بقلم: اسماء أبو بكر
ليس سهلًا أن أخوض تجربة الكتابة في موضوع الشباب وإشكالية الهوية في وطننا العربي، على الرغم من تروضي على التفكير مرارًا في موضوع لا أعلم كيف يكون منه المَخرج، فقد تكون الكتابات عن الهوية متعددة، ومازالت أقلام من تمردوا على الثوابت وآثروا الخوض فيها؛ لم تجف حتى اليوم..
فقد إحتل موضوع الشباب العربي وهويتهم حيّزًا كبيرًا في الفكر العربي المعاصر؛ نظرًا إلى ما شهدته قضية الهوية في الفضاء الثقافي من تحديات عصيبة فرضها تعدد الانتماءات الإثنية والمذهبية والدينية،والجهوية والوطنية،وغير ذلك كثرة التحذيرات من الانسياق وراء كل ما يصدر عن الغرب -تحديدًا- من أفكار وآراء ومعتقدات، إلا أنّ واقعنا اليوم يُنذر بخطر شديد فيما يخص هويتنا العربية، فالشباب العربي يعاني الآن من أزمة الهوية والانتماء، التي يرجع سببها إلى وجود الشباب في ظل كيانات اجتماعية متعددة ومتعارضة، تبدأ بالقبيلة والطائفة حينًا، وتنتهي بالدين والقومية أحياناً أخرى؛ فالوطن العربى كيان معقد تتداخل فيه عناصر الولاءات المحلية بالولاءات الوطنية، ولا تتطابق فيه حدود الجغرافيا مع حدود المشاعر، ولا حدود السياسة مع حدود الأمة؛ فبالتالي فإنّ تعددية الانتماء وتناقضاته تؤدي إلى حالة من الانشطار في الهوية الاجتماعية، وإلى حالة من التمزق الوجداني عند الشباب العربي الذي تتخاطفه مشاعر انتماء اجتماعية متعارضة ومتنافرة في مختلف المستويات، فمن الواضح أن إشكالية الهوية في عالمنا العربي باتت أمرًا يوضح مدى تعقد إمكان وجود هوية منتصرة تكتنف الحيثيات والخصوصيات والتنوعات في العالم العربي؛ فالأزمة السياسة التاريخية الآن تقودنا إلى الإحباط الشديد، وإلى فقدان الثقة بالذات، وهذه الأزمة عينها أثبتت أنّ ثقافة الهوية في مجتمعنا هي ثقافة جماعة غالبة من البشر ينضمون تحت لواء مذهب، أو طائفة، أو عرق أو عقيدة فكرية،ويتلبسون كل ذلك.
إنّ الهوية العربية لا تنفصل عن الثقافة التي تتغذى منها، بمعنى أنّه في الوقت الذي تتعرض فيه الأمة العربية للغزو عسكريًا،وثقافيًا وإعلاميًا،يبدو أننا بحاجة ملحة للتأكيد على الهوية،والخصوصية الثقافية لأمتنا العربية،خاصة بعد الموقف الحضاري المعاصر، وبعد ما نلمسه من خطر يحدق بها،ويتمثل في تهديد هويتها وطمس معالم شخصيتها الوطنية، والخطر في سطوة وسيطرة العولمة، ولكنها ليست شرًا إذا توجهنا إليها، وإنما الشر فيما تحمله من خطر، فهي تشمل الإنسانية جمعاء، وتتيح للإنسان حقه في التميز، وغير ذلك من تحقيق الذات،وفرص التمتع بالإنجازات و المزايا العالمية، إلا أنّ هذه القيم في أسمى معانيها لا تتحقق من خلال ما تبشر به بعض الدول الغربية، وما تجنده من إجراءات سياسية، واقتصادية، وثقافية، وإعلامية و تربوية وغيرها، فإنّها تحاول فرضها كنظام سياسي اقتصادي ثقافي على العالم كله، فنحن اليوم نريد أن يَحظى كل منا بهويته في ظل التحديات الجديدة، وفي ظل سيادة العولمة، فهناك من يعتقد أنّ أزمة الهوية ليست حقيقة، وإنّما هي أزمة مفتعلة توجد في الذهن أكثر من تواجدها في الواقع؛وذلك نتييجة التغيرات التي يشهدها العالم المعاصر، وخاصة مع نظام العولمة،فاﻷزمة ليست في الهوية كما يقولون، ولكن في العقل الذي وجد صعوبة كبيرة في القدرة على استيعاب المتغيرات وإنتاج عقل جديد وثقافة جديدة..
في الحقيقة الشباب هم مرحلة اكتشاف للذات التى تدرك أزمة الهوية، والتي يكتنفها شعور بالإغتراب الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي أيضًا داخل أوطانهم،بأخذ صورة الثورة، والرفض لأغلب القوانين والأنظمة القائمة على أثر ما يصادفه الشباب من إحباط وفقدان للثقة بالنفس، مما يزيد شعورهم بالتناقض الذاتي ما بين الرغبة في الاستقلال،وضرورة الاعتماد على الآخرين، وما بين رغبة في الإنغلاق على مفردات الهوية،والحاجة لتكسير كل ما من شأنه أن يعترض انطلاق الطاقة الشبابية، وتحررها.
ومن خلال ذلك يمكن أن نلقي ضوء على اللغة، التى هي أقدم تجليات الهوية، وهي التي صاغت أول هوية لجماعة في تاريخ الإنسان، إنّ اللسان هو الوحيد الذي جعل من كل فئة من الناس -جماعة واحدة- ذات هوية مستقلة، ويُزيد من الاهتمام باللغة والهوية معًا، ويُشيع الحديث عنهما في المفاصل التاريخية في حياة كل الجماعات، ولا مراء في أن اللغة العربية تعتبر بحق أعظم كنز، وأعظم وعاء لحفظ تراثنا القديم الخالد،كما تُعتبر أداة للتفكير والتعبير في آن واحد، ولا نستطيع أن نتخلى في التربية التي تتطلبها حياتنا الحاضرة عن تلك الأداة اللغوية،التي توضح أهدافنا،وأوضاعنا في الميادين المختلفة،ففي الحقيقة نجد أنّ تربية الشباب تحتاج في كثير من الحالات إلى تعبئة القوى، وإيقاظ العواطف، وتنبيه القلوب، فاللغة القومية بما تمتلكه من تعبير مؤثر، وتصوير بارع مثير، بإستطاعتها أن تحقق هذه الغايات المختلفة ،ما نلحظه اليوم من ظواهر سلبية،التى هي أهم الأسباب في ضعف قوة هذه اللغة،ففى الواقع نجد أنّ هذا الضعف يأتي لصالح لغات ولهجات أخرى، ومن ذلك الإعلام الذي باتت العربية فيه تشكو إلى ربها النسيان، وايضا ظاهرة الاختلاط ،فذلك كله يعتبر سلاحًا قويًا يقتل جمالية اللغة العربية وتراثها العظيم، ومن المؤسف حقا انه لايزال في عالمنا العربي المعاصر مَن يعتمد على لغات المستعمر الأجنبية في مخاطباتهم؛ مما يزيد الهوة اتساعًا كبيرًا، ويكرس حالة من الاستلاب الحضاري، مع الوقت سيؤكد أنّ المغلوب مولعًا بتقليد الغالب،ولعل من مظاهر هذا الانحدار ما نراه من مصارعات للأسر العربية؛ لتسجيل أبنائها في المدارس الأجنبية، اعتقادًا منهم أنّ هذه هي الوحدة التي تمنح التميز والتفوق لأولادهم في المستقبل؛ حتى يصير الشباب فيما بعد التخرج فاقدًا لهويته اللغوية وغريبًا عنها،وعن قيمها الحضارية والدينية والثقافية بالاستلزام..
إن العالم العربي اليوم يَمر بموجة شديدة جدًا،من صعود الإسلام السياسي؛فنجد أنه يوظف الدين في مصالح سياسية خاصة، ولكن الشباب العربي لا يقبل بهذا الوضع إطلاقًا،فعندما نتحدث عنهم لا بد أن نستحضر حقيقة واضحة، وهي أنّ مواقف بعض عناصر الهوية تتباين بحسب المستويات التعليمية،والثقافية،ووضعها الطبقي والمهني، وأيضًا الوضع الجغرافي، غير أنّ هذه التفاوتات لا تمنعنا من أن نُقرر اتجاهات عامة تسعف في فهم بعض الظواهر الغامضة، فلا يمكن أن يحقق أى إنسان كائنًا من كان توازنه من غير دين..
وعندما نتحدث عن النماذج المبدعة الحقيقه، فهي تلك التي تنطلق من نسيج الهوية، لا تلك التي تبحث بعيدًا عن الحقيقة، فمن رغب أن يكون حداثيًا، فإنّه ينبغي أن يحذر من تقليد الغرب، فإن موضوع الشباب وإشكاليات الهوية، والحفاظ عليها في أَمَس الحاجة إلى جهود ضخمة، ولا يسع هذا المقال إلى حصرها، لكنى سأذكر رؤوس أقلام للمحافظة على هويتنا ؛ فلابد من غاية وتحليل واستنباط العبر من النصر أو الهزيمة، والتأمل في قصور العقل البشري، فالانتصار والنجاح سيظل دائمًا موضوع فخر وعزة للأجيال المتعاقبة إلى الأبد، والهزيمة ستبقي محل أعتبار القرون المتوالية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والأهم ملئ الفراغ الحضارى الذي وصلنا إليه بترسيخ معارفنا،والعمل على استيعاب القديم بعقل متفتح يعزز من ثقافتهم ، ولا بأس بعد ذلك من الانفتاح على الثقافات الآخرى؛ للإستفادة من علومهم ومعارفهم، ولا بد من تعزيز الأعتزاز بالذات عن طريق تنمية الثقة لدى الشباب في أمته، وحضارته، وثقافته؛ فالأمة التي لا تثق بقدرتها، ولا تقدر ذاتها حق قدرها، لا يمكن إلى أن تكون على الدوام مجرد ظلًا خفيفًا للآخرين يعتمد عليهم، ويتبع لهم في كل شئ، ومن المؤسف أنّ هذا يمثل قمة الفشل والاستسلام أمام الصعوبات التي نواجهها..