بقلم: بشــير القــزّي
في مطلع عمري وإذ كنت على مقاعد الدراسة ، كانت العادة أن يلُجَّ الأهلُ على أولادهم للسعي إلى التحصيل العلمي ونيل الشهادات، لأنّ الفَلَاحَ مضمونٌ لخرّيجي الجامعات! والكفاءة تنمو أيضاً مع سنيّ الخبرة وتؤهّل أصحابها لاعتلاء المناصب المهمّة التي تعود بمردود مهمّ على الذين يتبوأونها!
إلّا أن الشهادات وسني الخبرة، في بلدانٍ كبلدنا لبنان، لم تكن كافية للحصول على المركز، ما لم تكن مقرونة بما نُسمّيه “الواسطة”، وهي الدعم الذي يؤمّنه أحد أصحاب النفوذ للمُتقدم، أكان الداعمُ سياسيّ الارتباط أم إداريّ السلطة!
قد نجد العديد من هذه الحوافز المؤهِّلة موجودة في الكثير من الأقطار، إلّا أن ما يتميّز به لبنان يفوق بأهمّيته كلّ الشهادات والخبرات، ألا وهو شهادة الانتماء الطائفي الذي يتقارن مع هويّة الفرد، والذي تتقدّم أولويّتُه على مجمل الكفاءات المطلوبة! والانتماء الطائفي لا يعني الالتزام الديني، وقد يكون الانسان بعيداً عن دينه، إلّا ان تصنيف دينه على هويته يحمي حقوقه (وقد يضرّ بها أحياناً).
في الماضي كان الانتقاء الطائفي يقتصر على عدًّة مراكز سلطويّة، إلّا ان الزمن لعب دوراً في توسيع النطاق على مجمل المراكز وحال دون إعطاء الأفضلية لذوي الكفاءة، وأصبح الانتقاءُ يعتمد على المذهب الديني المُسجّل على الهويّة الرسميّة!
بعد ما سُمِّيَ بثورة ١٩٥٨ بدأ تطبيق قاعدة ٦ x ٦ مُكرّر على المراكز الحكومية ، وذلك بإناطة كلّ وظيفة تابعة للدولة بمذهب ديني معيّن! بين هذه التعيينات تمّ إنهاء عقد مدير الإذاعة اللبنانيّة، الذي كان في عُهدة حليم الرومي ، وتمّ تعيين بديلٍ له مسجّل حسب السجلات الرسمية تحت المذهب الديني المطلوب!
في تلك الأيام، كان الأستاذ إميل ديب أحد الملحّنين المُعتمدين في الإذاعة اللبنانية، وكان يواظب على إنتاج الأغاني والألحان بشكلٍ منتظم! في يومٍ من الأيام، كان الأستاذ ديب متواجداً في الاستوديو يُشرفُ على تسجيل أغنيةٍ من ألحانه ومن كلمات الشاعر الداموري جورج غريّب، وكانت تُنشِدها فتاة تتمتّع بصوتٍ أخّاذ، الى جانب احتفاظها بمظهر متكامل وجميل، وقد وُلدت في البرازيل من أبوين من أصول لبنانية ! لمَحَ الأستاذ ديب أن الضوءَ الأحمر تمّت إضاءته، وذلك يعني الطلب من الإدارة التوقّف عن التسجيل! وإذ كان التسجيل وصل الى منتصف الأغنية، سأل: “هل نُكمل التسجيل ونتوقف بعد ذلك؟” كانت الإجابة بالطلب بالتوقّف الفوري عن تكملة التسجيل! تعجّب الأستاذ إميل ديب من هذه البادرة المفاجئة ، وقد كانت القطعة قد لاقت موافقة أعضاء اللجنة المشرفة كافة، حتى ان أحدهم كتب عبارة إعجاب بيده: “فوق المستوى!”
دخل الأستاذ إميل مكتب مدير الإذاعة الجديد، وكانت المرّة الأولى التي يلتقيه بها! كان أسمر السحنة، معتدل البنية، أسود الشعر، يُحدّق بعينيّ الذي يودُّ أن يُبسط سيطرته على مركزٍ استلمه لتوِّهِ! كان الأستاذ عبد الجليل وهبه، وهو شاعر معروف، جالساً على إحدى الكنبات الجلدية السوداء مقابل المكتب الخشبي الذي يجلس وراءه المدير الجديد، بينما تُغطّي الحائط وراءه مكتبة من نفس اللون الخشبي، وتحوي العديد من كتب الدواوين واسطوانات التسجيل.
وإذ كان يعقدُ حاجبيه، سأل المدير الجديد بنبرةِ السائل وهو يُوجّه كلامه إلى الأستاذ إميل: “هل أنت من كتب الكلمات ؟” أجابه الأستاذ إميل:” لا! أنا من قام بكتابة اللحن، أمّا من كتب الكلمات فهو الأستاذ جورج غريّب!” قال له المدير: أعطني الكلمات!” وإذ كان نصّ الكلمات بيده، قام بتسليمه الورقة. وكانت الأغنية كالتالي:
أمسيات
سكــراتٌ للمُحــــالِ ساهراتٌ في خيالي
عـــلّلتني بالأمــاني في مجالاتِ الجمالِ
إنّها في روضِ حبّي أمسياتٌ للظـــــلالِ
دِنُّها من غير خمـرٍ وأنا عـــفُّ السؤالِ
فليكن يا دهرُ سجنٌ وقيــــودٌ وليــــــالي
غامت الرؤيا بعيني عند أعطافِ الزوالِ
إنّني أحببــتُ وهماً هامَ في دنيا الخيــالِ
لا تلمــني يا زماني ففؤادي في اشتعـالِ
يا حبيبي لا تدعني أبتني فوق الرمــالِ
الأستاذ جورج غريّب
بصوتٍ خشبي، وبإلقاءٍ بعيدٍ عن فنّ قراءة الشعر، أخذ المدير يقرأ كلمات الأبيات الثلاثة الأولى من القصيدة، ثمّ عقّب مستهزئاً: “أهذا يُعدُّ شعراً ؟”
أجابه الأستاذ إميل: إسمح لي يا أستاذيَ الكريم أن أُعيدَ قراءة النص، وأخذ يقرأهُ بحسب أصول قراءة الشعر، وبدا النصُّ جميلاً وذا رونق بديع!
بعد قراءة بضعة أبيات، قاطع المدير الأستاذ إميل سائلاً: “أهكذا يُقرأُ النصّ؟” أجابه الأستاذ إميل قائلاً: نعم! وقد ذكّرتَني يا سعادة المدير بما حدث في إحدى قرى الجبل، واسترسل قائلاً:
بعد ان أوفد والدان ابنهما الى الخارج بقصد التحصيل العلمي للتخرّج بشهادات عالية، وصلت برقيّة من الابن. قرأها الوالد، ثمَّ استشاط غضباً وتوجّه نحو زوجته سائلاً: “أيُرسلُ لنا ابننا أوامرَ بعد أن زوّدناه بمدّخراتنا كافة وقمنا ببيع البقرة الحلوب كي نؤمّن له مصاريف دراسته في الخارج؟” أجابته زوجته: “ماذا قال لك”؟ قال بصوتٍ آمر : “أبي… أرسل دراهم!” طلبت منه قراءة البرقيّة، الّا ان الزوج قال:” أنت لا تُحسنين القراءة مثلي!”
بعد فترة قصيرة من ذلك وبعد ان لاحظت الغيظ الذي ألمّ بزوجها، رضيَ الزوج بتسليمها البرقيّة، وقامت بقراءتها أمامه بصوت دلوع ولطيف: أب—ي! أرس—-ل داراه—م
أجابها وقد انفرجت اساريره:” لمَ لم يكتب هكذا في برقيّته منذ البداية؟”
في تلك اللحظة، وإذ كان الأستاذ عبد الجليل وهبه واقفاً أمام مقعده، أخذ يقَهقه بصوتٍ عالٍ وارتمى على الكنبة من كثرة الضحك!
بعد ذلك توجّه الأستاذ إميل نحو المدير وقال له: بعد كلّ هذه الجهود سألغي تسجيل الأغنية وسأتوقف عن تسجيل أية أغنية لاحقاً!
خرج الأستاذ إميل ديب من المكتب والمدير يناديه للعودة…
(وللقصّةِ تكملة)