بقلم: شريف رفعت
لا تدري لماذا الآن و بعد ما يقرب من أربعين عاما تُحْضِرُها ذكرى ذلك اليوم، كاملة بكل تفاصيلها الدقيقة كأنها حدثت بالأمس، بعد كل هذه السنين تنظر لأحداث ذلك اليوم بحيادية لا تحاول أن تستخلص منها أي نتيجة، مجرد أحداث متتابعة سببت لها الوجوم في نهاية ذلك اليوم البعيد.
كان ذلك بعد حوالي أسبوع من وصولها لهذه المدينة، عروس جديدة، كل شيء غريب عنها، المدينة، الناس، اللغة، حتى و الأهم أن زوجها أيضا كان جديد عليها و معرفتها به محدودة، تم الزواج بالطريقة التقليدية، أصدقاء الأسرة رشحوها له، أعْتُبر وقتها عريس ممتاز، أسرته مماثلة اجتماعيا و ماديا لأسرتها، وظيفته جيدة، شكله معقول و تبدو شخصيته ـ من خلال اللقاءات القليلة قبل عقد القران ـ متزنة، ميزة أخرى كبيرة فيه أنه يعيش في المهجر، ستسافر معه إذا إلى العالم الجديد، و ها هي في العالم الجديد تواجهه بمفردها، صباح ذلك اليوم أخبرها زوجها أن هناك إجراءات حكومية معينة يجب عليها كمهاجرة جديدة أن تنهيها، المكتب الذي يجب عليهما الذهاب له في وسط المدينة غير بعيد عن مكان عمله بينما يقطنان هما في الضواحي، أخبرها كيف يمكنها أخذ المواصلات العامة و الذهاب بمفردها لوسط البلد، عند وصولها عليها أن تتصل به في عمله من هاتف عمومي فيحضر لاصطحابها للمكتب الحكومي و ينهي الاجراءات المطلوبة معها.
كانت تعليماته بخصوص المواصلات واضحة و رغم ذلك بدى المشوار كمغامرة بالنسبة لها فهي أول مرة تواجه مدينتها الجديدة بمفردها، وصلت للمكان الذي أخبرها عنه في وسط المدينة، كانت المشكلة في إجراء المكالمة الهاتفية، بلغتها المحدودة قرأت التعليمات على اللوحة المجاورة للهاتف عن كيفية إجراء المكالمة، لم تفهمها كليتا و لكن استنتجت أنها تحتاج لعملة معدنية لإجراء المكالمة، ليس معها عملات معدنية و لا تعرف كيف تستبدل من أي محل أو من أحد المارة نقود ورقية بعملة معدنية، ماذا ستقول للناس، هل تستخدم لغة الإشارة؟ الآن تبدو المشكلة بسيطة بل سخيفة لكن وقتها كان الموضوع صعب و معقد، مرت حوالي نصف ساعة على وصولها وهي حائرة، لا تدري ماذا تفعل، قررت الانتظار و عمل لاشيء، بالتأكيد إذا لم تتصل بزوجها سيحضر بعد فترة لمقابلتها، لا تدري لماذا طلب منها الاتصال به من الشارع، يحاول بالطبع تقليل الوقت الذي يبعد فيه عن عمله، لكن هل يستحق الأمر هذا التعقيد، في الواقع بالنسبة له ليس هناك تعقيدا و لكن بالنسبة لها هي بخبراتها المحدودة كان إجراء مكالمة هاتفية بسيطة من هاتف عمومي تحديا فشلت فيه، حيث وقفت تنتظره كان هناك حديقة عامة جلست على إحدى مقاعدها تنتظر، كان الجو باردا بعض الشيء و السماء غائمة، هذا هو جو نوفمبر المعتاد في هذه المدينة مقدمة لحلول شتائها القاسي، طال الانتظار ما يقرب من ساعة على الميعاد الذي يتوقع فيه زوجها وصول مكالمتها، البرد و غيام الجو زادا من شقائها، رأسها منخفضة على صدرها، داهمتها رغبة في البكاء، فجأة و هي تتطلع حولها آملة في وصول الزوج المنقذ . . . لمحته، زوجها كان يطل بحرص من خلف ناصية مبنى بعيد بعض الشيء، كما لو كان يختبئ منها، حولت نظرها بسرعة عنه و هي مندهشة، لماذا لا يتوجه مباشرة لمكان اللقاء المتفق عليه حيث تنتظره؟ لماذا يختبئ و ينظر لها كأنه يتجسس عليها، فكرت أن تلوح له أو تذهب هي إليه لكن سلوكه الغريب دفعها للانتظار، دون أن تلتفت له بوجهها ركزت نظرها على الركن الذي يداري نفسه عنده، من حين لآخر يظهر بحرص و ينظر إليها ثم يختفي، انتابها شعور بأنه يختبرها، كما لو كان يمتحن مدى صلابتها و مقدرتها على التصرف، عذبها هذا الشعور لكنها لا تدرك إذا كان حقيقة أم لا، أخيرا و بعد حوالي ساعة و نصف من القلق و الحيرة جاءها، بدأ سيلا من اللوم و العتاب و التأنيب، حاولت أن تشرح له صعوبة اتصالها به هاتفيا لكنه لم يقبل أعذارها أخبرها بأنها يجب أن تكون أكثر مقدرة على التصرف و أن توجهها لأحد المحال أو لأحد المارة لاستبدال نقود بعملات للهاتف ليس موضوع معقد، لم يقبل أو لم يفهم الحاجز النفسي لمن لا يجيدون اللغة، استمر العتاب و التأنيب حتى وصلا للمكتب الحكومي، أنهى معها الاجراءات المطلوبة بدون تعقيد، و عدهما الموظف المسئول بأنها ستتلقى بالبريد بطاقات الهوية و التأمين الصحي الخاصين بها، خرجا من المكتب و زوجها ما زال متجهما من خيبتها، لم تسأله لماذا كان ينظر إليها من مخبئه دون أن يتوجه لها مباشرة، بدى الأمر لها لغزا لكنها لسبب لا تدريه لم تواجهه، سألها و هما في الطريق إذا كانت تشعر ببرودة الجو، ثم توجه معها لأحد محال وسط البلد و اشترى لها معطفا ثقيلا و قبعة صوفية و قفازا و حذاء يناسب شتاء المهجر القاسي، أخبرها أنه لن يعود لعمله حيث استأذن من مديره للغياب بقية اليوم، توجها معا لمنزلهما و السكون يخيم عليهما، من ناحيته كان صمته نوعا من الاعتراض على خيبتها أما هي فقد منعتها حيرتها و أفكارها المبهمة من الحديث.
وصلا للمنزل، ما أن دخلاه حتى جذبها له و هوى على شفتيها تقبيلا، بيدين قاسيتين خلع عنها ملابسها و ضاجعها، ضاجعها بعنف لم تعهده خلال أسبوع زواجها منه، بعد المضاجعة أخبرها أنهما سيتوجهان لمطعم يعرفه، ارتدت معطفها الجديد و توجها للمطعم، بذلا جهدا محمودا كي يمضيا معا وقتا معقولا.
عادا للمنزل، شكرته على كل مافعله من أجلها ذلك اليوم، و أويا للفراش، ظلت تفكر في أحداث اليوم و دوره فيها: تخليص الاجراءات الحكومية، شراء ملابس الشتاء، مضاجعته الخشنة لها، دعوتها للمطعم، لكن لماذا تأخره المتعمد عن مقابلتها في وسط البلد، أخيرا نامت دون أن تفهم.
تمر السنون، أنجبت خلالهم أولادها الثلاثة، لم تعمل فهي ما يطلق عليها ربة بيت، كان هناك بعض القواعد المتفق عليها بينها و بين زوجها، متفق عليها بدون كلام صريح، عليه أن ينفق على المنزل و يتخذ القرارات الحاسمة بخصوص الأسرة، بينما عليها هي أن تدير المنزل و تعتني بالأولاد و تلبي احتياجاته الجنسية، لم يـُشْرِكْها يوما في القرارات الحاسمة بطريقة جدية، كان بالنسبة لها الزوج و أبو الأولاد، لم يكن أبدا حبيبا و لا صديقا، لا تشتكي فوضعها أحسن من كثير غيرها من الزوجات.
هناك حقائق لا ندركها بعقولنا بطريقة مباشرة، لكنها تحيط بنا و تخيم على حياتنا، تظل كامنة في أعماقنا و لا نجعلها تطفو لحيز الفهم، نشعر بها دون أن نصارح بها أنفسنا، ذكريات ذلك اليوم البعيد . . . أكانت واحدة من هذه الحقائق، هل كانت تلخيصا لما هو آتي، وصفا لباقي حياتها.
ثم لماذا الآن تطفو ذكرى هذا اليوم البعيد، نظرت في ساعتها، توجهت للمطبخ و أحضرت طعامه، دخلت حجرته، كررت الروتين اليومي الذي قامت به خلال السنتين الماضيتين فساعدته على الجلوس في فراشه، أطعمته بيدها حيث رعشة يده تمنعه من تناول طعامه بنفسه، أعطته دواؤه، غادرت الحجرة و هو ينظر لها نظرة مغيبة عاجزة.