بقلم: د. خالد التوزاني
من الواضح أن الثقافة العربية الإسلامية، لا تتعلق بحصيلة الإبداع في الفكر والآداب فحسب، وإنما تشمل حقول الصنائع والأعمال اليدوية، وأيضا مظاهر الحياة الاجتماعية في أبعادها المختلفة، ذلك “أن الثقافة ليست مجالا واحدا، بل مجالات عديدة، والأمم تتفاضل في نصيبها من هذه المجالات” ، ولا شك أن الثقافة العربية الإسلامية تشكل ثروة لامادية مؤهلة للإسهام في نهضة البلاد العربية، وتقديم حلول لواقع معقد، يتسم بالتشابك بين تيارات وافدة وثقافات دخيلة، والجدير بالذكر أن تلك الثقافات الوافدة في سياق الحداثة والانفتاح وثورة الاتصال تجد من يدعمها ويقويها ويحميها، في حين تظل الثقافة العربية الأصيلة تصارع لوحدها داخل هذا الخضم، ولا تجد من يساندها أو يرفع لواء كشف كنوزها وذخائرها.
إن الصراع اليوم بين الثقافات في عالم الإعلام والانفتاح الكوني على كل المجتمعات يعمل على إضعاف بعض الثقافات وإبراز أخرى بحسب حجم الاهتمام وتسليط الأضواء، وقد تنقرض بعض الخصوصيات أمام زحف الكونية وتيارات قادمة من أقصى الشرق أو الغرب، ولا شك أن الثقافة العربية الإسلامية في الوقت الحاضر تعيش وضعا يحتاج لمن يشخِّصُه بموضوعية والتزام بعيدا عن أي خلفية سياسية أو إيديولوجية أو نفعية ضيقة، ونستطيع القول إن الحديث عن الثقافة المغربية هو نفسه أحد التحديات الكبرى التي تواجهها هذه الثقافة من أبنائها قبل أن تصطدم بالآخر البعيد.
كثيرا ما أساء بعض المثقفين العرب إلى الثقافة العربية، ربما بوعي أو بغير وعي، من خلال ما يكتبونه أو ما يصرحون به، ولعل هذه الإساءة غير المقصودة راجعة بالأساس لعاملين اثنين، يمكن إجمالهما في “الجهل بالثقافة العربية” و “الانبهار بثقافات وافدة” مع ما يترتب عن هذين العاملين من آثار ونتائج تكشف عن جزء من مأساة المثقف العربي وأزمته، ويمكن أن نفصّل القول في هذين العاملين من خلال الآتي:
أولاً: الجهل بخصوصيات الثقافة العربية الإسلامية
إن جهل بعض المثقفين لما تتضمنه الثقافة العربية الإسلامية من رصيد ضخم من الحضارة الإنسانية في أبهى حللها، في كل حقول المعرفة ومجالات الإبداع وميادين الحياة، يجعلهم لا يولونها الاهتمام الكافي، على الرغم من أن هذه الثقافة قد شكَّلت ذلك الاستثناء الحضاري عبر التاريخ في تفردها وتميزها بخصائص في الفكر والمنهج عن كل ثقافات العالم الأخرى. هذا التفرد والاستثناء الذي يطبع الثقافة العربية الإسلامية يمثل جزءا من النبوغ الإسلامي على مر العصور والأزمنة، ويفسر ريادة العرب المسلمين عبر تاريخهم الطويل الحافل بالمنجزات الكبيرة في العلوم والآداب والعمران والحضارة، وهو رصيد ضخم من الإنجازات التاريخية لم يتم استثماره بعد في تحولات المجتمع العربي ضمن السياق المعاصر وخاصة أمام تأثيرات ثقافات وافدة غريبة عن البيئة الإسلامية، الشيء الذي يجعل بعض الشباب العربي في حيرة وارتباك وقد يُعرّض هويته للمسخ والتشويه.
إن مَنْ صنع هذه الثغرة، هو ذلك “المثقف العربي” الذي لم يكلف نفسه عناء البحث في ثقافته الإسلامية فيطّلع على رصيد حضارة أمته ليعرف ملامح هويته الأصيلة وتجليات القوة في تراثه وتاريخه، فيعمل على كشف أبعاد هذه الثقافة وامتداداتها في الواقع العربي والعمل على استثمارها في أعماله الثقافية.
إن من يتأمل المشهد الثقافي العربي يدرك من الوهلة الأولى دون حاجة لكثير من الوقت أن جهل المثقف العربي بثقافته الإسلامية هو جزء من أزمة هذا المثقف، وخلل في الرؤية وقصور في المنهج وفقدان لبوصلة تحديد أولوياته، فحديث بعض المثقفين عن تهميشهم وعدم دعم “إنتاجاتهم الفكرية والإبداعية” وتبخيس دورهم.. وغير ذلك من سيل شكواهم وسرد تذمرهم من واقع الثقافة في البلدان العربية، إنما هو حديث يكشف لكل متأملٍ في المشهد الثقافي بهذه البلدان عن الوجه الآخر للمثقف العربي، وهو “عجز اندماج” بعض المثقفين في سيرورة الثقافة الإسلامية وخصوصياتها، حيث يغيب البعد الديني وكذلك البعد الوطني في كثير من الاجتهادات الفكرية والأدبية، بل المؤسف حقاًّ أن نجد بعض الأعمال التي تسيء للثقافة العربية الإسلامية من حيث لا تشعر، وخاصة عندما تستحضر بوعي أو بغير وعي ذلك الانبهار الملفت للانتباه بثقافات أخرى بعيدة وافدة، لا لشيء إلا لأن مجتمعاتها حققت رخاءً ماديا وحرية مزعومة في الاعتقاد والانتقاد.
إن المثقف العربي المعاصر عندما يلعب دور الضحية ويشرع في لوم المسؤولين عن تدبير سياسة الثقافة في البلاد العربية، يكون لومه في الحقيقة مجرد تخلص لا واعي من المسؤولية الذاتية الملقاة على عاتقه والتي لم يتمكن من الوفاء بها، وكذلك تقصيره في المجهود الثقافي الذي ينبغي أن لا يكون مرتبطا بأي وجه من أوجه التقدير أو الاهتمام، فالعلم والأدب خير شرف لصاحبه وخدمةُ الوطن والأمة الإسلامية مقامٌ شريف لا يعرف قدره إلا من عرف قدر بلده وما في وطنه من خير وصلاح وفضل، بهذا ترتقي الثقافة في الأوطان ويفرح الناس بالمثقف.
ثانياً: تبخيس الثقافة العربية الإسلامية
قد يكون وراء تبخيس بعض المثقفين العرب لثقافتهم الإسلامية دون وعي منهم، ذلك الانبهار بالثقافات الأخرى الوافدة من الشرق والغرب، والإعجاب المبالغ فيه بما عند الآخر البعيد، على الرغم من أن الرصيد الحضاري لأمة الإسلام يتضمن على مستوى الثقافة والعلم أفضل مما عند ذلك الآخر، على الأقل خلال بعض العصور الذهبية من حياة المسلمين، فنجد اليوم بعض المثقفين العرب –للأسف- يبحثون عن أفكار جديدة في ثقافات بعيدة لا تمت بصلة للبيئة العربية وذلك من أجل إثبات اجتهادهم، وإنْ تحرَّكَ بعضهم بدافعٍ طيب ورغبة صادقة في إغناء الثقافة العربية والإسهام في انفتاح العرب والاستفادة من الثقافات الأخرى في سياق التثاقف وحوار الحضارات، إلا أن أعمالهم تظل بعيدة عن اهتمامات المتلقي والقارئ العربي فيعزف عن قراءتها ومتابعتها وقد ينتقدها فينتقد من ورائها ذلك المثقف الذي لم يعرف كيف يستفيد من ثقافات الآخر في دعم الثقافة العربية الإسلامية وترسيخ الهوية وبناء الوطنية، لأنه لا يكفي الاقتباس من الآخر بل ينبغي معرفة ما يحتاجه سياق الأمة الإسلامية في الوقت الحاضر، وألا تكون الغاية هي لفت الانتباه وإمتاع القارئ العربي بالجديد والغريب والعجيب، في سياق الترفيه وتزجية أوقات الفراغ والتخلص من ضغوطات الواقع، بل المطلوب تقديم حلول إبداعية جديدة لمشكلات هذا الواقع وتحولاته، وتأكيد الارتباط بالدين والهوية والتاريخ والحضارة الإسلامية في أبعادها المشرقة وتجلياتها الريادية التي صنعت كفاءة الإنسان المسلم ونبوغه في مختلف حقول المعرفة والعلم والإبداع.. حتى يشعر القارئ العربي بقيمة هذه الثقافة وجدوى الاستمرار في البناء الحضاري للأمة الإسلامية، وليس الإحساس بالغبن والألم والحرمان كما تحاول تكريسه بعض الأعمال الثقافية لمثقفين عرب لم يدركون قيمة ما عندهم فلهثوا وراء ما عند الآخر وبذلك فقدوا صلتهم بالتاريخ والهوية، وجاء إنتاجهم بعيدا عن الواقع العربي.
وأخير، على المثقف العربي المعاصر أن يمتلك الجرأة لمراجعة الذات وسؤال النفس وتقويم الحصيلة وقراءة الحاضر وفق معطيات حضارية جديدة لم ينتبه إليها من قبل، ولعل عامِلاَ الجهل بالثقافة العربية الإسلامية إلى جانب الانبهار بالثقافات الأخرى، قد شكَّلاَ عائقا أمام كل طموح نحو تخليق الفعل الثقافي العربي وتحديث آليات الفكر والمنهج والارتقاء بوضع الثقافة والمثقف في عالم ينزع نحو الكونية ويلتهم الخصوصيات ليقبر كل الحضارات المنافسة له.
هكذا، نستطيع التأكيد على أن موقف المثقف العربي من ثقافته الوطنية وثوابت أمته الإسلامية، ينبغي أن تصدر بعفوية وتلقائية تعبّر عن صدق الموقف ورسوخه وثباته، وليس “نفاقا اجتماعيا” لانتزاع الاعتراف أو إثارة الانتباه، خاصة وأن رسالة المثقف في المجتمع الإسلامي تعد غاية في الأهمية لما يُناط به من أدوار تنويرية ومواقف حكيمة تعكس ما يحمله من علم وأدب، فهو جندي مجهول يحرس قيم الوطن ويرعى ثقافته وهويته ويدافع عن خصوصياته طواعية وحبا، لا تكلّفا أو تزلّفا، وإنما يوجّهه ضميره الحي ووعيه بقيمة ما يفعل، فيمارس رسالته السامية بثبات وعزيمة.
جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- يشكو إليه عقوق ابنه؛ فأحضر عمر بن الخطاب ابنه وأنَّبَهُ على عقوقه لأبيه، فقال الابن: “يا أمير المؤمنين، أليس للولد حقوق على أبيه؟. قال: “بلى”. قال: “فما هي يا أمير المؤمنين؟”. قال: “أن ينتقي أمه، ويحسن اسمه، ويعلمه الكتاب، أي: القرآن”. فقال الابن: “يا أمير المؤمنين إنه لم يفعل شيئـًا من ذلك؛ أما أمي فإنها كانت لمجوسي، وقد سماني جعلاً -أي: جعرانًا-، ولم يعلمني من الكتاب حرفـًا واحدًا”!. فالتفت أمير المؤمنين إلى الرجل، وقال له: “أجئت إليّ تشكو عقوق ابنك وقد عققته قبل أن يعقك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك؟!”.
وكأن التاريخ يعيد نفسه، لكن بشخوص ووقائع أخرى وفي سياق مختلف، مع عبرة واحدة وفائدة مستنيرة في ما حدث، حيث ينطبق الأمر نفسه مع المثقف العربي باعتباره أباً مزعوما لمشهد ثقافي في الحاضر يتنكر لبعض آبائه ولا يبر بهم، فيسيح الأب/المثقف العربي في الأرض شاكيا عقوق ابنه/المشهد الثقافي العربي، وينسى المسكين أنه قد عقَّ ولَده قبل أن يعقه هذا الأخير.. فهل يمكن للمثقف العربي أن يكفِّر عن خطيئة العقوق والوفاء لوطنه وهويته بالعودة لاحتضان ثقافته والإنصات لحضارة أمته؟ تلك معادلة الارتقاء بالمثقف نفسه عبر الانكباب على قراءة التراث العربي الإسلامي قراءة جادة تحيط بكل عناصر النهضة والتجديد وتبحث عن ممكنات التوظيف في السياق الجديد، إثباتا للنبوغ العربي في كل مجالات الحياة، وبعثا لمقومات النهضة العربية المعاصرة، وبذلك يمكن للمثقف العربي المعاصر أن يتجاوز أزمته التي هي – في الواقع- أزمة هوية، فيحقق الارتقاء بذاته ثم محيطه، من خلال الإحاطة بمجمل خصائص ثقافته وهويته، واستثمار الرصيد الحضاري للأمة الإسلامية في أعماله وإنجازاته الثقافية.