بقلم: محمد منسي قنديل
عندما كنت اقوم بزيارة صديقي محمود قاسم، كان يجب أن امر خلال واحدة من أكثر مناطق القاهرة ازدحاما، في مدخل شارع عباس العقاد، الشارع المختنق بالبشر والمحلات والسيارات، وعندما استطيع الافلات منه، فإنني ادخل إلى واحد من اكثر الشوارع هدوءا حيث يوجد مسكنه، كأنني فجأة قد انتقلت لعالم آخر، ولابد أن هدوء الشارع قد انعكس على شخصية صديقي محمود الذي يبدو دائما في حالة تصالح مع ذاته، هو الذي عرفني بالمحل السوري الذي فتح ابوابه في مقابله واصبح زبونا دائما له، كان المحل من المفاجآت الجميلة بالنسبة لي أيضا، لم يكن مزدحما بالبضائع، ولكن فيه اشياء لا تجدها في مكان آخر، جبنة عكاوي وأخرى محلاة، مكدوس، كبة من انواع مختلفة، انواع كثيرة من البقلاوة المحشوة بالفستق والمسقية بماء الورد، كل واشكر وعش العصفور والمعمول، بدا مثل مغارة «علي بابا» بالنسبة لواحد مثلي «شامي الهوى» كما يقولون، أجل أنا عاشق قديم للشام، ولكني كسير القلب ، أشعر بحسرة حقيقية كلما سمعت اخبار القتل وأشاهد صور الدمار، كلما رأيت الشوارع التي تجولت فيها، والبيوت التي استضافتني، وجلست بين أهلها، وشاركتهم طعامهم، وشربت القهوة المغلية وتذوقت مربى اللارنج بالسمسم، أراها وقد تحولت إلى اطلال وخرائب، جريمة في حق أقدم مدن التاريخ لا تخطر ببال بشر، خاصة أن الجزء الأكبر من هذا الدمار قد تم بأيدي اهلها وتواطؤ حكامها، في كل مدينة، وربما في كل حي هناك ميلشيات تقاتل، كمية هائلة من الجيوش والعصابات تتحارب في هذا البلد الواحد المحدود المساحة، كيف يمكن أن يتجاور كل هذا الكم من المقاتلين، ولا ينفجر العالم بهم.
لم يعد أمام المواطن السوري الاعزل إلا الهروب بحثا عن ملاذ، أندفع آلاف الرجال والنساء والأطفال المفزوعين من قسوة داعش، ومن البراميل المتفجرة التي يلقيها عليهم النظام، ومن قسوة القصف الروسي والأمريكي الذان يتناوبان عليهم، تركوا مدنهم وبيوتهم وتشردوا في أرض الله الواسعة، رغم أن اللجوء هو هروب إلى جحيم آخر، فالدول التي يتكالبون عليها ترفضهم، كندا وبعض دول اوروبا استقبلت اعداد صغيرة منهم، واستغلتهم في الدعاية عن وجهها الإنساني، امريكا بعد ترامب رفضت دخولهم ونهائيا ورغم أن حرس الحدود يستطيعون منع اللاجئ السوري ومحاصرته، إلا أنهم لم يستطيعوا مقاومة الأطعمة التي يقدمها، السلاح السري الخاص الذي يستخدمه اللاجئون في مواجهة المتغطرسين الذين يحاولون اغلاق ابواب النجاة في وجهه وقد بدأت محلات الحلوى الصغيرة على استحياء في الضواحي البعيدة، استغل السوريون مفردات حضارة الطعام الذين هم أفضل من يمتلكونها، اصبحت محلات الضواحي كبيرة وهامة يسعى الزبائن من الاجانب لتذوق حلوتها الممتزجة بماء الورد، وقد قال لي أحد الكنديين مندهشا أنه قد ملأ علبة باثني عشرة نوعا مختلفا من الحلوى بمبلغ بحوالي العشرين دولارا، سعر متواضع أمام المخابز الكندية الباهظة، وحتى الآن لا يوجد ما يمكن أن ينافس المطبخ السوري لا في جودته ولا طيب مذاقه، وهو يعطي المواطن السوري المتواضع مكانا مميزا على سلم التحضر.
الجيوش تزحف على بطونها، قول قديم، فالشعوب الآن بأكملها تزحف على بطونها، وهذا السر عرفه السوريون واستخدموه جيدا في مصر كما فعلوا في أماكن أخرى، فهذا المحل الصغير الذي اكتشفه محمود قاسم قد تحول إلى عشرات المحلات والمطاعم في القاهرة والاسكندرية، وهناك منطقة تدعى «دمشق الصغرى» في مدينة 6 اكتوبر كل من فيها من مطاعم ومخابز وبقالات تسير على نفس النهج السوري، فدمشق على خلاف القاهرة من العواصم التي تستيقظ مبكرا، وتفتح كل انواع المحلات قبل أن يذوب ندى الصباح، بينما العديد من محلات القاهرة تظل مغلقة حتى الظهيرة انتظارا للسهر في الليل، للقاهرة منطقها المقلوب خلافا لكل مدن العالم، ولكن السوريون سوف يبثون فيها روحا جديدة، لقد جاءوا في وقت كانت العاصمة العجوز في حاجة إليهم، فالأكل خارج البيت اصبح مأساة حقيقية، باهظ الثمن وتقليدي وبلا طعم، تعده المطاعم دون عناية أو نظافة، معتمدة على أن هناك اعداد كبيرة من الزبائن تحشو بطونها دون أن تسأل، دون تجد لذة في التذوق، ومن المؤكد أن المصريون قد اكلوا كميات هائلة من الاطعمة الفاسدة دون ان يدروا، اكلوا الحمير والقطط وحتى الكلاب، وفي كل يوم تفاجئنا الصحف بضبط كميات كبيرة من اللحوم الفاسدة في مخازن اشهر المطاعم، لذا فقد اصبح الغذاء في أي مطعم مغامرة لا احد يعرف عواقبها، وكثير من المصريين الذين يقيمون في كندا لسنوات طويلة حين يهبطون إلى القاهرة فإن اول مفاجأة تنتظرهم هي النزلات المعوية الحادة، علامة الترحيب في الايام الاولى للزيارة، باختصار مطاعم القاهرة اصبحت سيئة السمعة، وقد جاء السوريون في الوقت المناسب لإنقاذ اهلها من مطاعمهم الرديئة، من اجل هذا استقبلهم الشارع المصري بالترحاب، وفتحوا بيوتهم لطلبات «الدليفري» التي يوصلونها إلى كل مكان.
الاشقاء في سوريا ليسوا شعبا عاديا، أنهم حملة حضارة قديمة انارت ظلمة البشر، استمدوا مفردات مطبخهم من تنوعهم الجغرافي، ومن انفتاحهم على العالم، كانت سوريا هي نهاية طريق الحرير، المحطة الأخيرة لكل القوافل القادمة من الهند والصين، لذلك كانت تلك الرقعة الصغيرة من الارض في تفاعل دائم مع اصناف البشر بكل ما يحملون من ثقافات، وكانت بثقلها الثقافي عبر الازمنة هو التحدي الأكبر في وجه الوجود الاسرائيلي المؤقت في المنطقة، إسرائيل دولة طارئة، تم زرعها في ارض لا تخصها، واخترعت لنفسها تاريخا دون أن تقدم أي اثبات على حدوثه، مجرد كلمات بلا اكتشاف اثري يدعمها، بينما توجد سوريا بحضارتها الراسخة وآثارها الرومانية والمسيحية والإسلامية، فأي عمود في المسجد الاموي هو اطول عمرا من اسرائيل بمئات السنين، ورغم ما مر بها من ظروف صعبة، وما قاسته من حكام كانوا اقل من قيمها، واحتلال جزء من ارضها، فلم تستسلم أو تطوع نفسها لرغبات اسرائيل، ظلت الصخرة المناوئة التي تتكسر عليها عروض الاستسلام الذين حاولوا فرضه عليها، من اجل هذا تم عقابها وضربها بقسوة، ومن المؤسف أن نظامها هو الذي هيأ الظروف لكل هذا الدمار، ولكن هذا لن يستمر طويلا، سوف يستعيد السوريون صلابتهم ويعودون ليتخلصوا من الانظمة التي قمعتهم والجيوش التي دمرتهم ويعاودون صنع الحضارة من جديد.