بقلم: محمد منسي قنديل
لست من هواة مذيعة التلفزيون ريهام السعيد، لا اشاهد من برامجها إلا التي تثير ضجة وتتسبب عادة في ايقافها، من الصعب تقبل الجانب الفضائحي والحرص على الإثارة ولكني وجدت نفسي متعاطفا معها في ازمتها الأخيرة، بسبب تلك الحلقة التي تجمع بين زوجة صغيرة السن تركت بيتها لتهرب مع عشيقها، واستضافتهما المذيعة معا، ثم استضافت أيضا الزوج الذي كان يبدو مخدوعا، والأب الذي يتظاهر بالغضب، وتمت محاسبة المذيعة هنا كأنها طرف في هذه العلاقة الشائكة، رغم أنها لم تصنع الحدث ولكنها كشفت عنه فقط، وضعته امام كل الذي يغمضون عيونهم حتى لا يروا الواقع، الذين يتحدثون كالببغاوات عن الأعراف والعادات والتقاليد دون ان يعنوا أي حرف منها، ارادت أن تكشف إلى أي مدى تدنت العلاقات الاجتماعية والأخلاقية ليس في القاهرة، العاصمة المفتوحة فقط، ولكن في المدن الإقليمية الصغيرة أيضا.
لوقت قريب لم تكن هذه النوعية من البرامج تقدم على شاشة التلفزيون إلا بتحفظ شديد، مثل البرامج التي تقدم من داخل السجون، خلف القضبان بعد أن يكون المجرم قد نال عقابه وانتهى الأمر، ولكن الأمر اختلف، مع ازدياد الفقر وسط الطبقات الدنيا، لم يعد من الممكن تجاهل ما يحدث في انتظار العقاب، الذي ربما لن يجئ، فالقانون اعجز من أن يطول هذا السلوك المختل الذي يلوث حياتنا من زنا المحارم إلى خيانة الأهل إلى السحر والشعوذة، جرائم من كثرتها خرجت من قاع المجتمع لتطفو على سطحه، تقدم صورة قاتمة تنفي ماتقدمه الشاشات من ماكيتات ملونة وأرقام زائفة عن مصر التي ستصبح قد الدنيا.
ولكن ماذا تكشف عنه الحلقة التي قدمتها ريهام سعيد والتي تسببت في ايقافها؟
أنها حالة فردية، لم يقل أحد أنها ظاهرة كما ادعى قرار الايقاف، تتكون الحالة من عدة مثلثات متداخلة، مثلث تقليدي تكونه الزوجة والزوج والعشيق، ومثلث زنا المحارم من الزوجة والزوج والأب ومثلث التدني الاجتماعي من الجهل والفقر والمخدرات، كلها معا تكون ملامح الصورة التي رأيناها على الشاشة، الزوجة المارقة هي العامل المشترك الذي تدور حوله بقية الشخصيات، فتاة في العشرينات من عمرها، ظهرت دون زينة أو مكياج ولكن بملامح قوية ونظرة مليئة بالتحدي تحمل استهانة من اتخذ قراره وتحمل مصيره، لا تهمها نظرات الآخرين ولا تبال بتهديداتهم، رضيت أن تتبع عشيقها من بلدتها الصغيرة لتضيع وسط زحام القاهرة، وحيدة في معظم الأحيان، بصحبتها ابنتها الشرعية، وفي بطنها جنين آخر غير شرعي، ورغم موقفها الصعب فهي لا تتردد في مواجهة الكاميرا لتدافع عن هروبها من تحت اسر زوجها والحاح ابيها ولتعلن أنها مستمرة في تمردها، والشخصية الثانية هو العشيق الذي قررت الزوجة أن تهرب معه، شاب قوي يتمتع بكثير من الوقاحة، يكبرها بعشر سنوات ويهيمن عليها في زهو من حصل على زوجة رجل آخر رغم أنه متزوج، وهو متأكد أن زوجته الأصلية لن تتركه مهما لعب بذيله، ويدرك أن الزوج الأصلي والأب اضعف من أن يأخذا بثأرهما منه، يتهمه الجميع أنه تاجر مخدرات، وحتى الزوجة الهاربة لا تنفى هذه التهمة تماما، ولكنها تراه كفارس، انقذها من قسوة ابيها ومن محاولاته المستمرة لمعاشرتها أو دفعها لطريق الدعارة، وهناك الزوج، الحلقة الأضعف في هذه المجموعة، شاب ضئيل الحجم من السهل ترويضه والتنمر عليه، يبدو عاجزا أمام الموقف الذي وجد نفسه فيه، لايريد أن يطلق زوجته رغم نشوزها، لا يجرؤ حتى أن ينطق كلمة الطلاق، يعتقد بغرابة أن زوجته لم تهرب منه بإرادتها ولكن العشيق هو الذي اغواها تحت تأثير مخدر ما، وأنها ستفيق وتعود إليه، يسكن في بيت والد زوجته، طائعا وخانعا لكل ما يفعله به الأب، حتى أنه ينام وحيدا في الدور السفلي بينما تنام الزوجة في الأعلى بجانب ابيها لتكون تحت حمايته، وأخيرا هناك الأب ، الرجل الذي كان حتى وقت قريب يمسك بكل خيوط اللعبة، يبدو على الشاشة بملامح شرسة ، يهدد ويتوعد بطريقة جوفاء، يحاول خلفها ان يخفي رغباته المحرمة، يكتشف أن اتهام عشيق ابنته بالمتاجرة بالمخدرات هي مجرد تهمة تقليدية، غير كافية لاستنفار السلطات فيقرر أن يضيف إليه تهمة الإرهاب، يتهم العشيق أنه يقوم بتهريب السيارات والدراجات النارية لمنفذي العمليات الارهابية، ولكننا نكتشف بعد فترة أنه والزوج لا يملكان غير ترديد التهديدات نفسها، ونكتشف أيضا أنهما لا يريدان إلا عودتها رغم كل ماحدث، ربما ليعاودا افتراسها من جديد، و يناشد كل المسئولين للانتقام من اجله وإعادة الفريسة إلى حظيرته.
الوجوه ليست هي التي تتكلم، ولا الكلمات هي التي تعبر، ولكنه صوت الغرائز وقد تغلبت على كل الأصوات، على العقل والمنطق، لم نعد نعيش في مدن ولكننا اشبه بحيوانات داخل غابة مشوشة، تحركنا غرائز الجوع والشراهة والبحث عن المتعة، لا نرفع رؤوسنا حتى ننظر لأبعد من اقدامنا ولا للعالم من حولنا، هذه الحادث فردية، ولكنها تتكرر بصور مختلفة، يحكمها قانون الغرائز وحده، علاقات متفسخة ارتفعت إلى السطح في ظل الفقر وتدني مستوى المعيشة، وتفشت مع انهيار مستوى العملية التعليمية، فالتعليم هو الوسيلة الوحيدة التي ترفعنا من مستوى الحيوانات إلى مستوى البشر المتحضرين، فالأمي مثل الحيوان الاعجم ، تنوب عنه غرائزه، وما فعلته ريهام سعيد هي انها كشفت عن المستوى الخطير التي تدنت إليه مستوى الغرائز، وهؤلاء الذي يظهرون على شاشة برنامجها ماهم إلا دلائل قاتمة على مايحدث في القاع.
ولكن لابد من كلمة أخيرة للصديق والإذاعي القدير حمدي الكنيسي نقيب الإعلاميين..
حجب البرنامج، أي برنامج، لن يصلح الأمور، فقط سيخفي الحقيقة، ومن الغريب أن يكون هذا القرار هو الإعلان الأول عن مولد نقابة الإعلاميين، لم يكن هذا جدير بشخص موهوب مثله ، فهو ليس مذيعا عاديا ولكنه كاتب موهوب، عندما كنا جميعا تلاميذ في ورشة يوسف إدريس كان الكاتب الكبير يلقي بقصصنا جميعا في الزبالة وينصت باهتمام خاص لقصص حمدي الكنيسي، كان كاتبا يلفت الأنظار بحساسية أسلوبه ونظرته الثاقبة، وكنت احسب أنه عندما يكون نقيبا للإعلاميين لا يكون سيفا للمنع ولكن درعا يحمي حرية الراي، لذا استغرب أن يمارس أوائل نشاطه بالمنع والمصادرة، ريهام سعيد لم تخترع شيئا ولكنها فقط كشفت جانبا صغيرا من المسكوت عنه.