بقلم: محمد منسي قنديل
أخيرا اضيف للاتهامات العديدة التي توجه لثورة 25 يناير تهمة جديدة، المدير اعلن رئيس البلاد أن هذه الثورة هي التي دفعت اثيوبيا لبناء سد النهضة، وكأن مصر كانتا في حالة من الاغماء الفعلي على مدى سنوات قبل الثورة وبعدها، ففكرة السد كانت دائما موجودة، ولكن النظام المصري الذي كان دائما يتحكم فيه العسكريون لم يحسن التعامل معها، وما يفعله الرئيس هو القاء عبء المسئولية التي يتحملها هو ورفاقه على عاتق ابناء الثورة الذين لم يحكموا ولو ليوم واحد، ومهما حاول النظام التنصل من كل التبعات فإن سيف العطش مازال مسلطا على رقابنا، مباحثات كثيرة ولقاءات قمة متعددة، وأياد ترتفع بعلامات الانتصار، لكن كل هذا لم يحرز أي نوع من التقدم، بل أن الرئيس نفسه قام بحركة مسرحية وجعل رئيس وزراء اثيوبيا يقسم أمام عدسات التصوبر أن السد لن يضر بمصر واطاعه الضيف باسما وهو يدرك أن هذا أكبر اعلان عن الفشل المصري في إدارة الازمة والعجز عن القيام بأي فعل، وهذه هي الصورة النهائية، مسئولون مصريون عاجزون عن فعل على الأرض، راضخين كالموتى، ومسؤولون اثيوبيون يتلاعبون بهم، يرفضون في ازدراء أي اقتراح يتقدم إليهم، ويواصلون بناء سد النهضة بسرعة تحسدهم عليها الدول المتقدمة، وفي كل مرة ينخفض سقف المطالب المصرية، وبعد أن كنا نطالب اصبحنا نرجو، ولم يبق أمامنا إلا أن نتوسل حتى يستجيبوا ولو لرجاء واحد، فكيف وصلت بنا درجة الضعف إلى هذا الحد؟
لقد اصبحنا ضعفاء لدرجة أننا لا نستطيع الحفاظ على مصدر الحياة الوحيد بالنسبة لنا، ورغم أننا أول أمه في التاريخ أكتشفت الزراعة فإنني نستخذي في خجل أمام اثيوبيا التي تؤنبنا لأننا نسرف في استخدام المياه، ولا نستطيع تطوير أساليب الزراعة القديمة التي تعتمد على الغمر وليس التنقيط، وفي الواقع فإننا نعيش في شح مائي منذ سنوات طويلة، استسلمنا لبوار الأرض وعطش القرى دون أن نفعل شيئا يزيد من ثروتنا المائية، طلبنا من اثيوبيا في ضعف أن نتشارك معها في تنفيذ السد ورفضت، طلبنا منها أن تملأ خزان السد في 15 عاما، وتراجعنا إلى ثمان سنوات ، ثم إلى ست ولكنها واصلت الرفض واصرت على ثلاث سنوات، الأمر الذي سيقضي على زراعة الأرز ويصيب ارض الدلتا بالجفاف، ورغم أن هذا المطلب كان الهدف الرئيسي للمفاوضات الأخيرة في اثيوبيا ، وكان يمكن أن يحل جزءا كبيرا من التوتر ولكن المسئولين المصريين فشلوا في هذا أيضا، ورغم أن هذا الفشل مصيبة داهمه إلا أننا خرجنا لنعبر عن سعادتنا به واعلن مسئول مصري رفيع في ثقة لا توجد ازمة من الأساس.
ولكن توجد ازمة بالفعل، ونحن فيها وحدنا للأسف، اخوتنا في السودان اشقاء واعزاء على القلب ولكن مصالحهم ليست معنا، فالسد مفيد لهم بقدر ماهو ضار بنا، النهر خلف السد العالي متقلب، يفيض أحيانا فيغرق القرى والبلدات الصغيرة، ويغيض أحيانا فيصيبها بالجفاف والموت، ولكن سد النهضة الموجود بالقرب من حدودها الجنوبية سوف يوفر لها استقرار النهر، وسيمنع الطين الذي تحملها مياهه من الترسب على جدران سدودها، والأهم من ذلك كله أنه سيمنحها كهرباء غاية في الرخص، هذا السد كما هو مخطط له سيكون اكبر مصدر للطاقة النظيفة افريقيا، وسيصل سعر الكيلو وات إلى نصف ماهو عليه تقريبا، لذا سيقف السودان بكل طاقته مع هذا المشروع، ولن يكون في مقدورنا أن نقف ضده، والحل الوحيد هو أن نجد مشروعا بديلا.
موقف السودان هذا سيمنعنا من استخدام أي حل عسكري، لا يمكن أن نقوم بأي عمل من هذا النوع إلا بمعونته، لأنه مانع طبيعي وضخم يقف بيننا وبين اثيوبيا، يقف بيننا في الجغرافيا وفي المصلحة أيضا، وسيكون ضدنا على طول الخط، ولكنه ربما يساعدنا في مشاريع أخرى فلا اريد أن نسيء الظن بهذا البلد الشقيق لنا، ولكن هذا ما تفرضه علينا تباعد المصالح، وعلينا أن نفكر بعيدا عن العنف والحروب، خاصة بعد أن هددت اثيوبيا بأننا لو قصفنا سدها فسوف ترد علينا بقصف السد العالي، وساعتها سوف تجد من يزودها بالصواريخ اللازمة، بل ان اسرائيل “الصديق” اللدود قد ساعدتها بتركيب منظومة مضادة للصواريخ..
المشروع البديل موجود وليس فرضا خياليا، فالماء لا يأتي من السماء ولكن من قلب افريقيا، ولكنه لن يأتي إلا بعد أن نهيئ له المسالك اللازمة، وكان من الممكن أن نبدأ في مشروع تعديل النيل قبل أن نبدأ في مشروع تعديل قناة السويس، فهو مجرد ممر مائي، ولكن بدلا من أن نحفره في الشمال لنضيف وصلة بين البحر الأبيض والأحمر هي موجودة بالفعل، ولم تأت بعائدها بعد، كان علينا أن نحفر هذا الممر في جنوب السودان لنصنع منفذا للنيل الأبيض إلى مجرى النهر القادم إلى مصر، أننا نعيش في عطش دائم بينما في الجنوب منا يوجد أكبر خزان للمياه العذبة في البحيرات الكبرى، خزان لا ينفد مهما استهلكنا منه، ومع الأسف لا نستفيد منه، فالنيل الأبيض عندما يصل إلى جنوب السودان يتفرع إلى مئات الافرع، يتحول إلى منطقة شاسعة من المستنقعات غير الصالحة للزراعة أو الحياة، لا يستوطنها إلا ذبابة “التس تسي” التي تجلب مرض النوم، منطقة خطرة لا تنبت سوى الموت، ولا يكاد يصل لمصر شيء من مياهه، ويسعى مشروع قناة جونجلي إلى عمل قناة تستدير خارج منطقة المستنقعات بحيث يصل النيل الأبيض بكل ما فيه من مياه غزيرة إلى مجرى النهر الرئيسي ويحمل لمصر حجما من المياه ضعف الحجم القديم، امل جديد يطفئ عطش الأنفس الظامئة والصحراوات الجافة، بعث يعيد لمصر رقعتها الزراعية المفقودة، مشروع صعب في منطقة بعيدة بعض الشيء، وقد بدأ مبارك في تنفيذه بالاستعانة بشركة فرنسية لولا أن الحرب الأهلية التي اشتعلت في الجنوب أوقفت المشروع، وهي مازالت موجودة إلى حد ما، لذلك فالأمر يتطلب جهدا سياسيا ودبلوماسيا، أن نبذل المستحيل لأن مستقبل مصر وحياتها في هذا المكان النائي.
لا نريد أن يكون أولادنا تحت رحمة أحد، والمستقبل يستأهل عملا جادا، الابتسامات والوعود الغامضة لا تكفي وإذا كانت الإدارة المصرية قد فشلت في إدارة ازمة سد النهضة فأننا نأمل أن تسرع بالبحث عن الحل البديل حتى لا تتحول مصر إلى صحراء جافة.