بقلم: تيماء الجيوش
يُطرح عنوان العلمانية مع إدراكٍ مُسبق أنه موضوع غني بعوامله و تفاعله مع شروطٍ متعددة ومتنوعةو يحتاج الى العديد من الدراسات و التحليل لفهم أبعاده و إدراك مراحله و نتائجه و هو بطبيعته متغير غير ساكن ، ولكن بذات الدرجة هذا لا يعني إغفاله أو النأي عنه فمن الثابت أنه ضرورة لمجتمعاتنا و أمنها و سلمها المحلي و الدولي.
وكي تُفهم العلمانية السياسية والجذب و الشد في ذروته في أيامنا هذه و إستمرار خلاف يطويه خلاف إن كان ثقافي أوديني ، فالعلمانية أولاً تعني في اللغة اليونانية حرفياً الناس بدون رجالات الدين.
و جوهر العلمانية يقوم على أنها تُنهي عن استخدام الدين لأغراضٍ سياسية و تفصل المؤسسات المدنية عن الدينية والحياةالإجتماعية و هكذا.
ليس بالأمر الهين الحديث عنها وظلال الأنقسامات الدينية، المذهبية، الطائفية و السياسية التي أُلقيت بثقلها على عالمنا العربي منذ ما يزيد عن سنين مضت و تحديداً منذ حرب الخليج الثانية لا زلنا نرزح تحت ثقلها في حياتنا اليومية. ليس هذا وحسب ،بل خلط الأوراق بشكلٍ يُرثى له و بعيداً عن المنطق و الفهم العلمي الصحي، تم هذا من قبل أطرافٍ تُمثل مصالح نظمٍ تقليدية عفى عليها الزمن و هي أبعدُ ما تكون عن المدنية و الحداثة، لا يهمها التغيير. على أية حال و لا تُجافى الحقيقة بالقول أن هذا الخلط كان مُتعمداً و بأنتهازيةٍ فاضحة و لأهدافٍ سياسية، حيث تم خلط العلمانية مع الإلحاد ،مع الحفاظ على الهوية،مع تبخر الثقافة و ذوبانها في الثقافة الغربية…..الخ و القائمة تطول في عدة مواضع مما زاد التشنج في زمنٍ من عدم اليقين و الاضطراب السياسي و الامني لجأ فيه العديد من الافراد الى الحياة الروحية كملاذٍ و دعامةٍ لهم تساعدهم على اجتياز ظروفٍ استثنائية لم يعهدوها قبلاً من حروبٍ أهلية الى لجوء و تشرد و نزوح و فقر و اختلالٍ عميق في البنية الأجتماعية الأقتصادية. حدث الخلط و التشنج في وقتٍ نحن بأمسِ الحاجة كمجتمعاتٍ عربية إلى سلمٍ وأمنٍ أجتماعيين في منطقتنا ، نحتاج فيه الى رؤية واضحة نقية لا خلط فيها للأوراق تحت سقف أنتهازية سياسية و استغلال ما تيسر من مخاوف و قلق و ضبابية.
لم يقف الأمر عند حدٍ معين بل جُرِدت العلمانية من قبل تقاطع هام إنسانياًو أخلاقياً و قانونياً و تشريعياً بينها وبين حقوق الانسان.
فالشرعية السياسية مُستمدة من الشعب و ممثليه وليست بحقٍ آلهي أو ديني، و الدولة قانوناً وانطلاقاً من مبدأ السلم الاجتماعي تلتزم بسياسة الحياد و تلتزم بمسافةٍ واحدة عن الاديان و الطوائف كافة، مع احترام ممارسة الشعائر و الطقوس لانها من الحريات الأساسية و هي من مقدمة الحقوق . ربما كانت العلمانية نديةً وبحدة مع الدين خاصةً في بعض المواضع في بعض بلدانِ أوروبا، لكنها في بلدانٍ اخرى كانت علاقة العلمانية متصالحة و متوازنة الى حدٍ بعيد مع الأديان مستندةً الى احترام الحريات والحقوق الدينية، حقوق المرأة، الحقوق السياسية- المدنية، الحقوق الاقتصادية-الاجتماعية. و بالمطلق العلمانية لا تعني الإلحاد. . و بالمطلق لم تشهد أياً من الدول العلمانية الأوروبيةحروباً مذهبية او دينية منذأمدٍ بعيد، بل شهدت المجتمعات الإنسانية ما أفرزه النظام العلماني السياسي ( في وسط و غرب اوروبا تحديداً) من أسسٍ ديمقراطية وترتيباتٍ دستورية أفضت و بنجاح في ظل من التعددية و التنوع إلى التسامح و المساواة السياسية لحقوق الأقليات الدينية . المدنية الاوروبية قادت فلسفتها الى صيرورة تاريخية هي العلمانية . اختلفت العلمانية بحسب توجهها التشريعي، القانوني و الأجتماعي الخاص بها، ففي فرنسا كان النموذج العلماني الذي لا يقبل بأي تدخلٍ أو أعترافٍ للدين في الدولة و هو نموذج استثنائي في أوروبا إن لم نقل العالم، أما في النرويج و السويد فقد تم فصل الدين عن الدولة و بشكلٍ نهائي على التوالي في العامين ٢٠٠٠ و٢٠١٢. بينما بعض الدول منحت مساحاتٍ مهمة للمؤسسات الدينية معترفةً بأحقيتها في مسائل تتعلق بالصحة و التعليم و الاحوال المدنية للافراد من طلاق او زواج او تسجيل ولادات ومنها ألمانيا ، و انكلترا حيث الملك هو رئيس الكنيسة. و بقيت مالطا الدولة الكاثوليكية الوحيدة في اوروبا فهي أي مالطا
A STATE RELIGION.
مجموعة الدول هذه استندت في تنظيم علاقتها مع المؤسسات الدينية على اتفاقيات ناظمة لم تأتِ من عبث و قدمت توازناً يحترم تعهداتها الدولية و دساتيرها المحلية.
العلمانية أكدّت نظرياً و عملياً أن ما يحافظ على التنوع و الاختلاف في الدول الديمقراطية العلمانية هو احترام حقوق الإنسان دون تمييز وهذا من المبادئ الثابتة و لا تفاوض أو أنتقاص منها ، بالأحرى حقوق الإنسان هي أساس أي ميثاق أو تشريع. و دور القانون يأتي متقدماًلقيم الديمقراطية العلمانية الاساسية، فأمام القانون لا تمييز هناك قائم على ولاءات دينية أو أعتباراتٍ طائفية. مساواة سياسية ، أجتماعية ، أقتصادية كل الافراد لهم حقوق المواطنة إبتداءً من الحق في الحياة و الحق في حرية التعبير و الرأي و التجمع وحق التنقل …. الحكومات الديمقراطية تعي تماماً أن علمانيتها تفيد تفاصيلها أكاديمياً و سياسياً ، و الأهم من ذلك أنها تُفيد في فهم السلم و الأمن الأجتماعيين.
في مجتمعاتنا العربية ليس من خافٍ على المهتمين من التناقض الصارخ ما بين مؤيدي الديمقراطية و النظم العلمانية و ما تؤكد عليه من احترام الحريات و الحقوق عامةً و إرساء المساواة دون إزدواجية المعايير و انتقائية، و ما بين مناهضي الديمقراطية و النظم العلمانية و النظر اليها بسلبيةٍ و ريبةٍ بل وأنها قادمة من الغرب فاجتنبوها. رافق ذلك
بعدم تمتع الفريق الذي يدعو للعلمانية العربية بزخمٍ من الوسائل و الامتيازات التي من خلالها تمكنه من شرح العلمانية و الدفاع عنها و تقديمها بعيداً عن التشنج ،كما أن افتقاد التنظيم و المساحة التي تجعل العلمانية تياراً منظماً معترفاً به قانوناً و له وجود مؤسساتي و مجتمعي يعني بمعنى اخر الانتقال من حيز الوجود القيمي( أي قيم العلمانية ) الى الحيز الكمي من تواجدٍ فعلي وفاعل في منظماتٍ و أحزابٍ و أفراد. و لربما هذا سيتيح المجال لحواراتٍ و نقاشاتٍ بين مختلف الاطراف المجتمعية دينية، مدنية …بحيث تُمكّنهم من الاعتراف بهويتهم و مساهماتهم.
هل العلمانية العربية ممكنة؟ ممكنة جداً في حال توفر الشروط و السياسات التي لا تُلقي بالزيت على النار ، بل تلتزم باحترام كرامة مجتمعاتها و حرياتهم الاصيلة. متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحراراً. أسبوع سعيد لكم جميعاً.