغيرة بالنسبة لحجمه وتذهب به إلى آلة حديدية دقت في باطن الأرض الطيبة تسمى الطرمبة حيث ترفع وتخفق يديها لتخرج ماء عذب بارد أنقى بكثير من المياة التي تسمى معدنية وما هي معدنية، وتجر وراءها مجموعة من الطيور مثل البط والإوز الذي أتى معها في الصباح الباكر ينقر في الأرض ويأكل من حشائشها ثم يأخذ غطس في مياه الترعة يتريض ويغني ويلعب ويراعي أبنائه ويرفرف بجناحيه وينثر الماء ثم يعود معها إلى البيت بعد قضاء يوم جميل في كنف الطبيعة، كنت اتجول كثيرا بين الطرقات لاملأ عيني وقلبي من هذا النقاء في كل شئ وبعد أن أكون قد اتممت بعض الأعمال المنزلية وقبل أن تدق الساعة الخامسة كنت أرتدي فستانا وردي اللون وبه بعض النقوش واصفف شعري واكحل عيني واتخذ بصحبتي الراديو واجلس أمام الدار أو البيت العتيق على المصطبة التي شيدت بالطوب اللبن واتكأ عليها بكل أريحية وامامي بساط أخضر وأشجار تقف شامخة وبعضها يميل وتتدلي فروعها في مياه الترعة غزيرة المياة والبراقة مع غروب الشمس والتي تنمو على جانبيها العشب الأخضر وادر مؤشر المذياع على محطة ام كلثوم وتهتز الأغصان وتتمايل يداعبها النسيم العليل وصوت أم كلثوم سيرة الحب.. وتشدو القيثارة طول عمري بخاف من الحب وسيرة الحب وظلم الحب لكل أصحابه وأعرف حكايات مليانه آهات ودموع وأنين والعاشقين دابوا ما تابوا طول عمري بقول لانا اد الشوق وليالي الشوق ولا قلبى اد عذااااابه… تبدأ الشمس في الانسحاب تدريجيا مٌخلفة من ورائها شعاع من نور ونار يتلاشى في ربوع السماء حتى يفسح مكانا لبزوغ القمر الذي يشق ظلام الليل وتهتز الطبيعة ولا ادري النسمات التي تأتيني اهي رياح ام نغمات الطبيعة التي ترنحت مع كلمات يرق لها القلب ومشاعر فياضة تغرق الأرض والشجر وتتوالى إبداعات الحناجر الذهبية ويطل عبد الوهاب.. كل دا كان ليه ليه لما شفت عنيه حن قلبي إليه وانشغلت عليه.. قلي كم كلمة يشبهوا النسمة في ليالي الصيف.. غاب عني بقالة يومين معرفش وحشني ليه…
الزمن الجميل وفيض المشاعر ورقي الكلمات وروعة الطبيعة ثم تطل علينا نجاة بصوتها الدافي الرقيق وتفتش في الذكريات الراقدة و توقظها وتشدو ليلة من الليالي فاتونا… عيني لو صحيح نسيونا.. بنفس الشوق شوق في القلب يومه بسنة بنفس الحب حب سنين مليانه هنا… ويسهب عظماء الفن الجميل ويأتي فريد الأطرش ورائعة كامل الشناوي
لا…وعينيك.. وخيالي الذي سما بك يوما ياله اليوم من خيال كسيح وفؤادي الذي سكنت الحنايا منه أودعته مهب الريح لا لا وعينيك لم أعد فيك هائما سكنت ثورتي فصار سيان عندي أن تبوحي بالحب أو لا تبوحي…
كل هذا وكأني أعيش بمعزل عن الناس فى دنيتي أو في جنتي وارتشف كوب من الشاي واعيش حالة الانتظار حتى يأتي عندليب القلوب الذي كم عزف على أوتارها كثيرآ ويطل بصوته الحنون ويدق مع القلب وتزداد دقاته ويملأ الدنيا غناء أنا اللى طول عمرى بقول كلام الصبر فى المواويل وانا اللى طول عمرى بقول الحب عمره طويل… من كتر ماكان الحب واخدنا وكل حلاوه الدنيا فى إيدنا لا لا لا فكرنا زمان يعاندنا ولا ايام تقدر تبعدنا لا لا.. وسافر من غير وداع فات في قلبي جراحه دوبت في ليل السهر والعيون ما ارتاحوا… وهنا يشق القمر ظلام الليل وينير القلوب الحزينة ونعيش أجمل لحظات عمرنا ونعيش احاسيس جميلة بريئة متدفقة.. نعيش فقدها الان بل وننعيها فكم تغيرنا وتغيرت الأماكن وتغيرت النفوس والأحاسيس لم نعد بنقاء الماضي لم تعد أعيننا تبصر المناظر الجميلة لم تعد قلوبنا تعيش الأحاسيس الرقيقة البريئة لم نعد نستنشق النسيم العليل كما الماضي ولم تعد المياة براقة ونقية وعلى جانبيها العشب الأخضر بل أصبحت ترع ووديان مضمحلة المياة شحيحة الحياة يشوبها السواد وتكسوها القمامة والمخلفات وعلى جانبيها أكوام من الحجارة وسواد الطين المتحجر الجاف لم تعد الأرض أمامنا بساط أخضر بل تناثرت المباني والأحجار لتأكل المساحة الخضراء.. اليوم هو اليوم وعدد الساعات كما هي لم تنقص أو تزيد والأسابيع والشهور مازلت تحمل نفس الأسماء ولكننا لا نجد الوقت لنعيش كما الماضي أصبح الإيقاع سريع كل شئ تغيير الساعات أصبحت كالقطار الذي يأكل الطريق تغيرنا كثيرآ أصبحنا لا نعرف عن بعضنا البعض الا اننا مازلنا على قيد الحياة.. استبدلنا وجوهنا وتصافح أيدينا بالهواتف والرسائل القصيرة المقتضبة أو الرموز التعبيرية بعنا السعادة والرضا وراحة البال بالقيل والقال بعنا النقاء و استوردنا الملوثات بعنا السلام وعشنا الحرب والتمزيق والدمار.. تخلينا عن البراح وشيدنا الأسوار وخنقتنا الحدود استبدلنا الفن الراقي الذي يسمو بالروح.. أم كلثوم وعبد الحليم ونجاة بشئ هابط يأخذنا إلى الهاوية السحيقة أمثال اوكا واورتيجا ومحمد رمضان أبو شورت وجاكت عريان!!
اخترنا نلف وندور في الساقية بدل المواشي والأبقار.. وياريتنا بننتج لبن أو عسل أو نروي الزرع العطشان..
ودي كانت إحدى حكايات الدار..