قصة قصيرة بقلم: نعمة الله رياض
توقفت سيارة جمع القمامة في موعدها المعتاد كل يوم في الصباح الباكر في الميدان الرئيسي بمدينة 6 أكتوبر بالقاهرة.. نزل عاملا النظافة ليجمعا القمامة المنتشرة حول صندوق القمامة الحديدي وذلك قبل رفعه بالرافعة الهيدروليكية داخل جوف السيارة .. رأي أحدهما حقيبة جلدية ضخمة ملقاه على الأرض خلف صندوق القمامة ، نادي على العامل الأخر ليتفحص معه الحقيبة،
حاولا فتحها لكنها كانت مقفلة.. صاح العامل مناديا على سائق السيارة الجالس على مقعد القيادة لإحضار آداة من صندوق العدد لكسر قفل الحقيبة ، نجحوا في فتح الحقيبة ليجدوا داخلها كيس بلاستيك أسود اللون مغلق بإحكام ، ضغط أحد العمال بأصبعه على الكيس فأصيب بالذعر وصرخ في زميليه بإحتمال إحتواء الكيس على جثة !!!
إتصل سائق السيارة بإدارة النقل التابع لها وأبلغها بما حدث وحدد موقعه ، بعد حوالي ربع ساعة حضرت سيارة الشرطة .. أمر الضابط بفتح الكيس لتظهر بداخله جثة لفتاة في العشرينات من عمرها ترتدي ملابس ممزقة ملوثة ببقع كثيرة من الدماء، وليس معها أو داخل الحقيبة أي مستند أو بطاقة تثبت هويتها طلب الضابط عدم لمس أي شيئ للمحافظة على البصمات ..
نقلت الجثة للمشرحة ، واستدعي المقدم / حسام الرشيدي وزميله الرائد/ عادل إسكندر من إدارة المباحث الجنائية للتحقيق ، أخبرهما طبيب المشرحة بوجود آثار ضرب عنيف بمختلف أنحاء جسمها ، أما الضربة القاتلة فكانت على رأسها لوجود شرخ عميق في الجمجمة وآثار نزيف دموي غزير… طلب المقدم /حسام رفع البصمات الموجودة على الجثة ومتعلقاتها وتحليل الحمض النووي (دي ان ايه) لبقع الدماء ..
شكلت هذه الجريمة لغزا” صعبا” للمقدم / حسام .. فلا توجد أمامه خيوط تؤدي لمعرفة هوية الجثة أو مرتكب هذه الجريمة البشعة.. أشار عليه الرائد/ عادل بتصوير وجه القتيلة وتكليف مرشدي المباحث بالسؤال عنها لدي حراس العقارات واصحاب المحلات في منطقة الحادث بأحياء 6 أكتوبر والهرم والجيزة.. إستمر المرشدون في بحثهم لمدة عشرة أيام بدون نتيجة ، قرر المقدم / حسام بعدها نشر صورتها في عدد من الجرائد الصباحية طالبا الإدلاء بأي معلومات عنها ذاكرا رقم هاتفه المحمول .. كرر النشر بعد ثلاثة أيام ، أخيرا
إتصل به شخص عرف نفسه بإسم كرم النقاش وهو طالب بالسنة النهائية بكلية الزراعة بجامعة القاهرة بالجيزة .. قال كرم :
– منذ حوالي اسبوعين ، كنت واقفا بموقف سيارات الأجرة بميدان الجيزة للعودة لمنزلي من الجامعة عندما إقتربت مني صاحبة الصورة، لا أنسي وجهها أبدا فهي فتاة نحيلة القوام شاحبة الوجه ، لكنه ملفت بجماله الريفي الهادئ ، تلبس ملابس بسيطة ، سألتني عن مكان مستشفي مشهور في السادس من أكتوبر وكيفية الوصول إليه ، سألتها هل ستزور مريضا به، ردت بالنفي وقالت أنها علمت أن المستشفي تطلب ممرضات للعمل بها،لاحظت انها مرهقة وبدت خائرة القوي وهي تتكلم فأدركت أنها جائعة ، أخبرتها إني سأشتري شطائر من المطعم المقابل لموقف السيارات ودعوتها أن تتناول معي بعضها ، وافقت شاكرة وجلست معها على مائدة صغيرة بالمطعم ، علمت أن إسمها إبتسام وهي من قرية قريبة من مدينة الحوامدية بشمال الصعيد وهي حاصلة على دبلوم التمريض وتحضر يوميا للبحث عن عمل بالقاهرة ، سألتها عن عائلتها، قالت إن والدها يعمل مزارعا بالأجر لدي ملاك الأراضي الزراعية وهي أكبر أخواتها الثلاثة .. أنهي كرم حديثه، بأنه أعطاها بضعة جنيهات ووصف لها مكان المستشفي وطريقة الوصول إليه ..
شكره المقدم / حسام ، وطلب منه الحضور لقسم الشرطة لتوضيح بعض التفاصيل بإعتباره شاهدا ، لكن كرم أخبره انه قال كل ما حدث وإنه مشغول بامتحانات نهاية العام، وأنهي المكالمة للتو .
لم يقتنع المقدم / حسام بقصة كرم فأمر بتتبع مصدر المكالمة من الهاتف المحمول لكرم وتوصل إلى عنوان سكنه وحصل على إذن من النيابة بالقبض علية بإعتباره مشتبها به .. تم تفتيش منزله وفي قسم الشرطة ، خضع كرم لتحقيق مكثف إستمر حتي منتصف الليل وتم أخذ بصماته وعينة من دمائه لتحليل الحمض النووي .. وفي النهاية أطلق سراحه لثبوت صدق اقواله وعدم وجود بصماته على الجثة كذلك عدم تطابق حمضه النووي مع أثار الجلد والدماء الموجودة تحت أظافر يد القتيلة لما يبدو أثناء مقاومتها للقاتل .
ذهب المقدم / حسام مع زميله للمستشفي الذي ذكره كرم في 6 أكتوبر وقابلا مدير الشئون الإدارية ، وهناك تأكد أن إبتسام قد قدمت مستنداتها للعمل هناك ،عرف من المستندات عنوان أسرتها بشمال الصعيد ، ولم يتردد في السفر بسيارته على الفور ومعه الرائد/ عادل لمسكن أسرة إبتسام .. كان المسكن متواضعا للغاية ، وواضح أن الأسرة تعاني من شظف العيش ، وأخبره والدها أنه قدم بلاغا للشرطة باختفاء ابنته ، سأله حسام هل له أعداء أو هل يوجد في القرية من الرجال من حاول التحرش بها .. لكن الوالد نفي ذلك قطعيا وقال إن إبنته تحافظ على نفسها ومعروفه بأخلاقها في القرية وإنها تخرج يوميا كل صباح للبحث عن عمل لتكون سندا للأسرة … صرخت والدتها بلوعه وصوت عالي عندما أخبرهم الرائد/ عادل بوفاة إبتسام … أبلغ عادل والد إبتسام بإجراءات إستلام الجثة وأعطاه مع حسام مساعدة مالية من مالهما الخاص …
عاد المقدم / حسام واجما من الزيارة ، فقد انقطعت كل الخيوط التي استخدمها ، حتي الآن ، للوصول إلى الجاني ولاح في الأفق قيد الجريمة ضد مجهول ، لكن منظر عائلة ابتسام المكلومة وحجم المصيبة التي جعلتهم بلا حول ولا قوة ، جعله يفكر في طريقة قد تؤدي يإحتمال أكبر لحل هذا اللغز .. لكنها طريقة مكلفة وقد لا يوافق عليها قادته بوزارة الداخليه ..
إتصل حسام بصديقه الصحفي عصام الدهان وطلب منه الحضور للأهمية .. شرح حسام له أبعاد القضية التي تؤرقه وإمكانية عمل تحقيق صحفي لجعلها قضية رأي عام تثير النقاش والجدل وتطالب المسئولين بوزارة الداخلية بالقبض على السفاح والقصاص منه .. أتت هذه الخطه بالثمار المرجوة ، واستدعي المسئولون المقدم/ حسام وطلبوا منه التوصل للجاني مهما تكلف الأمر ، حينئذ طلب منهم الموافقة على إستدعاء 364 مسجل خطر بمناطق الجيزة والهرم و6 أكتوبر بدعوي تحديث بياناتهم ، لكن الهدف كان إجراء مقارنة لبصماتهم وحمضهم النووي بتلك الموجودة على الجثة ..
إستمرت إجراءات الإستدعاء والفحوص لأكثر من شهر إلى أن حدث تطابق مع المدعو حمادة البرلسي المشهور بالمعلم حمامة وهو موزع مخدرات قطاعي يتاجر بها بحرص شديد مع زبائنه .. ألقي القبض عليه وتم تفتيش مسكنه وعثر فيه على هاتف إبتسام المحمول وبعض متعلقاتها ..
إعترف حمامة بجريمته التي نفذها بحجرته الكائنة بسطح أحد المنازل بمنطقة السادس من أكتوبر بعد مواجهته بنتائج فحص البصمات والحمض النووي ومتعلقات الضحية ..
قال : ذهبت للمستشفي للتعامل مع بعض زبائني، وشاهدت طابورا من الفتيات علمت انه لتقديم طلبات للعمل بالتمريض ، وشاهدت فتاه تخرج من الطابور بعد تقديم أوراقها ، وسمعتها تسأل سيدة عن مواصلة لميدان الجيزه ، طلبت منها السيده العبور للناحية الأخري من الطريق وانتظار الاتوبيس العام .. أثناء عبورها تقدمت منها وإدعيت أن أبنتي تود العمل بالمستشفي وسألتها عن الأوراق المطلوبه ، ذكرت لي المستندات وكيفية التقدم ، لكني أخبرتها أن ابنتي مريضه وملازمة للفراش ورجوتها أن تساعدها في استيفاء الأوراق ، قلت لها اني أعرف مسئولين بالمستشفي سيساعدوها مع إبنتي للإلتحاق بالعمل .. كانت حسنة النية لدرجة السذاجة لتصدقني ، في الطريق إلى حجرتي القريبة من المستشفي عرجنا على محل للعصائر وقدمت لها كوبا كبيرا من العصير لزيادة الألفة .. صعدنا للحجرة ولم تجد فيها إبنتي التي زعمت لها إنها مريضة ، بدأت تنظر إلى بشك ولكني قلت لها لا بد أن شقيقتي حضرت وأخذتها للطبيب ، أخرجت هاتفي المحمول وتصنعت التكلم مع شقيقتي وقلت للفتاة : إطمئني سيحضرا خلال عشر دقائق، لم أضيع وقتا” قلت لها إن زوجتي متوفاه وأعيش وحيدا مع إبنتي وأنها تعجبني وأريد الزواج منها .. إقتربت منها وأخرجت مبلغا كبيرا من المال قلت لها انه مقدم للمهر الذي ساقدمه لأهلها وحاولت تقبيلها ، لكنها إنتفضت واقفة وادركت خدعتي وأسرعت نحو باب الحجرة لتجدني قد أوصدته .. هاجمتها واوقعتها أرضا فخدشتني في رقبتي بأظافرها مما أسال الدماء من رقبتي نهضت من فوقها كالمجنون وتملكتني رغبة هائله فيها ، لكن ويا للعجب رأيت هذة الفتاة النحيلة تهاجمني بعنف بعصا وجدتها بجوار الفراش،تلقيت منها عدة ضربات لكني نزعت منها العصا وضربتها بعنف في جميع أجزاء جسمها ،علا صراخها فخفت أن يسمعها أحد فوجهت إليها ضربة هائلة على رأسها .. أدركت أنها ماتت وجلست بجوارها مذهولا أبكي على ما فعلته تحت تأثير المخدر،وحدث بعد ذلك ما تعرفونه من إلقاء الجثة في القمامة.
جلس المقدم / حسام في مكتبة ومعه الرائد/ عادل ، قال حسام :
– لقد أخطأت إبتسام بسذاجتها وتصديقها كلاما معسولا يعدها بوظيفة ،وذهبت مع رجل غريب لمسكنه ، ولكنها في اللحظة الحاسمة دافعت عن شرفها بشجاعه ، وفقدت حياتها جراء ذلك ، وقد أكد الطبيب الشرعي انها عذراء حتي وفاتها ، غيرها قد تستسلم جراء فقرها وعوزها وتنحدر إلى دوامة موجودة في قاع كل مدينة مزدحمة كالقاهرة يدور فيها محترفوا الإجرام والبغاء والإدمان وغيرها من الرذائل .. وفي أسفل الدوامة يوجد ثقب أسود كبير يمتص كل من ينحدر اليه ولا فكاك منه..
إرتفع رنين هاتفه المحمول ، طلب منه رئيسه التوجه إلى المعادي الجديدة حيث عثر على جثة لإمرأة ترتدي ملابس ريفية في منزل تحت الإنشاء !!
تنهد حسام وقال لعادل : ملعون هو الفقر .. لو كان رجلا لقتلته !!