بقلم: عادل عطية
كان غريب الأطوار، مما جعلني أتبحّر من أجله: في علم الإجتماع، وعلم النفس، والتخصص في سيكولوجية الرجل. وكم كانت سعادتي بالغة يوم عثرت على نسخة من كتاب: “مباريات سيكلوجية”؛ معتقداً انني سأجد على صفحاته، تفسيراً لتلك المباراة التي يلعبها معي زميلي في العمل، لكني اكتشفت أن هذا الزميل، كان سابقاً لعصره في لعبته، فلم أجد لها مثالاً في هذا الكتاب، ولا في غيره من الكتب. وأستقر في يقيني أن النفس البشرية أعمق وأغلق مما كنت أتصور!
كنا، أنا وهو، في نهاية دوامنا، نترافق معاً؛ فطريقنا القصير واحد: أنا أذهب إلى محطة القطار للرجوع إلى مدينتي، وهو يعبر الجانب الآخر من المحطة، للذهاب إلى بيته. وخلال هذه الدقائق المعدودة، كنا نكسر حدة الصمت، بتجاذب أطراف الحديث، وعند الافتراق، نشد علي ايدينا بمنتهی الود والحميمية!
ذات يوم، بادرته بتحية اليوم الجديد، قائلا: “صباح الخير”.. لكنه تجاهل تحيتي، وكأنه لم ينتبه إليها، فأعدت عليه التحية مجدداً، فلم يرد كذلك، لا بأحسن منها، ولا بمثلها. وعندما كررت عليه التحية للمرة الثالثة، فاجئني بهذا الرد المذهل: “صباح الزفت والقطران”!
انسحبت مصدوماً دون أي كلمة أخرى، وجلست إلى مكتبي، وأنا أسأل نفسي ألف سؤال وسؤال، باحثاً في تلافيف دماغي وفي عمق ذاكرتي، عسى أن أجد ما يبرر تصرفه البغيض هذا. وعندما اعتزلت عنه، فوجئت بأنه يتودد لي مجدداً، ليكرر معي، بعد فترة، ذات القصة السخيفة التي يبدو أنها لا تنتهي. وفهمت أنه يستمتع بهذه اللعبة اللعينة، حيث يجد متعة بالغة وهو يرى ضحيته تائهة في ظلام فكرها، باحثة عن منفذ يقودها إلى معرفة السبب، الذي يُبطل العجب!
تحية الصباح هذه، ذكّرتني بتحية مسائية أبتكرها أحدهم، وتقول: «میت مسا»، يعني: «مئة مساء»، وهي صيغة مبالغة لكلمة لا تصلح كتحية؛ لأن الليل يحمل معاني سلبية في أذهاننا، ومع ذلك نتقبلها؛ لأننا استوعبناها في سياقها المبتكر، وتعني مئة تحية مسائية!
وهذا هو الفارق بين من يجعل من الحروف الناطقة بالرقة أشواك حادة، ومن يجعل من خشونة المعاني تحية رقيقة!…