بقلم: محمد منسي قنديل
لم اشهد باسم يوسف في القاهرة، ولم اتعرف عليه رغم أنني كتبت عنه أيام معركته مع الاسلامين عندما اهدروا دمه، كان واجبا ان اقف معه وانتصر له، فمن العبث أن تظل قوانين القرون الوسطى سارية في مصر حتى الآن، أن يهدر دم صاحب الرأي المخالف أو يسجن أو ينفى عن بلده، وقد جرب باسم نوعين من هذه العقوبات، هدر الدم ثم النفي، ولو انه بقي قليلا لجرب العقوبة الثالثة، وهذا ما جعلني أراه في مونتريال وليس في القاهرة، مع فارق وحيد، كان هو يقف على المسرح ليقدم عرضه، بينما أجلس أنا في مقاعد المتفرجين اضحك واصفق له بعد أن دفعت ثمن تذكرتي.
مونتريال في العادة مدينة باردة، حتى قبل أن تسقط الثلوج، فالريح السريعة والسماء العارية من السحب تكون أكثر قسوة، ولكن هذا لم يمنع المصريين ومعهم العديد من المعجبين العرب من التجمع أمام مسرح «ريالتو» يوم الجمعة، تقريبا في الموعد نفسه الذي كان يقدم فيه باسم برنامجه التلفزيوني، قبل أن يتوقف وتتوقف معه واحدا من أسباب البهجة في مصر، اذكر انني في واحد من أيام الجمع هذه كنت مدعوا للظهور في أحدى المحطات التلفزيونية، وبينما كنت انتظر فوجئت بكل شاشاتها تتحول إلى برنامج باسم يوسف، لم يعد احد من العاملين في القناة يشاهد ماذا يجري في قناته، ولم يعد هناك من يقول لي في أي لحظة سوف اظهر ولا في أي اتجاه سوف اذهب، ولم تمض لحظات حتى انطلقت ضحكات الجميع، وكان هذا غريبا أن اجد هذا في محطة منافسه اثناء عملها، ولكن هذا كان بعضا من سحر باسم يوسف، فسواء كنت معه أو ضده ، تتفق في اراءه أو تختلف معها، كان يهب للناس لحظات من المرح لا يمكن قياسها، حتى المنتخب القومي لكرة القدم في عز مجده لم يكن قادرا على صنعها، ولكن مزاحه كان شديد الوطأة على البعض، الذين كانوا ومازالوا اسرى التجهم بدعوى أن الضحك يميت القلب. ثم تداخلت عوامل كثيرة وتصاعدت الضغوط حتى توقف البرنامج.
لم يتوقف برنامجه فقط، ولكنه اصبح مطاردا، مطلوبا للسؤال أمام أجهزة التحقيق، وبالغ خصومه بتوجيه العديد من التهم إليه، وتم حشد عددا من «المواطنين الشرفاء» الذين لاهم لهم إلا الوقوف على أبواب مسرحه لسبه واتهامه بالعمالة وتلقي مبالغ خرافية، وبدا أن التهديد لن يتوقف عند حدود الالفاظ العدوانية ولكنه سيتحول عاجلا للعنف البدني، واعتقد أن المسرح قد اغلق ابوابه في الوقت المناسب قبل أن يقوم «الشرفاء» بإحراقه، ومن حسن حظ باسم أنه افلت في الوقت المناسب.
كان الزحام شديدا، ملأ كل مقاعد مسرح «ريالتو» الذي لا يتسع إلا 800 متفرجا، وهناك الكثيرون من شهدوا العرض وقوفا، الامر الذي دفع المنظمون للأعداد من اجل إقامة حفل آخر على مسرح أكبر حجما، وعندما كنا جالسين في انتظار ظهوره كنت أتساءل ماذا سيفعل وحده على خشبة المسرح، عندما كان يذيع برنامجه كان خلفه فريق ضخم من المعدين والكتاب والممثلين ونجوم الفرق الاستعراضية، ولكنه يقف الآن مجردا من كل عوامل الجذب إلا تاريخه الشخصي، هل يمكن أن يواصل الحديث على مدى ساعة كاملة؟ كان قد سبق أن قدم هذا العرض في تونس وفي بيروت، مدن عربية قليلة ونادرة تلك التي تتحمل ظهوره على خشبة مسارحها، وفي كل مرة تتدخل السلطات لمنعه، أي ان ما يحدث في مونتريال ربما كان مناسبة نادرة لن تتكرر كثيرا، المهم أن باسم يوسف ظهر على المسرح أخيرا، او بالأحرى قفز إليه وسط تهليل الجمهور المتحمس، رغم اسلوبه المرح وروحه العالية كانت أثار الإحساس بالمنفى قد ظهرت واضحة عليه، ولم يكن وحيدا كما توقعت ولكن كانت خلفه شاشة مضيئة تساعده، يعرض عليها كل الصور والفيديوهات التي تؤكد كلماته، بالاستعانة بها بدأ يري قصة الخمس اعوام الأخيرة من حياته، بأسلوب لماح مليء بالقفشات الذي لا يجيده سواه، كان موضوعيا إلى حد كبير وشجاعا كالعهد به، ومازال مؤمنا بالثورة وهذا افضل ما في الأمر، ولكنه لم يستطع أن يخفي مرارته جراء ما حدث له، كان هو الطبيب جراح القلب الذي ينتظر «فيزا أمريكا» حتى يسافر إليها ويكمل دراسته، مشروع شخصي بحت، ولكن ثورة 25 يناير تشتعل، الحلم الذي انتظرته أجيال كثيرة، ويهبط إلى الميدان ضمن وفد من أطباء القصر العيني ليضمد جراح ضحايا «معركة الجمل»، كان ما رآه فوق التصور، وكان الشباب المصري قد دفع الثمن غاليا على يد الشرطة والبلطجية، لم يستطع باسم ان يبعد هذه الصور عن ذهنه حتى بعد أن غادر الميدان، امسك كاميرا الفيديو الخاصة بالهواة وربطها في ذراع أحد المقاعد وجلس أمامها وأخذ يتكلم، يدافع عن الثورة التي يجري تشويهها في أجهزة الاعلام الرسمي، وعن الشباب الذين كانوا يصارعون الموت، ومع ذلك لا تكف هذه الأجهزة عن التنديد بهم واتهامهم بالعمالة، كانت الثورة في مفترق الطريق ، في اشد الحاجة لمن ينصرها في وجه غوغائية السلطة واجهزتها، وجد باسم لنفسه مكانا على الفضاء الافتراضي، وصلت رسائله المتوالية للجميع، لشباب الثورة على وجه خاص، وردت له الثورة الجميل، لم يعد وحده، وهبت له بعضا من كوادرها الفنية، في الاعداد والمونتاج والإخراج، تحولت الرسالة الصغيرة إلى عمل فني لافت للأنظار، وقدمت له أحدى المحطات التلفزيونية عرضا لتقديم البرنامج على شاشتها، وفي اليوم المحدد لتوقيع العقد جاءت من أمريكا «الفيزا « التي كان ينتظرها، وكان عليه ان يختار، استكمال دراسته والعودة للطب، ام الجري وراء شهوة الشهرة والاعلام، لم يطل به التردد طويلا، اختار ان يبقى في مصر ويبدأ رحلته المليئة بالنجاح والعثرات، الطريق الذي قاده فيما بعد للمنفى، دخل الزمن المصري المضطرب المفعم بالحلم والخسارة، تعرض لحالات المد والجزر الذي تعرضت له الثورة، اصبح عنوانها وضحيتها، تقلبت حظوظه مثلما تقلبت مصر بين الايدي دون أن تملك من امرها شيئا، وقعت في قبضة المجلس العسكري، ثم خرجت من بين أصابعه لتقع فريسة للتيار الديني، ثم تعود صاغرة وكأنه عود على بدء، استعرض باسم هذه المراحل من خلال اللقطات التي اختارها من حلقات برامجه، مضحكة ومبكية، كأحوال مصر ، على رأي عمنا المتنبي.
ولكن لابد من ملاحظة حول اللغة التي يستخدمها باسم يوسف وهو يواجه جمهوره، اعرف أن اللعب على الجنس هو اشهر أدوات السخرية، ولكنه استخدم الالفاظ البذيئة كثيرا، وسمى الاعضاء الجنسية بأسمائها الصريحة، ولا ادري هل اختار هذا عامدا للحصول على اكبر قدر من الضحكات أم ان هذه لغته العادية، انها لغة سوقية تبدو غريبة على طبيب وجراح، على نجم أصبحت له شهرة عالمية، لقد تسنى لي أن اراقب وجوه بعض المتفرجين من النساء، الكبيرات منهن في السن كن ممتعضات، ولكن الصغيرات كن اكثر استمتاعا واقل تحفظا، أنه فارق الأجيال كما يبدو ولكني اعتقد ان هذا عيب كبير، عليه آلا يهبط إلى مستوى الابتذال وأن يرتقي بلغته إلى مستوى القضية التي يحملها.
على أي حال لقد اسعدني كثيرا أنني عشت هذه اللحظات مع عرض باسم يوسف.