بقلم: د. حسين عبد البصير
مدير متحف الآثار والمش رف على مركز
د. زاهي حواس للمصريات-مكتبة الإسكندرية
يعتبر عصر الفرعون الشمس الملك الأشهر أمنحتب الثالث (ويعنى اسمه «آمون سعيد») واحدا من أعظم عصور الفن فى مصر القديمة قاطبة، إن لم يكن أعظمها على الإطلاق، وواحدا من أعظم عصور الفن فى تاريخ العالم القديم كله، وأيضا فى سجل تاريخ الفن العالمى.
وورث الفرعون الشمس الملك أمنحتب الثالث إمبراطورية كبيرة فى قمة المجد والثراء والقوة عن أجداده الملوك الفاتحين العظام أمثال أحمس الأول وتحوتمس الأول وتحوتمس الثالث وأمنحتب الثانى وتحوتمس الرابع. وحكم الملك أمنحتب الثالث (منذ حوالى 1410 إلى 1372 قبل الميلاد) الدولة المصرية العريقة حوالى ثمانية وثلاثين عاما، وكان الملك التاسع من ملوك الأسرة الثامنة عشرة من عصر الدولة الحديثة، عصر الإمبراطورية المصرية القديمة، سيدة العالم القديم أجمع. واعتلى العرش بعد وفاة أبيه الملك تحوتمس الرابع فى سن الثانية عشرة تقريبا. وكانت أمه زوجة ثانوية تدعى «موت إم ويا». وشهد عهده رخاء وازدهارا كبيرين ليس لهما مثيل.
ومن اللافت للنظر أن الملك أمنحتب الثالث احتفل بعيد «سد» أو «حب سد» ثلاث مرات فى فترة حكمه البالغة حوالى ثلاثين عاما، وذلك فى الأعوام 30/31 و33/34 و37. وعيد «سد» كان هو «العيد الثلاثينى» وفيه كان يحتفل الملك وأهل مصر عادة بذكرى مرور ثلاثين عاما على جلوس الملك ع
لى عرش مصر، ومن خلاله كان الملك يستعيد شبابه وحيويته وقوته ويؤكد على أهليته القوية وشرعيته لحكم مصر الدولة القوية. وكانت هذه الاحتفالات تجرى فى طيبة. ومن خلال هذه الاحتفالات والطقوس المصاحبة لها –خصوصا فى احتفاله الأول بـعيد «سد»– أكد الملك أمنحتب الثالث على فضل آلهة مصر الكبار عليه، خصوصا آلهة الشمس التى كان يربط بين ذاته الملكية التى قدست فى حياته وذواتهم الإلهية المقدسة دوما.
وتعد الملكة تى هى الزوجة الرئيسة للفرعون الشمس الملك أمنحتب الثالث. وقد تزوج منها فى العام الثانى من حكمه. وكانت تى سليلة واحدة من إحدى عائلات نبلاء البلاط الأثرياء وتحديدا من مدينة أخميم الواقعة حاليا فى محافظة سوهاج فى صعيد مصر الجوانى. ولعبت تى دورا كبيرا فى حياة وفترة حكم زوجها الملك الشمس وأنجبت له وريثه وولى عهده الفرعون الموحد والملك الفيلسوف أمنحتب الرابع/أخناتون (فى ما بعد) وعددا من الأبناء والبنات. وفى العقيدة الدينية والملكية لفترة حكم الفرعون الشمس، اعتبرت الملكة تى إلهة السماء الأم، بينما اعتبرت بنات الملك بنات إله الشمس مما يؤكد على رغبة الفرعون الشمس العارمة فى اقتباسه لنفسه صورة إله الشمس فى شخص الملك أمنحتب الثالث المؤله فى حياته الدنيا. ويعد أمنحتب الثالث من بين الملوك المصريين القلائل الذين قدسوا فى حياتهم مثل الملك سنوسرت الثالث من قبله والملك رمسيس الثانى من بعده.
وتشير الآثار الملكية وغير الملكية من عصر الفرعون الشمس الملك أمنحتب الثالث إلى أهمية زوجته الملكة تى طوال فترة حكم زوجها؛ فقد عثر على عدد كبير من التماثيل فى أحجام ومواد مختلفة تصور الملكة تى مع زوجها، بينما تظهرها النقوش تساعده فى كثير من طقوس العبادة، وتشاركه فى الاحتفالات خصوصا الاحتفال المعروف بعيد «سد». ووصف أحد النصوص الملكة تى بأنها ترافق الملك أمنحتب الثالث مثل الإلهة ماعت حين ترافق إله الشمس رع.
ومن أبرز ملامح عصر الفرعون الشمس الملك أمنحتب الثالث الفنية ما يعرف بـ»الجعارين التذكارية» التى أنتجت فى عصره بكثرة لتمجد الملك وتعظم من شأنه فى مصر وخارجها ولعل الملك أهداها لكبار شخصيات الدولة من رجال بلاطه العديدين. ومن بينها أكثر من ستين جعرانا تذكر الفرعون الشمس الملك أمنحتب الثالث وزوجته الملكة العظيمة تى وتعرف بـ»جعارين الزواج»، وتحتفل ست منها بزواجه من أميرة من بلاد ميتانى فى بلاد الشام. بينما يذكر حوالى إثنى عشر منها شق بحيرة للراحة والاستجمام فى بركة هابو (فى طيبة الغربية) أقامها الملك حبا فى زوجته الغالية قوية الشخصية والحضور الطاغى الملكة الذكية تى، ومن بينها أيضا ما يمجد صولات وجولات الملك أمنحتب الثالث فى صيد الثيران والأسود.
ووصف الملك أمنحتب الثالث بـ»قرص الشمس المشع» وعرف بلاطه بالعظمة وصار مضربا للأمثال بالثراء المبهر. واختار رجال بلاطه وكبار رجال دولته من عائلات النبلاء القديمة تماشيا من سياسته القائمة على اختيار أصحاب الدم الأزرق فقط لإدارة دولته الشاسعة. وبعد الوفاة المبكرة لولى عهده الأمير تحوتمس، أصبح الأمير أمنحتب (أمنحتب الرابع/أخناتون بعد ذلك) وليا للعهد ثم صار ملكا على مصر بعد وفاة أبيه الفرعون الشمس.
وأقام الملك أمنحتب الثالث عددا كبيرا من المشروعات المعمارية العظيمة لم يبق منها سوى القليل مثل معبده الجنائزى الكبير الخاص بعقيدته الأخروية الذى تم تشييده فى طيبة الغربية الذى بقى منه تمثالا ممنون الشهيران المصنوعان من حجر الكوارتزيت اللذان كانا موجودين على مدخل المعبد وعدد من الآثار المكتشفة حديثا بواسطة بعثة المعهد الألمانى للآثار بالقاهرة. ويعد هذا محطما تماما. وقد حاول الملك أن يقلد الملوك السابقين عليه فى هذا المعبد الذى كان ضخما والذى أقامه الملك للاحتفال بالعيد الثلاثينى لجلوس الملك على عرش مصر. وكان هذا المعبد يحتوى على عدد كبير من التماثيل يقدر عددها بالمئات إن لم يكن بالآلاف المنحوتة من عدد متنوع من الأحجار الصلدة والسهلة.
ويعتبر معبد الأقصر واحدا من أهم آثار مصر الفرعونية والفرعون الشمس الملك أمنحتب الثالث المعمارية الكبرى الباقية إلى الآن، وكذلك فهو واحد من أكبر الأبنية المعمارية على الساحل الشرقى للنهر الخالد: نهر النيل، دون شك، علاوة على معابد الكرنك. وعرف فى اللغة المصرية القديمة بـ»إيب رسيت» بمعنى «الحرم الجنوبى». وبنى المعبد من الحجر الرملى النوبى المجلوب من محاجر جبل السلسلة فى أسوان. وفى هذا المعبد نُحتت تماثيل الملك أمنحتب الثالث الممتازة من الجرانيت الأسود والأحمر لكن بالأسلوب التقليدى الرسمى دون أن تظهر مكنونها الداخلى الذى كان يريد الملك إرساله إلى مشاهدى تلك التماثيل. وفى هذا المعبد تم تصوير وتسجيل ما يعرف بقصة الولادة الإلهية والتى تأسس لشرعية حكم وملك الملك أمنحتب الثالث من خلال نسب نفسه إلى المعبود الأكبر آمون كى يصبح حكمه شرعيا للبلاد نظرا لميلاده من زوجة ثانوية لوالده الملك تحوتمس الرابع. وزاد الملوك اللاحقون على هذا المعبد خصوصا الفرعون الذهبى الملك توت عنخ آمون والملك رمسيس الثانى الذى تزين تماثيله الضخمة المعبد وكذلك إحدى مسلاته الموجودة أمام الصرح الخارجى للمعبد والتى توجد أختها فى ميدان الكونكورد فى عاصمة النور مدينة باريس الفرنسية.
وكذلك أمر أيضا الملك أمنحتب الثالث بتشييد أعمال ضخمة فى الأقصر ومدينة هابو وأماكن عديدة كان من بينها نحت أكثر من خمسمائة تمثال لإلهة طيبة المعروفة الربة سخمت فى معبد الإلهة موت بالبحيرة المقدسة «أشرو» بمنطقة معابد الكرنك. وأقام الفرعون الشمس الملك أمنحتب الثالث معبد الإلهة موت فى فى منطقة معابد الكرنك، والصرح الثالث بمعابد الكرنك، ومقام مونتو ومعبد ماعت فى معابد الكرنك. وقام أيضا بإضافات مهمة لمعبد الإله جحوتى فى هرموبوليس (الأشمونين فى المنيا فى مصر الوسطى).
وتمتع النبلاء المثقفون جدا، الذين تم اختيارهم بدقة فائقة، فى عصر الفرعون الشمس الملك أمنحتب الثالث بقدر كبير من الثراء والامتيازات من قبل سيدهم الفرعون الذى قدر جليل خدماتهم له ولمصر الأرض المحبوبة. وامتازت مقابر النبلاء من عصره بالعظمة والتفرد وروعة المناظر وثراء الموضوعات وتفردها. وتعد مقبرة رعموزا وغيرها الكثير من بين أهم المقابر القادمة إلينا من هذا العصر الفنى المتميز. وصارت ملامح وجه الملك أمنحتب الثالث نموذجا زخرفيا يحتذى فى الأعمال الفنية لأفراد العائلة المالكة والنبلاء. وسيطر الأسلوب الحسى على المناظر المصورة فى مقابر نبلاء عصر الفرعون الشمس فى طيبة الغربية؛ فنرى فى مقبرة النبيل «خرو إف» مناظر لأميرات أجنبيات يقمن بصب الخمر احتفالا بالعيد «سد» الثالث الخاص بجلوس الملك على عرش مصر المقدس. وتتسم هذه المناظر بالرشاقة والدقة ونعومة التنفيذ وفقا للأسلوب التقليدى فى التصوير المصرى القديم. وصور النبيل الشهير والمهندس العبقرى أمنحتب بن حابو فى أحد تماثيله بأسلوب أكثر واقعية؛ إذ صورت عيناه بجفنين ثقيلين ونحت وجهه ممتلئلا بالغضون والتجاعيد.
وفى النهاية، فإن عصر الفرعون الشمس الملك الأشهر أمنحتب الثالث وروائعه الفنية والمعمارية الفريدة والعديدة والمتنوعة الخاصة بالملك وأفراد عائلته وكبار رجال بلاطه وحاشيته كان بحق خير شاهد على الثراء والجمال والروعة ودقة الأداء وعظمة مصر فى العالمين القديم والحديث على حد سواء. لقد كانت مصر القديمة محظوظة بوجود ملك مثل الفرعون الشمس الملك الأشهر أمنحتب الثالث بين ملوكها من البنائين العظام، وقد كان أيضا الفرعون الشمس الملك الأشهر أمنحتب الثالث محظوظا بحكم دولة عظيمة كمصر سيدة العالم القديم فى ذلك العصر: عصر الإمبراطورية، والتى أعطت له شهرة لا يضاهيه فيها كثير من حكام مصر من الفراعين الخالدين على وجه الزمن المتغير دومًا.