بقلم: علي عبيد
مخدوعون نحن، منذ زمن قد نختلف على تحديد بدايته، لكننا يجب أن نعترف بأننا مخدوعون. سوف يقول المكابرون إننا أكبر من أن نخُدع، وسوف يقول الجاهلون إننا أذكى من أن نُخدع، وسوف يقول المتعصبون إننا أصعب من أن نُخدع، لكننا ورب الكعبة مخدوعون. قد نختلف على تحديد اللحظة التي بدأت فيها الخديعة، لكن هذا ليس هو لبّ القضية، لبّها هو أننا مخدوعون.
هناك من يقول إننا خُدِعنا يوم أن قيل لنا إن ثمة ربيعا هبت نسائمه على منطقتنا، وإن زمنا ذهبيا طال انتظارنا له قد أقبل، فاكتشفنا أن هذا الربيع لم يكن سوى خدعة كبرى، بلعناها جميعا، بمثقفينا الذين بشروا بالربيع وانتظروه طويلا، وببسطائنا الذين حلموا بفجر جديد ينتشلهم من التهميش والفقر والقهر، فإذا به يلقي بهم في حضن الفوضى، وأتون الانقسامات والصراعات والأزمات التي آلت إليها أحوال أوطاننا، حتى غدون تتمنى عودة ذلك الزمن الذي بدا جميلا مقارنة بزمننا هذا.
وهناك من يقول إننا خُدِعنا يوم أن قيل لنا إن ثمة ثورات قد قامت لتقضي على الأنظمة التي كانت تحكم بعض دولنا العربية، كي نبدأ عهدا جديدا يقوده ضباط الجيوش الذين أتوا على ظهور الدبابات، مؤكدين عبر «البيان رقم 1» أنهم يعملون لصالح الوطن، وأنهم قاموا بثورتهم من أجل الحفاظ على مكتسباته، وتأييدا لمطالب الشعب المشروعة. لكن الثورات تحولات بعد ذلك إلى دكتاتوريات أشد تسلطا من الأنظمة البائدة الذي ادّعى الثوار أنهم قد انقلبوا عليها لصالح الشعوب، وأصبح الثوار يقبضون على السلطة بكل ما أوتوا من قوة، ويعملون على احتكارها وتوارثها، ويقتسمون المنافع بينهم، ويوزعونها على أبنائهم وأسرهم وأقربائهم.
وهناك من يقول إننا خُدِعنا يوم أن أعلنا الثورة العربية الكبرى على دولة الخلافة العثمانية التي كانت تحتضر في منتصف العشرية الثانية من القرن الماضي، بعد أن وعدنا الحلفاء بمنحنا الاستقلال وإعادة الخلافة إلينا، في الوقت الذي كانوا فيه يتفاهمون، بمصادقة من الإمبراطورية الروسية، على اقتسام بلداننا بينهم، وتوزيع مناطق النفوذ على دولهم، لتكتمل الخديعة باحتلال معظم بلدان أبطال الثورة العربية الكبرى، وفرض نفوذ المحتلين عليها، وقبول الثائرين بالفتات الذي ألقي إليهم، وتشرذمهم حتى ضياع أثرهم، واندثار ذكرهم.
وهناك من يرجع جذور الخديعة إلى زمن أبعد من هذه الأزمنة بكثير، ويستفيض في شرح فصول الخديعة عبر كل مرحلة من مراحل هذا الزمن، مستقصيا صعود الدول وهبوطها، وبزوغ نجم كل دولة وأفوله، منذ الفتنة الكبرى التي أدت إلى مقتل الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وحتى عصرنا هذا، بكل الوجوه التي عبرت خلالها، وكل التحالفات التي أقامها من حكم عبر هذه القرون من الزمن مع الأصدقاء أحيانا، ومع الأعداء أحيانا أخرى عندما اقتضت المصلحة ذلك، مما تزخر به كتب التاريخ ومؤلفات المؤرخين، ولا يتسع له المجال في هذا المقال.
مخدوعون نحن منذ أزمان بعيدة، ننخدع لكل من يعطينا أملا، في زمن لا يؤمن بالآمال وإنما بالأعمال. والذين يخدعوننا اليوم هم أحفاد أولئك الذين خدعونا بالأمس، فلا تصدقوا الذين يحاولون خداعكم مهما حاولوا أن يرتدوا أقنعة الحملان ومسوح الرهبان، لأنهم ذئاب ينتظرون أول فرصة تسنح لهم كي يفترسوكم.
لا تصدقوا الذين يقولون لكم إنهم يقاتلون من أجل الوطن وحفاظا على وحدته، فقد كان الوطن متوحدا قبل أن يأتوا هم إلى السلطة، وكان متوحدا يوم أن كانوا هم يتربعون على قمة السلطة، ويفرضون سيطرتهم على كل حبة رمل فيه، ويحصون على ساكنيه أنفاسهم، لكنهم يسخّرون كل شئ لصالح تثبيت أركان حكمهم، وكل ما عدا ذلك باطل ومحض هراء. لذلك كان تداعي حكمهم سريعا، وكان سقوطهم مدويا، لأنهم لم يقيموا قواعد حكمهم على محبة شعوبهم، وإنما أقاموها على التخويف والترهيب، وعلى أجهزة الأمن والمخابرات التي كانت تعمل لحمايتهم وتهمل حماية الوطن، وعلى المتاجرة بقضايا الأمة المصيرية، وعلى استقطاب من يخدم مصالحهم وأطماعهم وطموحاتهم، حتى أصبحوا أكبر مصائب الأمة وأهم أسباب انتكاستها.
ولا تصدقوا الذين يقولون لكم إنهم يقاتلون من أجل إقامة الخلافة الإسلامية، وإعادة أمجاد الأمة التي أفِلت شمسها، فشمس هذه الأمة لن تظهر على أيدي هؤلاء الأدعياء ولا على وجوههم، لأنهم يقدمون وجها مشوها لها، ويعيدون تمثيل أدوار مثّلها قبلهم كثيرون على مدى تاريخ هذه الأمة المبتلاة بهؤلاء وأمثالهم. لا تصدقوهم حين يقولون إنهم يقيمون حدود الله على الأرض، ولا تصدقوهم حين يقولون إنهم يقتلون لرفع راية الإسلام، ولا تصدقوهم حين يقولون إنهم يحكمون باسم الله، لأن الله هو السلام ومنه السلام، ولأن الله هو العدل ويحب العدل، ولأن الله هو الرحيم ويأمر بالرحمة، أما هؤلاء فلا يحبون السلام، ولا يطبقون العدل، ولا يعرفون الرحمة.
نحن مخدوعون حتى النخاع، لأننا طيبون إلى درجة السذاجة، وهؤلاء يستغلون طيبتنا لتسويق بضاعتهم، والترويج لأفكارهم.
نحن مخدوعون حتى النخاع لأننا حالمون إلى درجة الغفلة، وهؤلاء يتاجرون بأحلامنا لبيع الوهم علينا وجني أرباحهم.
نحن مخدوعون لأننا ضائعون لا نعرف طريقنا، وهؤلاء يقودوننا إلى طرق شتى، ليس من بينها الطريق القويم الذي يوصلنا إلى الغاية التي نريدها.
نحن مخدوعون ورب الكعبة، ومن يظن أنه لم يتعرض للخديعة يوما فهو يخدع نفسه، ومن يخدع نفسه فهو ظالم لها.