قصة قصيرة بقلم : نعمة الله رياض
إستمر ماجد صبحي في تقلبه يمينا «ويسارا» علي فراشة طوال الليل ، دون أن يري طعم النوم ، إنتابه هذا الأرق منذ عدة أيام، تلح أمام عينيه صور لأشخاص مبهمين ،أشباح غير واضحي المعالم ولا يعرفهم ..لم تفد الأقراص المهدئة أو المنومه في التغلب علي هذا الأرق الشديد الذي لا يعرف له سببا» في طريقه صباحا» لمصنع الحديد والصلب جنوب حلوان حيث يعمل به مهندسا» ، عرج علي عيادة المصنع ليشكو من أرقه المزمن ، نصحه طبيب العيادة بالذهاب لمدينة حلوان عند طبيب نفسي مشهور في علاج حالات الأرق .. هناك ، شرح للطبيب حالته .. نظر الطبيب لماجد وقال له:
– لقد تفهمت حالتك والأرق الذي تعاني منه.. عندي علاج مفيد لأرقك الحاد، وقبل أن أعطيه لك يجب علي أن أوضح خلفية لهذا العلاج ،إننا كأطباء نفسيين نلجأ أحيانا للتنويم المغناطيسي لسبر العقل الباطن للمريض ومعرفة ماذا حدث في ماضية ، وعادة يستمر التنويم المغناطيسي مدة قصيرة أقصاها ساعة واحدة ، نستمع فيه لما يحكيه المريض عما حدث في ماضيه .. وبعد إفاقته لا يتذكر شيئا مما قاله .. ولكني حصلت علي درجة الدكتوراة في الطب النفسي من جامعة في هامبورج بألمانيا ، ثم عملت لفترة في مركز أبحاث لشركة انتاج أدوية في ألمانيا ، وما زلت علي علاقة تعاون معها حتي الأن بعد عودتي لمصر .. ما أريد أن اقوله ، أن مركز الأبحاث هذا قام بتصنيع كبسولات تستخدم بدلا من التنويم المغناطيسي وتؤثر في خلايا منطقة بالمخ مختصة بالذاكرة .. ويستمر مفعولها ثماني ساعات يغط فيها الشخص في نوم عميق ويبحر فيه في عقله الباطن ويري فيه بالتفاصيل الدقيقة ما حدث في زمن معين يرغبه الشخص فيركز فيه علي فكرة محددة قبل تناول الكبسولة ، وهذا يسمي في الطب النفسي بالإيحاء الذاتي .. والتطور المثير لهذه الكبسوله أن الشخص يتذكر هذا الحلم بعد أن يستفيق ..كما يمكن ايضا إفاقته في أي وقت خلال الثماني ساعات بواسطه طبيبه أو بمؤثر خارجي قوي ،، سأله ماجد :
– فضلا» هل تشرح لي أكثر كيف أتجول في العقل الباطن بواسطة الإيحاء الذاتي؟
– كما قلت لك ، يجب عليك الإستلقاء علي الفراش والإسترخاء العميق والتركيز علي فكرة محددة وتتناول الكبسولة وتغمض عينيك ، وتستمر في إرسال إيحاءات موجهة للعقل الباطن مباشرة ، فتبتعد تدريجيا عن الواقع الواعي .. ويجب أن تعلم أن هذه الكبسولة تعمل علي زيادة إفراز هرمون الأندورفين الموجود طبيعيا في مخ الإنسان وغدته النخامية ، وهذا الهرمون يعمل علي الشعور بالإسترخاء والراحة والإنتقال بسهولة للعقل اللاواعي الذي يحتوي علي ذاكرة أكبر بكثير من العقل الواعي .
وهنا سأله الطبيب مباشرة : – إذن، هل تريد تجربتها للتخلص من هذا الأرق الذي يقض مضجعك؟ وتتمتع في الوقت نفسه بأحلام تشاهد فيها ما حدث لك في الماضي؟!!
وافق ماجد تحت تأثير رغبته القويه في التخلص من هذا الارق اللعين .
قال الطبيب : – حسنا فعلت لقد اصبحت الأن عضوا في فريق البحث ، عدني بأن تحكي لي كل ما حلمت به، ولأن هذه الكبسولات في مرحلة التجارب، سأعطي لك عدد من الكبسولات مجانا مقابل دراستنا لتأثيرها وآثارها الجانبية .
عاد لمنزله ، في المساء تمدد علي الفراش وتناول كبسولة وفكر في البحر بزرقته الخلابة ورائحته المنعشة .. وأغمض عينيه .. رأي نفسه يسير علي شاطئ القناة والناس يتجمعون في المقاهي حول المذياع وعلي رؤسهم الطير وهم يستمعون لجمال عبد الناصر وهو يعلن في خطاب مباشر علي الهواء تأميم قناة السويس العالميه لتصبح شركه مساهمة مصرية وسط فرحة وتهليل الجماهير .. إقترب من لوحة الأسعار المعلقة في المقهي .. كوب الشاي 10 مليمات ، فنجان القهوة 15 مليم ، كوب ال… يا إلله .. أدرك أنه في زمن آخر غير زمنه .. وبالتحديد في 26 يوليو عام 1956 ..
في الليلة التالية تمدد علي الفراش ، تناول الكبسولة وركز تفكيره في عام 56 ومدينة بورسعيد والقناة وغط في نوم عميق ..
رأي أثناء سيره في الحي الأفرنجي ببور سعيد فتاة جميله عمرها أقل من العشرين عاما ، ، بيضاء البشرة ، ممشوقة القوام، يتدلي شعرها علي هيئة ذيل حصان خلف رأسها ، ترتدي تنوره فوق الركبه وقميص أزرق مفتوح يظهر رقبتها العاجية وتضع طلاء أحمر قاني علي شفتيها حسب موضه الفتيات في ذلك الوقت ..رأي شابين ،يبدو أنهما من خارج المدينه يقضون عطلة الصيف ، يسيرون خلف الفتاة يضايقونها بالفاظ جارحة ، جري نحوهم وزجرهم بشدة ، فابتعدوا.. شكرته الفتاة بلغة عربية لكنتها أجنبية ، فسألها هل هي مصرية ؟ قالت له : لا أنا يونانية إسمي اندريانا وأسكن مع أسرتي في بورسعيد منذ كان عمري عشر سنوات ، أبي يعمل مرشدا» في قناة السويس ولم يترك العمل مع زملائه المرشديين اليونانيين مثلما فعل باقي المرشدين الأجانب بضغط من بلادهم اللذين يعارضون تأميم القناة .
دعته للتعرف علي أسرتها ، وتقابل مع والديها اللذان أبديا ترحيبا به ..
عند مغادرته منزلها ، دعته لحفل عيد ميلادها الثامن عشر ، كان منزلها مزدحما بأصدقائها اليونانين والمصريين من زملاء الدراسه ، أهدي لها سلسلة ذهبيه بها ايقونه للعذراء مريم ، وضعها حول رقبتها فزاد جمالها ..فرحت بهديته ودعته أن يرقص مع الجميع رقصات من الفولكلور اليوناني تشبه رقصات الدبكة السوريه .
أصبح ماجد مجنونا بحلمه مع اندريانا.. لم يعد مهتما بمأكله أو مشربه أو حتي مظهره فقد ترك شاربه وذقنه بدون حلاقة وأصبح شعره أشعث وعيناه زائغتان ، لم يذهب لعمله لأيام طوال ، أصبح كل همه أن يعود للفراش ويتناول الكبسوله ليعيش مع حبيبته اندريانا، وعندما ينتهي مفعول الكبسولة ، لم يكن ينتظر قدوم المساء لينام ،كان يتناول بضع لقيمات علي عجل ثم يسرع للرقاد علي فراشه ويتناول الكبسوله!!
دعاها لحضور العرض الأول لفيلم سمارة لتحية كاريوكا ومحسن سرحان، ومرة أخري لحضور فيلم هوليود الحديث الاسكندر الاكبر المقدوني لريتشارد بيرتون وكلير بلوم.. وكثيرا ما كانا يتنزهان علي ضفة القناة ويجلسان علي قاعدة تمثال دليسبس يأكلان الذرة المشوية واللب والفول السوداني.. أحبها لبرائتها وإنطلاق مشاعرها وضحكتها الطفوليه ، وأحبته لرجولته وشهامته ووسامته ولون بشرته السمراء ..
كان يتمتعان معا بلعب الطاوله في منزلها وكانا يتراهنان قرش منها إذا هزمت وثلاثة قروش منه إذا ربحت الدور ،هكذا كان إتفاقهما !! وكانت تربح غالبا وتضحك بسعادة وتصفق بكفيها مرحا» وكان يقول لها :
– يا شقية ، ستصبحين مليونيرة علي حسابي !!
عصر يوم من الأيام الحارة .. كان يلعب معها الكوتشينه في غرفة الأستقبال ، بينما كان والديها يتناولان الطعام في المطبخ .. فجأه سمعا صراخ والدتها بأن المطبخ يحترق ، اندفعت اندريانا وماجد نحو المطبخ ، لكن النيران والدخان كانا كثيفان لدرجة إنعدام الرؤية .. سمعت اندريانا أمها واباها يصرخان طلبا للنجدة .. لم تستطع اندريانا التحمل حاولت الدخول للمطبخ لكن ماجد امسك بها بقبضتيه ، تملصت بقوه وأفلتت منه واندفعت صارخه تنادي أمها .. صرخ ماجد صرخه هائلة وهو ينادي علي اندريانا .. فتح عينيه وهو يناديها بإسمها ويبكي.. جلس علي الفراش وهو يرتعش ، أحس بألم ولسعة في كفيه نظر اليهما فوجدهما مشوبان بالإحمرار !!..
في اليوم التالي، سافر ماجد إلي بورسعيد وتوجه لإدارة شئون العاملين بهيئة قناة السويس ، سأل مدير الأرشيف عن مرشد يوناني إسمه ستافرو باولوس كان يعمل في فترة تأميم القناة عام 1956 .. بحث المدير في السجلات وأكد له وجود هذا الإسم ضمن المرشدين ، ولكنه قال إنه توفي في سبتمبر عام 1956 هو وأسرته إثر إحتراق سكنه بالكامل ، سأله ماجد ألم يكن بالشقة شاب أثناء الحريق ؟ قال المدير : مذكور هنا فقط أنه عثرعلي جثث المرشد وزوجته وابنته في المطبخ ، وتم نقلهم للدفن باليونان علي نفقة هيئة قناة السويس .. أضاف المدير : إذا كنت ترغب في معلومات إضافية ، سأعطيك عنوان صديق يوناني لستافرو وهو عجوز إقترب من التسعين عاما إسمه خريستوس .. ويدير مع إبنه محلا للبقالة بالقرب من هنا .. قال خريستوس : لقد كانت مأساه حقيقية فلقد كان هذا المرشد محبوبا من أهالي بورسعيد.. تهدج صوته وهو يقول :
– لقد وجدوا الفتاة تمسك بيدها يد أمها وباليد الأخري كانت تقبض علي سلسلة كانت تطوق عنقها .. سأله ماجد :
– هل شاهد أحد شابا يغادر المسكن المحترق ؟
– لسنا متأكدين ، فقد تجمع كثير من الأهالي وقت الحريق للمساعدة في إطفاء النيران.. ولم تسفر التحقيقات عن سبب الحريق المفاجئ ،هل هو حادث؟ أم بفعل فاعل …
في اليوم التالي ذهب ماجد للطبيب النفسي وحكي له كل ما حدث منذ أول كبسولة تناولها وحتي زيارته لبورسعيد ،ثُم تسائل :
– ولكن كيف يعقل هذا ؟ فانا في حياتي لم أذهب لبورسعيد سوي مرتين فقط ولأيام معدودة ولا أعرف شيئا عن أحيائها أو معالمها التي رأيتها في الحلم .. والأدهي من ذلك، لقد كان عمري في الحلم حوالي 25 عاما وإذا أضفنا المدة منذ عام 1956 وحتي الأن لكان عمري في الوقت الحالي أكثر من 85 عاما» .. وانت تعرف يا سيدي إني لم أتعدي الأن 29 عاما!!
طغي الذهول وجه الطبيب النفسي، وحدث نفسه بصوت مسموع:
– هذا تطور غريب لم يكن في الحسبان .. لابد أن أخطر مركز أبحاث الشركه المنتجة في المانيا به ، والتفسير المحتمل لما حدث ولا يمكن تصوره علميا» ، إنك حلمت داخل عقل باطن لشخص آخر عاش في بورسعيد وكان صديقا لأندريانا !! .. عموما لقد إستفدت من تجربتك وسيدرسها مركز الابحاث لمحاوله تفسير ما حدث.. والآن ، هل تود أن تأخذ عددا آخر من الكبسولات لتخوض تجربة جديدة ؟
– لا يا سيدي .. فبعد اندريانا لا أحب أن أحلم بأحد آخر .. !!