بقلم: د. خالد التوزاني
رفع الإسلام من شأن المرأة وقيمتها، وأحاطها بهالة من التقدير والإكبار، وحث على حسن رعايتها وتعليمها، وقد حفلت كتب التاريخ والطبقات بذكر جملة من النساء العالمات والأديبات والمحدثات ونوابغ في كل علم وفن. وفي مقدمة النساء العالمات، أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وخاصة السيدة عائشة رضي الله عنهن جميعا، وذلك لما روي عنها من فقه وحديث وفتوى، حتى لقد روي عنها ألفان ومئتان وعشرة أحاديث، بينما لم يرو عن أبيها رضي الله عنه إلا مئة واثنان وأربعون حديثا، ولم يرد عن عمر وعلي رضي الله عنهما إلا خمسمائة ونيف وثلاثون حديا، عن كل منهما. “وحسبُ المرأة فخارا أن تكون قد اختيرت لوضع أول مصحف في الإسلام، في حفظها وذمتها، وذلك يدل على ثقتها ومكانتها في الدين، وأهليتها لتحمل العلم وأمانته، فإن الصحف التي جمعها أبو بكر رضي الله عنه، دفعت إلى حفصة بعد أبيها رضي الله عنهما، فظلت عندها إلى أن طلبها منها عثمان رضي الله عنه، حين اعتزم كتابة المصاحف كما هو معلوم.
لقد حظيت المرأة المسلمة عبر التاريخ بنصيب وافر من التقدير والاحترام، ولا سيما في العصور الأولى من عمر الإسلام، لكون النساء كان منهن العالمات والفقيهات والأديبات والمعلمات والصوفيات والمحدثات والطبيبات، غير أننا في هذا المقال سنركز على النساء الصوفيات، نظرا لكون التصوف في التمثلات الشائعة يقتصر على ذكر الرجال وكأن هذا المجال لا حظ فيه للمرأة، ولا ذكر لدورها فيه، مع أنها في الواقع أسهمت فيه بشكل جلي، وكانت وراء ظهور عدد من المتصوفة المشاهير، ومع ذلك تعرضت لكثير من التهميش، فقد تداولت كتب المناقب والتراجم والكرامات صفة “الكامل” و”الكمال” مرتبطة ببعض الرجال، في حين لا نجد للمرأة نصيبا من هذا الوصف أو نعتا يفيد التكمل مثلما شاع ذلك في وصف رجال التصوف، ومن ثم يحق التساؤل عن مكانة المرأة في التصوف.
لقد كانت المرأة حاضرة بقوة في العرفان الصوفي، ولم يكن حضورها عابرا أو تجسيدا لإنسان عادي له دور اجتماعي معلوم، بل شكَّلت المرأة “تجسدا للحب الإلهي الذي يحيل إلى تجلي العلو في الصورة الفيزيائية المحسة، وشفرة استيطيقية توحي بانسجام الروحي والمادي، والمطلق المقيد في الأشكال المتعينة، حيث تحولت المرأة لرمز استخدمه الصوفية بذكاء للتعبير عن تجربة روحية ذوقية، ولذلك لا عجب أن تحضر المرأة في أدبيات التصوف بشكل لافت للنظر، لتؤسس أصلا من أصول التصوف، حيث الارتباط المشيمي بالأنثى يفسر ضرورتها في التجربة الصوفية، وهو ما أكده ابن عربي حيث قال بأن: “المرأة صورة النفس، والرجل صورة الروح، فكما أن النفس جزء من الروح، فإن التعين النفسي أحد التعينات الداخلة تحت التعين الأول الروحي الذي هو آدم الحقيقي، وتنزل من تنزلاته، فالمرأة في الحقيقة جزء من الرجل، وكل جزء دليل على أصله، فالمرأة دليل على الرجل”، وهكذا شكَل الشوق والحنين والافتتان بالمرأة مجالا خصبا لخيال الصوفي كي يسبح في عوالم فسيحة من الإبداع، أهلته لإنتاج تراث أدبي خلاق لا نظير له، حيث الحضور الأنثوي كان وسيلة وغاية في الكتابات الصوفية، وفتح بابا للجمال والجلال في اللغة والفكر الصوفيين، حتى إن قراءة شعر ابن عربي دون استحضار خلفية صوفية في التأويل تجعله لا يختلف عن شعر أبي نواس في بعض أشعاره الغزلية، كما لا يبتعد كثيرا عن شعر أبي العلاء المعري في شعر الحكمة، ولا يختلف عن شعر أبي العتاهية في شعر الزهد، وهكذا فإن التأويل الصوفي للأنثى في أدبيات التصوف هو ما يعطي للأدب الصوفي خصوصيته، وإلا فإن دلالة المرأة واحدة، ولكنها في التصوف تأخذ معاني جديدة مختلفة عن المألوف والمتعارف عليه، وهو ما يفسر المدونة الغنية من الكتابات الصوفية التي تتحدث عن المرأة، باعتبارها فاعلا في الوجود متحكمة في الرقاب والمصائر، كما قال الشبلي:
لها في طرفها لحظات سحر تميت بها وتحيى من تريد
وتسبي العالميـن بمقلتيــهـا كـأن العالميـن لها عـبـيــد
من الواضح حجم “الحضور الأنثوي في التجربة الصوفية”، حيث شكلت المرأة بؤرة هذه التجربة، منطلقا وموئلا، وكانت دافعا للصوفية في إبداعاتهم وتحركاتهم، وظلت رمزا مقدسا، تحيطه هالة التعظيم والقداسة في جل نصوص القوم.
إذا كان رجال التصوف يتصدرون الميدان، وينتشر صيتهم في الآفاق، فإن ذلك لا يعني أنهم قد عاشوا حياة عزلة عن النساء، بل كانت المرأة حاضرة بقوة في حياة الصوفية، واستطاعت بأدوارها المتعددة أن تحقق القول الشائع: “وراء كل رجل عظيم امرأة”، فقد كانت المرأة المتصوفة زوجة للولي الصالح وأمًّا للولي فيما بعد، كما أسهمت في تربية المريدين الذين صار منهم أولياء.
يبرز دور المرأة في التصوف بشكل جلي من خلال المهام التي كانت تقوم بها، فإذا اشتهر رجال التصوف بالذكر والجهاد والتعليم والإرشاد، فإن المرأة قد قامت بالأدوار نفسها، وجمعت إلى جانبها أعمالا أخرى كإعداد الطعام وعلاج المرضى والاعتناء بالزوايا وتربية القادة، فضلا عن توجيه النساء وتعليمهن أمور دينهن.. فكانت بذلك العنصر الأكثر أهمية في مجتمع الصوفية، وعلى الرغم من عطاءاتها الكبيرة، إلا أنها لم تلق التقدير اللازم والاعتناء الواجب من المجتمع، وهو ما يفسر غياب أسماء مشهورة لنساء متصوفات، فلا يعرف العالم اليوم إلا المرأة الصالحة رابعة العدوية، بينما التاريخ قد ذكر نساء صالحات غيرها، فلم يشتهرن ولم يبلغ صداهن الآفاق، مما دفع بعض الباحثين للنبش في تاريخ تصوف المرأة، غير أن الدراسات العلمية في هذا المجال نادرة جدا، فمن بين البحوث التي يمكن أن نستدل بها في هذا السياق، نذكر العمل الذي قام به الباحث مصطفى عبد السلام المهماه، تحت عنوان: “المرأة المغربية والتصوف في القرن الحادي عشر الهجري”، والملاحظ أن معظم الدراسات قد أنجزت باللغات الأجنبية، حيث نجد عمل “مشيل شودكفيسك” (M.Chodkiewics ) الموسوم بـ (La sainteté féminine dans l’hagiographie islamique)، وأعمال الباحثة نـيلي عـمري سلامة التي خـصصـت جـانبا من أبحاثها للنساء الصـوفيـات من خلال: (Les femmes soufies ou la passion de Dieu)، حيث قاربت هذه الدراسات دور المرأة الصوفية في المجتمع وكيف كانت عاملا حاسما في خلق التوازنات وتحقيق الانسجام بين فئات المجتمع، وذلك نظرا لتواجدها ضمن مستويات متعددة من التدخل الاجتماعي والنفسي والتربوي وكذلك الاقتصادي والسياسي في كثير من الأحيان، علما أن هذا الحقل من الدراسة والبحث ما يزال يثير عددا من التساؤلات والإشكالات التي تحتاج في واقع الأمر إلى المزيد من النبش العميق في التراث الصوفي للنساء المغربيات من أجل فهم المحركات الخفية للمجتمع المغربي وبنيته الفكرية العميقة التي تقف وراء مجموعة من العادات المغربية والسلوكات.
يُجمع جل أصحاب كتب التراجم والمناقب، ممن أرخوا للصوفية رجالا ونساءا -قديما وحديثا- على ضياع أخبار العديد من النساء الصالحات اللواتي عُرفن بالعلم والصلاح والولاية، فهذا صاحب كتاب: “التنبيه على من لم يقع به من فاضلات فاس تنويه” يقول في مطلع كتابه: “ومعلوم من شأن أهل هذه البلاد (يقصد المغربية) عدم الاعتناء بالتعريف والتصدي لذلك بتأليف أو تصنيف، فكم من إمام به اعتناء واحتفال، بل ألقي في زوايا الإغفال والإهمال”. ومن ثم، “لا جرم أن الباحث إذا أراد أن يبحث في المرأة العربية المسلمة، فإنه يجد عقبة كأداء لا يذللها إلا إذا مكث ردحا من الزمن، منقبا في بطون الأسفار المطبوعة والمخطوطة، لعله يظفر بطلبته ويدرك حاجته”، نظرا لقلة المصادر التي تتحدث عن سير النساء وتتبع أخبارهن.
إن قلة اهتمام المؤرخين بتتبع أخبار الصالحات من النساء المتصوفات قد أسهم في ضياع أخبار العديد منهن، مما يشكل خسارة لذاكرة المرأة، وعلى الرغم من أن معظم الكتب التي تناولت مناقب الصوفية وجمعت تراجمهم وأخبارهم قد تناولت سير بعض النساء وأخبارهن إلى جانب الرجال إلا أن التركيز كان واضحا على الرجال دون النساء، ولم تكن تُذكر المرأة إلا إذا كانت زوجة لولي لها فضل كبير على زوجها، أو كانت أما لولي ربته وأنشأته نشأة صالحة.. حيث لا يتم ذكر المرأة المتصوفة في كتب التاريخ إلا إذا كانت أعمالها وإنجازاتها استثنائية وغير عادية، في حين توجد نساء أخريات كان لهن دور بارز لكن لم يكن أزواجا لأولياء أو لم ينجبن أولياء فلم يُعرفن ولم يذكرهن أحد.
هكذا نسجل إهمال المؤرخين الذين جمعوا أخبار الصوفية وتراجمهم الحديث عن المرأة بشكل مستفيض، حيث لم يعطوا المرأة المكانة اللائقة بها، ويبدو أن سبب ذلك راجع لعوامل اجتماعية ارتبطت بحصر دور المرأة على أعمال البيت وتربية الأبناء، وكأن المجتمع استكثر عليها القيادة الروحية والزعامة الصوفية، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء”، فالإسلام أعطى للمرأة دورا مهما وبارزا، وهو ما أفسح المجال لها لتبرز كفاءتها وقدرتها على القيادة والإنجاز مثل الرجل وربما أفضل في كثير من الحالات، وهكذا فالمرأة المتصوفة حاضرة في التراث العرفاني بكثافة وإن لم تظهر في الواجهة أو تشتهر علانية.
هكذا، أخذت النساء المتصوفات مكانة مرموقة في مقامات العرفان ويكفي أن تكون آثار كثير من النساء شاهدة عليهن؛ فجامع القرويين الذي يعد أول جامعة في العالم، إنما أسسته فاطمة أم البنين بنت محمد بن عبدالله الفهري عام 245 هـ، بينما أقامت أختها مريم جامع الأندلس الذي كان ينافس جامعة القرويين حوالي القرن الرابع الهجري، وقد برزت في هذا الميدان الأميرة الحسنى بنت سليمان النجاعي زوجة المولى إدريس الثاني، وعاتكة بنت الأمير علي بن عمر بن المولى إدريس زوجة الأمير يحيى التي كان لها دور بارز في تحرير مدينة فاس عام 281 هـ، حيث إن حضور المرأة في مجريات الأحداث التاريخية الكبرى كان حضورا فاعلا ومؤثرا وموجها لكثير من الأحداث، مما يؤكد ريادة المرأة دينيا ووجدانيا.