بقلم: د. حسين عبد البصير
تهتم مكتبة الإسكندرية العالمية اهتمامًا كبيرًا بعلوم المخطوطات؛ إذ تضم المكتبة بين صروحها العظيمة متحفًا للمخطوطات من أروع ما يكون ومركزًا للمخطوطات يعد من أهم المراكز العلمية في هذا التخصص في مصر والعالم العربي والعالم أجمع. ويعد مركز المخطوطات بالفعل منارة علمية كبرى. وفي الفترة الأخيرة، أصدر مركز الخطوط التابع لقطاع التواصل الثقافي بمكتبة الإسكندرية العالمية دورية علمية سنوية محكمة جديدة وبديعة تحت اسم «علوم المخطوط». ولقد وُلدت هذه الدورية عملاقة منذ البداية.
ويقول المفكر السياسي الكبير والمثقف الموسوعي ومدير مكتبة الإسكندرية الأستاذ الدكتور مصطفى الفقي رئيس مجلس إدارة الدورية مقدمًا هذه الدورية الجديدة :»تستكمل مكتبة الإسكندرية الجديدة رسالة المكتبة القديمة في صناعة ونشر المعرفة وكونها مركزًا للتميز، ومكانًا للتفاعل بين الشعوب والحضارات. ومن هذا المنطلق واستكمالاً لدور المكتبة القديمة يحيي مركز المخطوطات بقطاع التواصل الثقافي تقليدًا رئيسًا كان متبعًا قديمًا… وها هو مركز المخطوطات بالمكتبة الجديدة يُعيد مجدًا تليدًا بإصداره دوريةً متخصصة في علوم المخطوط تهتم بكل ما يتعلق بالتراث المخطوط فهرسةً وتحقيقًا وترجمةً، بالإضافة إلى النُّقود والتعقبات التي تتم ردًّا على دراسات سابقة».
ويقول رئيس قطاع التواصل الثقافي بمكتبة الإسكندرية والمشرف العام على الدورية الدكتور محمد سليمان في تقديم الدورية :»تصدر هذه الحولية التراثية تتويجًا لمجهودٍ شاق، وعمل مضنٍ لمركز المخطوطات استمر على مدار سنوات عدة في العمل بعلوم الكتاب المخطوط والحفاظ على التراث المخطوط، ولا يخفى على المتخصصين أنَّ علوم المخطوط العربي لا تزال بحاجة إلى الدراسة والبحث الدقيق، وأن الحفاظ على المخطوطات به من الجهد والمشقة ما لا يُستهان به».
ويقول مدير مركز الخطوط ورئيس تحرير «علوم المخطوط» الدكتور مدحت عيسى في افتتاحية العدد من الدورية :»وقد جاء العدد الأول مناصرًا لآمالنا في أن تكون موضوعات العدد متنوعةً، وبلُغتين على الأقل (العربية، والإنجليزية)، وقد آثرنا أن تكون الملخَّصات جميعها باللغتين العربية والإنجليزية؛ حتى يقف القارئ غير العربي على محتوى البحوث العربية.»
وتضم الهيئة الاستشارية لتحكيم هذه الدورية كوكبة من العلماء المتميزين في تخصصاتهم في مصر والعالم العربي والعالم. ويضم العدد الأول من دورية «علوم المخطوط» عددًا متميزًا من الأبحاث في الأبواب التالية: الدراسات الكوديكولوجية ودراسات التحقيق والفهرسة والمتابعات والأعمال النقدية ودراسات منجز الشخصيات التراثية ودراسات بلغات أجنبية لمجموعة من الباحثين المصريين والأجانب.
وجاء بحث د. سامح فكري البنا، أستاذ الآثار والفنون الإسلامية المساعد بقسم الآثار بكلية الآداب بجامعة أسيوط، تحت عنوان «علم الجمال وعلاقته بفنون الكتاب المخطوط: تطبيقًا على نماذج جديدة منتقاة من المخطوطات الإسلامية». ويهدف الباحث من خلال دراسة هذا الموضوع توضيح الرابط بين علم الجمال – وهو علم فلسفي يبحث في شروط الجمال ومقاييسه ونظرياته فضلاً عن تفسيره طبيعة الجمال تفسيرًا فلسفيًا – وفنون الكتاب المخطوط. وهي تلك الفنون التي ازدهرت بشكل كبير خلال العصور الإسلامية، وأنتجت تراثاً هائلاً من المخطوطات الإسلامية ذات جماليات واضحة. وانتهت الدراسة بالخاتمة التي تضمنت نتائج الدراسة، فضلاً عن نشر ستة عشرة لوحة منها ثماني لوحات تنشر لأول مرة في هذه الدراسة
وجاءت دراسة جُنُفيَف أُمبير «الورق غير ذي العلامة المائية المستخدم في الشرق الأدنى حتى سنة 1450 ميلادية (853 هجرية): محاولة تصنيفية» بترجمة د. محمد عبد السميع لتركز على الأوراق الموجودة في المخطوطات المنسوخة حتى سنة 1450 ميلادية (853 هجرية) والمحفوظة في مجموعات المكتبة الوطنية الفرنسية، خاصةً المخطوطات العربية والفارسية. وقد سُمِح باستخدام اثنى عشر نوعًا من الورق، أتاح اثنان منهما بالفعل وضعَ فرضياتٍ جادة حول مكان تصنيعهما والمدة الزمنية لاستخدامهما؛ إذ نجد أحدهما في الغالب في المخطوطات المنسوخة في مصر (سواء المخطوطات الإسلامية أو المسيحية) بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر للميلاد (السادس والثامن للهجرة). أما النوع الآخر الذي لم يسبق أن اُستدلَّ عليه إلى الآن، فيدخل ضمن العديد من مخطوطات المكتبة الوطنية الفرنسية، تلك المنسوخة في بلاد فارس وأذربيجان ما بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر للميلاد (الخامس والسادس للهجرة).
وجاء بحث البروفسور بيتر بورمان «فهرسة المخطوطات العربية في عصر الرقمنة: تجارب مانشستر الأخيرة، وخوارج النص نموذجاً» بترجمة د. حمود عبيد لتوضح أن انتشار التقنيات الرقميةَ يَعِدُ بإحداث ثورة في عالم فهرسة المخطوطات. وتتزامن هذه الثورة مع تحول في اهتمام الدارسين الذين غدوا يوجهون المزيد من اهتمامهم إلى الجانب المادي والملموس للمخطوطات؛ بحيث أصبح المخطوط بذاته ساحة للدرس والنقاش. غير أن هذه التطورات سوف تؤثر في مجال دراسات المخطوطات العربية، ولكنها في الوقت نفسه تطرح على الساحة تحديات وأسئلة عميقة. فعلى سبيل المثال، ما النقاط الأساسية التي ينبغي تضمينها في مداخل الفهارس؟ وما معايير بيانات التعريف (metadata) التي يجب أن تُعتمد؟ وكيف لنا أن نضمن التوافق والقدرة على العمل المشترك بين المعايير والأنظمة الرقمية المختلفة؟
وفي هذه المقالة يقدم الباحث رأيه في هذه القضايا من خلال خبرته الشخصية في السنوات الأخيرة، بدءًا من المشروع المموَّل من المجلس الأوربي للدراسات والذي كان يهدف لدراسة «الشروح العربية على كتاب الفصول لأبقراط»، وانتهاءً بالمشروع الأول لفهرسة المخطوطات المكتوبة بالأحرف العربية في مكتبة بايليو في جامعة ملبورن الأسترالية. وفي هذا السياق يقدم ملخصًا للطريقة التي اتبعها في اعتماد الأسلوب الحديث في إنشاء فهارس المخطوطات والمسمى بـ«مبادرة ترميز النصوص» أو ما اصطلح عليه بالاسم المختصر «متن» بعد مقارنته بطرق الفهرسة الرقمية الأخرى الموجودة على الساحة. كما أنه يسلط الضوء على قاعدة بيانات جديدة مختصة بخوارج النص في المخطوطات العربية والإسلامية، وهي قاعدة بيانات ELEO التي عمل على إنشائها البروفسور فريديريك بودان وفريقه في جامعة لييج البلجيكية. وفي الختام يتحدث في نظرة مستقبلية عن كيفية الاستفادة من هذه الفرص والتقنيات الحديثة في مشاريع مستقبلية كمشروعٍ لدراسة تراث كتاب «القانون في الطب» لابن سينا من وجهة نظرٍ تدرسُ النص والمخطوطات في آنٍ معًا.
في بحثه «اتجاهات التأليف في علم تحقيق النصوص التراثية ويقول الدكتور خالد فهمي بكلية الآداب بجامعة المنوفية
في التقاليد العربية المعاصرة: دراسة استكشافية للخرائط المعرفية» إن الدراساتُ الاستكشافية تمثل نقطةَ انطلاقٍ تأسيسية لها وجاهتُها ومعقوليتُها عند إرادة خدمة حقل معرفي يروم ميلادًا جديدًا. وهذه الدراسة تلوذ بالرؤية الاستكشافية؛ لأنها تؤسَّسُ على فرضيةٍ تأسيسيةٍ تقرر أن علم تحقيق النصوص في التقاليد العربية المعاصرة في نسخته القائمة منذ جيل الرواد نهض بواجبه، وينتظر تحولاً استراتيجيًّا في المستقبل يتوجه إلى نسخةٍ إحيائيةٍ جديدة تستهدف: سدَّ الثغرات التي كشف عنها فحصُ أدبيات تحقيق النصوص التنظيرية لجيل الرواد. وتسعى هذه الدراسة لرسم خريطة عامة وتفصيلية تعكس طبوغرافية التنظير في علم تحقيق النصوص في الثقافة العربية المعاصرة. وقد سلكتْ الدراسة لإنجاز هدفها مسارين هما: رسم خرائط إدراكية أو معرفية للاتجاهات التأليفية وتحليل مكوناتها ووظائفها، واستقراء الاتجاهات والأدبيات المندرجة تحت كل اتجاه؛ في محاولةٍ للتوصل إلى تصوراتٍ مستقبلية لهذا العلم، ومساراتٍ لتطوير بحوثه ومسائله.
ويقول الدكتور عبد الله يوسف الغنيم في بحثه «كتاب المسالك والممالك لأبي عبيد البكري: بين نشرتين» إن كتاب «المسالك والممالك» لأبي عبيد البكري يعد من أهم المصنفات الجغرافية والإقليمية في التراث العربي، وقد تضمن كثيرًا من النصوص التي انفرد بها عن بقية الجغرافيين العرب، وبخاصة ما يتعلق بالجزيرة العربية ومصر وشمال أفريقيا وأوروبا. ومن أجل ذلك اهتم كثير من الباحثين العرب والمستشرقين به ونشر أجزاءً متفرقة منه منذ أواخر القرن التاسع عشر. ثم طبع في نشرتين كاملتين؛ الأولى في تونس بتحقيق المستشرقين «فان ليوفن» و»أندري فيري» والثانية في بيروت بتحقيق جمال طلبه، والأخير قد اعتمد اعتمادًا كليًا على طبعة تونس دون أية إشارة. ويتضمن هذا البحث دراسة نقدية للنشرتين المذكورتين في ضوء ما توافر من المصادر المخطوطة والمطبوعة التي لم يطّلع عليها المحققون. والهدف من هذه الدراسة هو بيان ما وقع فيه المحققون من تحريف شنيع لأسماء المواضع الواردة في الكتاب، ورغبة في التنبيه على تلك الأخطاء كي لا يتلقفها الباحثون بالتسليم بها اعتمادًا على كون النص محققًا من أساتذة يحملون درجة علمية رفيعة.
ويوضح د. عماد حسن مرزوق مدرس الدراسات الإسلامية كلية الآداب بجامعة المنوفية في بحثه «جهود الإمام الكوثري في تحقيق التراث الإسلامي» أن الإمام محمد زاهد الكوثري أحد كبار محققي التراث الإسلامي، أسهمت تحقيقاته في إحياء عدد كبير من المخطوطات النادرة، وقد رسخت تحقيقاته القواعد العلمية في التحقيق حيث تميزت تحقيقاته بجمع النسخ الخطية، ومقابلتها، وإعداد المخطوط للنشر، والتعليق عليه بالتعليقات العلمية الرصينة التي تبلغ في بعض الأحيان ما يعد رسالةً أو حاشية كاملة. وكان الكوثري رائدًا في الدعوة إلى إنشاء لجان علمية في عواصم البلاد الإسلامية لتحقيق التراث الإسلامي ونشره، وقد ألزم الكوثري نفسه بتحمل عبء هذه الأمانة، فاجتهد في تحقيق نوادر التراث الإسلامي في علومه المختلفة من العقيدة والفرق وعلم الكلام والفلسفة والحديث الشريف وعلومه والفقه وأصوله والتاريخ والتراجم.
ويقول الأستاذ خالد محمد عبده في بحثه «آثار شمس الدين الديلمي المخطوطة» أن هذه المقالة تروم التعريف بشخصية صوفية غابت عن اهتمام الباحثين المسلمين والمستشرقين على حد سواء، ولفت النظر إلى عطائها في التراث الصوفي الإسلامي، فقد تميّز صاحبها بذاتية وإبداعية في كتاباتها يحسن التوقف عندها وقراءتها والتعريف بها، فمنذ أن كتب أرثر آربري مقاله عن أعمال الديلمي لم يُكتب عن الديلمي سوى مقالين في اللغة الإنجليزية ومقالة في اللغة الفارسية كما لم ينشر في حتى اليوم أي عمل من أعمال الديلمي نشرة علمية؛ لذا تأتي هذه المقالة كمقدمة تعريفية بأعماله، للاهتمام بها والعمل عليها.
ويوضح الباحث المتخصص في الدراسات الإسلامية د. فيرنر شفارتز في بحثه «التاريخ قبل الإسلام: مخطوط لابن خلدون» أنه متى وجدت نسخٌ خطية لعملٍ تراثي ما، عكفَ مؤلفُه على فترات زمنية متلاحقة على تطوير أفكاره من خلال نسخه المتعاقبة، فقد تُلقي تلك النسخ الضوء على منهج نشوء ذاك المؤلَف. وهذا هو الحال مع نسخ خطية ثلاث لكتاب «العبر» لابن خلدون الذي يتناول فيه تاريخ العالم القديم. ومن ثم تم العمل على تتبع تاريخ إحدى هذه المخطوطات ودراسة علاقتها بالنسختين الآخريين من خلال الوقوف على بعض النماذج المختارة منها لتبيان انعكاس تطور فكر المؤلف في ثناياها. كما عمل على الإجابة عن التساؤلات المتعلقة بزمن التأليف: هل يمكن تتبع التواريخ المرتبطة بالمخطوطات الثلاث وترتيبها ترتيبًا زمنيًا؟ وهل يمكن الحديث عن مسودّة المؤلِف بوصفها النسخة الأم التي تم النقل عنها، أم أنه من الوارد أن ابن خلدون عمل على عدة نسخ من وقت لآخر؟ إن غاية هذا البحث هو بيان ضرورة عدم قصر دارسات المخطوطات على الجوانب الكوديكولوجية وحدها.
وفي النهاية، أتوجه بعظيم الشكر وجزيل التقدير لكل القائمين على أمر هذه الدورية المهمة «علوم المخطوط» والتي تعد إضافة حقيقية للمكتبة العربية والعالمية في علوم المخطوطات والتي أصدرتها مكتبة الإسكندرية العالمية صاحبة الإنجازات التراثية والإبداعية والثقافية الكبرى عبر العصور الأزمان قديمًا وحديثًا.