بقلم : نعمة الله رياض
هذه هي الجلسة الثالثه في عيادة الطبيب النفسي ، طلبت منه الممرضة الإنتظار في غرفة الإستقبال حتي يحين دوره في الدخول .. جلس علي مقعد وثير يشاهد التلفزيون ويتفرس في وجوه الجالسين معه في الغرفه.. الواضح من وجوههم العابسة إنهم يحملون هموم الدنيا ، تماما» مثلما يحمل وربما هو أكثر .. إستقبله الطبيب بابتسامة ونظر له بمودة وقال :- حكيت لي في الجلسات السابقة عن أسرتك المكونة من والديك وثلاثة من الأبناء الذكور ، أنت أصغرهم ، وان والدتك كانت ترغب أن يكون وليدها الثالث أنثي تسميها شيرين، وعندما ولدتك ذكرا»، أصرت علي تسميتك شيرين !!
وعندما التحقت بالمدرسة الابتدائية المشتركة، نادت المعلمة على الأسماء وعلى شيرين باعتبارها أنثى ، وعندما رفعت أصبعك عاليا» إبتسمت المعلمة وضحك التلاميذ!!
كنت ضعيف البنية هادئ الطباع ، منطوي وخجول لا تتكلم مع التلميذات ، ولا تميل للتحدث بصوت عالٍي ، متفوق في الدراسة ، إختارك المعلم لحل مسألة حسابية علي السبورة واثناء عودتك لمقعدك ، مد أحد زملائك رجلة لتتعثر وتقع علي الأرض وسط ضحك التلاميذ، بينما كان المعلم يكتب علي السبورة ولم يري ذلك .. وحدث مرة بينما كنت تقف وحيدا» في فناء المدرسة في فترة الراحة ، أن أخرجت شطائر أعطتها لك والدتك لتتناولها ، فترصد لك أحد أفراد الشلة وإختطف الشطائر وجري بها بعيدا ليقتسمها مع أصحابه لتقضي باقي اليوم الدراسي جائعا» ، بدون أن تواتيك الشجاعة لتشكوهم أو تحكي لأهلك عما يحدث ، وكنت تعتبر ذلك مزاحا» أو نوعا» من المضايقات البسيطة التي يمكنك تحملها ، أو تجاهلها لكيلا تظهر أمام الناس ضعيفا» ومغلوبا» علي أمرك أو حتي كثير الشكوي!! .. إستطرد الطبيب قائلا :
- لقد توقفنا في نهاية الجلسة الماضية عند المرحلة الثانوية ،فماذا تتذكر منها ؟ – إستمرت تلك المضايقات والإستقواء من بعض الطلبة في الحجرة الدراسية ، ومن هؤلاء جلس طالب علي مقعد خلفي مباشرة، وأخذ يضرب بحذائه أرجل مقعدي مرارا» وتكرارا» ، لكني لم أجرؤ حتي بالإلتفات إليه ومواجهته ، وإكتفيت بتجاهله عسي أن ييأس ويتوقف.. لقد ضاعفت مجهودي الدراسي وتفوقت في تحصيلي العلمي ، وبالرغم من ذلك ، لم أسلم من همساتهم وتحديقهم في وجهي ، وسمعتهم مرة يسخرون من تفوقي في مادتي الأحياء والكيمياء ، لانه بسبب رغبتي في الإلتحاق بالمعهد العالي للتمريض!! يقولوها بضحكات مكتومة ! وفي حصة النشاط الرياضي ، كانوا يستبعدوني من الإنضمام لإي من الفريقين المتنافسين في كرة القدم بحجة أني هزيل وضعيف العضلات ..
حصلت علي درجات عالية في شهادة الثانوية أهلتني للإلتحاق بكلية الطب ، وإجتزت سنوات الدراسة فيها بدون مشاكل تقريبا» ، وتخرجت بتقدير إمتياز ، وبدأت في دراسة الماجستير في تخصص المخ والأعصاب ..
عندما إستدعت القوات المسلحة المؤهلات العليا من خريجي الجامعات والمعاهد العليا لآداء الخدمة الإلزامية ، كنت أنا من ضمن الدفعة التي شملت ، لظروف خاصة ، كلا من المؤهلات العليا والمتوسطة ، أثناء التدريب الأساسي ، كنت أتولي متطوعا» إصلاح محابس وصنابير المياة بالمعسكر وذلك لأجادتي أعمال السباكة ، فأطلقت علي شله من جنود المؤهلات المتوسطة (الجندي السباك شيرين) ، وكنت لا أعيرهم أذنا» صاغية ، ولكن ذات مرة حاول أحدهم أن يدفعني لأسقط علي الأرض ، فتماسكت وسددت له لكمة في وجهه سقط علي أثرها علي الأرض ينزف دما» من أنفه، ففوجئت ببعضا» من زملائه يهجمون علي ويوسعوني ضربا» ..لكني دافعت عن نفسي باقصي ما أستطيع ، صحيح أنني أصبت ببعض الكدمات، لكن أفراد الشلة تراجعوا وتوقفوا بعد ذلك عن مضايقتي.. عقدت العزم علي ممارسة التمرينات الرياضية يوميا» لتقوية عضلاتي ولزيادة الثقة بنفسي.. بعد انتهاء تدريبنا الأساسي، تم إختيار مجموعة من المؤهلات العليا ليؤهلوا كضباط احتياط كنت أنا من ضمنهم، وتم توزيعي فيما بعد برتبة ملازم في سريه طبية تابعة لكتيبة مشاه متمركزة في منطقة صحراوية جنوب القاهرة .. كان معي في السرية ثلاثة أطباء آخرين برتبة ملازم أول ، وكانت النوبتجيات اليلية مقسمة علينا بحيث يبقي إثنين منا في السرية ليلا، ولعدم وجود أماكن للمبيت ، كان يسمح للإثنين الآخرين بالإنصراف لمنازلهم بالقاهرة علي أن يحضرا صباح اليوم التالي للمعسكر ليتسلما نوبتجيتهما بالتبادل ، كان الوصول للمعسكر من القاهرة بالمواصلات العادية صعبا» ولم يتوفر للسرية سيارة لتقلنا من وإلي القاهرة ، وعندما طلبت رئاسة الكتيبة من قائد السرية السماح لي ولزملائي الأطباء بركوب السيارة الجيب المخصصة لإستخدامه ، علي أن يأخذنا وينزلنا في أقرب ميدان في خط سيره ، تقبل ذلك متبرما» .. كان قائد السرية قاسيا» في التعامل مع جنودة وحتي مع الضباط الذين يرأسهم ، ولا أعرف لماذا خصني بكثير من الإستخفاف والإستهانة ، وكان يكلفني بمهام صعبة دونا» عن باقي زملائي الضباط ، وكان ينبهني مشددا» في كل مرة أركب معه السيارة في طريق العودة للقاهرة ، أن أنتظرة في الميدان صباحا» في الميعاد المحدد ، ولن ينتظر هو بعد الميعاد دقيقة واحدة .. وحدث ذات يوم أن ذهبت للميدان قبل الميعاد بربع ساعة وترقبت وصول الجيب ، ولما وصلت فوجئت بها تستمر في السير وبداخلها قائد السرية منكفئا» بوجهه علي الجريدة والسائق ينظر للأمام بوجه متخشب متجاهلا» ندائي المتكرر له .. تابعت السيارة وهي تبتعد فرأيت قائد السرية يطوي الجريدة ويعتدل علي مقعدة .. جززت بأسناني متأكدا» إنه يتنمر علي مستغلا» سلطته .. ذهبت إلي المعسكر بالمواصلات ووصلت متأخرا» أكثر من ساعتين ، وفور وصولي دخلت لمكتب القائد لاشكو سائق سياراته ، فإستدعاه القائد ليسأله فأجاب :- لم أري حضرة الضابط شيرين في مكان إنتظاره يا أفندم .. صرفه القائد فخرج وهو يغالب إبتسامته ! إلتفت القائد لي وقال : - ستعاقب بلفت نظر أيها الملازم شيرين لتأخرك في الحضور !! كان عندي في الماضي رهبة من الرؤساء ، ولكنني تجاوزتها وتظلمت من العقاب عند قائد الكتيبه ، فإستدعي قائد السريه ، ولا أعرف ما تم بينهما ، لكن تغيرت معاملة قائد السرية معي إلي الأحسن منذ ذلك الوقت …
في الجلسة التاليه سألني الطبيب : - وهل حدثت مشاكل بعد خروجك من الجيش؟
- لم تحدث مشاكل تذكر ، اللهم مواقف تحدث عندما أطلب مستندا» بإسمي من جهة ما ، فيسألني الموظف:
- هل عندك تفويض من شيرين لإستلامه ؟
- أنا شيرين !
- بطاقة الرقم القومي من فضلك .. يطلع عليها وعلي وجهي ويقول :
- أنا آسف يا أستاذ ، ويسلمني المستند
- شكرا» ولا مشكلة ، يحدث هذا معي كثيرا»!!
قال الطبيب : - إعلم يا دكتور شيرين أن إسمك أصله فارسي وهو إسم جميل ومعناه حلو المعشر ومرهف الحس ، وهو إسم يطلق علي الذكور والإناث ، فهو إسم مشترك مثل إحسان وإكرام، وبعضهم كما تعرف من المشاهير كالكاتب إحسان عبد القدوس والوزير السابق شمس بدران والفنانة شمس البارودي وغيرهم الكثير ، فلا تخجل من هذا الإسم وإفرض علي الجميع إحترامه عندما يتعاملون معك ..
والآن أعتقد أن هذه الجلسة هي الأخيرة ، هل تشكو من شئ آخر ؟ - نعم يا دكتور ، أحيانا» لا أستطيع النوم وأحدق في الظلام ، وشريط الذكريات المؤلمة يمر أمامي بكل تلك الإساءات التي حدثت لي ، ويفور الدم في عروقي ، وأتمني أن يعود الزمن بي إلي الوراء لأتصرف بطريقة مختلفة لأرد بها علي من تنمروا علي وأهانوني، بل أحس برغبة عارمة وشريرة أن أمارس هذا التنمر والتسلط علي زوجتي وأولادي وعلي الممرضات والأطباء الشباب الذين يعملون تحت رئاستي ، والذين أعلم جيدا» أن لا ذنب لهم فيما عانيته ، فماذا أفعل أمام تلك الهواجس ؟
- لا تفعل شيئا» !! فتلك الهواجس ستختفى مع مرور الزمن ، طالما أيقنت أن تلك الأحداث لا يد لك فيها ، وقد فعلت كل ما في وسعك لمواجهتها ..
- أشكرك يا دكتور علي إهتمامك بي .
- العفو نحن زملاء في المهنة وارجو الا تتردد في الإتصال بي في أي وقت .
غادرت العيادة وأنا أقول لنفسي : - لقد عانيت وقاسيت من التنمر بمختلف أنواعه ، كان كفيلا بكسر القلب وتحطيم الفؤاد ، حتي كان الإنتحار في وقت ما ، هو الملجأ الوحيد الذي يمكن أن ألوذ به ، ثم نهضت واتزنت خطواتي وأصبحت واثقا» من نفسي ، قادرا» علي التعامل مع التنمر ، والآن أفخر أن أسمي شيرين ، وقد أصبحت شخصا» آخر لا يقدر أحدا» علي إيذائه ، وربما أفادتني أمي بدون أن تقصد ، عندما أطلقت علي إسم يطلق في الغالب علي الإناث ، فقدعشت معاركا» متتالية وقبلت التحدي وتفوقت في دراستي وعملي ، واصبحت الآن طبيبا» مشهورا» في تخصص دقيق ، وأتمتع بشخصية يحترمها ويهابها الجميع ..