قصة قصيرة بقلم : سوسن شمعون
في يومٍ شتوي غائم كانت السيدة عائدةً من عملها في المساء حينما التقت ذلك المسن الذي يتردد على الحي منذ مدة ويقتات مما يعطيه له الناس هناك , كان يجلس على ردهة بيتها و يرتجف من البرد و يأخذ ببعض الأغصان يحرقها ليسرق شيئاً من الدفء , و تلك السيدة كانت لا تعرف عنه شيئاً إلا أنها تحاول دائماً إعطائه ما يسد به رمقه , دخلت منزلها و في نيتها أن تهيئ له بعض الطعام و تمنحه لباساً يقيه قسوة الشتاء , نادت ابنها ليساعدها فسألها الصبي بفضول : لماذا نعطي الطعام لغريب ؟ فردت عليه أمه : هو محتاج وليس ضيراً أن نساعد المحتاجين و إن كانوا غرباء فالجميع إخوة . فتحمس الولد و أخرج طعاماً و رداءً صوفياً قديماً ليعطيه لذلك المشرد , فأخذهم الشيخ بفرحٍ طفولي , و بدأ يأكل بنهم , اندهش الصبي من فعل الفقير فسأله ببراءة : ماذا تفعل في هذا الوقت هنا ولما لا تذهب لبيتك ؟ توقف الرجل عن الأكل و دون أن ينظر للولد قال : بيتي تهدم و أهلي كلهم ماتوا إلا ابني . فعاد الولد لفضوله و سأله عن ابنه : أين هو ولماذا ليس معك ؟ رد عليه الشيخ بشيءٍ من الفخر: ابني يقاتل مع المجاهدين ضد الكفار و أنا أنتظر عودته ليعينني ولكن لا بأس فهو الآن في الجهاد المقدس و إن لم يعد فيمكن أن يكون قد استشهد. ذهل الصبي مما سمعه و تذكر تلك القذيفة التي أودت بحياة والده و راعه حديث ذلك الكهل عن الجهاد المقدس , فالتفت عائداً إلى داره دون أن ينبس بكلمة , فبادره العجوز بسؤاله : و أنت ماذا عنك و أين والدك . فأحس الصبي بالغضب يملأ نفسه و صرخ بالعجوز بصوتٍ تخنقه الغصة : أبي قتله جهادكم المقدس , وقبل أن يغلق الباب بعنف قال بلهجة المتألم المتعلم : أخبر ابنك أن أولئك الكفار لم يتركوك حين تركك هو تعاني زمهرير الشتاء و حر الصيف و ألم الجوع و الحرمان , أخبره أنهم يعرفون الله أكثر منه و يهبون لمساعدة الغرباء لأن الجميع إخوة . و ركض الصبي لبيته متألماً لمنطق ذلك المتشرد تاركاً إياه حائراً بكلامه و ضائعاً بين تساؤلات كثيرة لا يدري أجوبتها لقلة وعيه و لا يعلم إن كان ابنه الذي أهمله هو من قتل والد ذلك الفتى أم ماذا , هي فوضى هذا الزمان , هي تسميات يتبادلها الجميع دون إدراك لفحواها و مرامها , من منا يحتاج للمساعدة فعلاً ومن دمر بيوت و أحﻻم الناس ؟ من منا القاتل و المقتول ؟ من رمى بذلك المسن في محنة التشرد و من حرم هذا الطفل من أبيه ؟من منا يجاهد حقاً ؟ و هل أصبح معنى الاستشهاد فضفاضاً لهذه الدرجة ليقال على كل من يموت قتﻻ ؟ هو تشتت في المصطلحات و منطق جاهلي الغاية و تصرفات رعناء لا يعي أصحابها أبعادها ولا يعرفون نتيجتها , هو إن فهمها أحدكم الفرق بين الجهل و الوعي .